حدث في الثامن من شعبان وفاة الحافظ زين الدين العراقي

 

في الثامن من شعبان من سنة 806 توفي في القاهرة، عن 81 سنة، الإمام المحدث والحافظ الكبير أبو الفضل زين الدين العراقي، عبد الرحيم بن الحسين العراقي، حافظ عصره وأحد كبار بناة علم الحديث وترتيب قواعده وأصوله.

 

ولد الحافظ العراقي في 21 جمادى الأولى من سنة 725 في حيّ يقال له: منشية المهراني، ويقع على النيل بين مصر القديمة والقاهرة، أما والده الحسين بن عبد الرحمن، فهو كردي يعود أصله إلى بلدة يقال لها رازيان في أربيل في العراق، ولأسرته فيها مناقب ومآثر، وهاجر منها الوالد إلى القاهرة وهو صغير، فعرف بالعراقي، وكان الوالد شاباً تقياً فرغ نفسه لخدمة الصالحين من المشايخ والعلماء، واختص بالشيخ تقي الدين القَنائي، محمد بن جعفر بن بن محمد بن عبد الرحيم، المولود بقوص سنة 645 والمتوفى بالقاهرة سنة 728، والقنائي نسبة إلى قَنا في صعيد مصر، وكان تقي الدين شيخ خانقاه رسلان بمنشية المهراني، ولما كانت أم الحافظ العراقي في المخاض بشر الشيخ القنائي والده بولادة ابنه عبد الرحيم، وقال له: سمِّه عبد الرحيم. يعني باسم جد القنائي الأعلى؛ الشيخ عبد الرحيم القنائي، المتوفى سنة 592، وكان من كبار الصالحين بصعيد مصر، ففعل وسماه عبد الرحيم.

 

وتوفي الوالد سنة 728، وبقي عبد الرحيم في كنف الشيخ تقي الدين القنائي، وحفظ القرآن الكريم وله من العمر 8 سنين، وحفظ كتاب التنبيه في الفقه الشافعي لأبي إسحاق الشيرازي، وأكثر كتاب الحاوي الصغير في فروع الفقه الشافعي، والإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد، و توجه عبد الرحيم في أول أمره لدراسة القراءات واللغة العربية، فأخذ عن عدد من علمائها، وانهمك في علم القراءات حتى نهاه عن ذلك قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، عبد العزيز بن محمد الكناني الحموي، المولود بدمشق سنة 694 والمتوفى مجاوراً في مكة سنة 767، فقد قال له قاضي القضاة: إن القراءات علمٌ كثير التعب قليل الجدوى، وأنت متوقد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره. وأشار عليه بالاشتغال في علم الحديث، فأقبل حينئذ عليه وطلب بنفسه وذلك في سنة 742.

 

وكان الحافظ العراقي من قبل ذلك قد سمع الحديث الشريف، ولكن دون أن لم يتوجه له ويتفرغ لجمعه روايةً وتمحيصه درايةً، وأول سماع له تاريخه سنة 737، وكان أول شيوخه فيه الأمير علم الدين سنجر الجاولى، والشيخ تقي الدين الأخنائي.

 

والأمير علم الدين سنجر بن عبد الله الجاولي، المولود بآمد سنة 653 والمتوفى بالقاهرة سنة 745، جمع هذا الأمير المعمَّر بين الحِكم وبين العلم، فكان من أكبر أمراء مصر، وهو في نفس الوقت فقيه شافعي فاضل، له مؤلفات في الفقه وغيره من علوم الشريعة، ورتب مسند الشافعي ترتيباً حسناً، وشرحه في مجلدات بمعاونة غيره، وبني مدرسة على جبل الكبش بجوار جامع ابن طولون، وجامعاً في الخليل وآخر في غزة بفلسطين.

 

والشيخ تقي الدين الأخنائي، محمد بن أبي بكر بن عيسى السعدي، المولود سنة 685 والمتوفى بالقاهرة سنة 750، كان قاضي المالكية بمصر، وصفه السيوطي فقال: كان فقيهاً صالحاً، وله تصانيف حسنة، وكان من عدول القضاة وخيارهم، وكان بقية الأعيان وفقهاء الزمان.

 

وبعد هذين سمع الحافظ العراقي على ابن شاهد الجيش، جمال الدين عبد الرحيم بن عبد الله الأنصاري، المتوفى سنة 746، وهو آخر من حدث بصحيح البخاري عالياً من محدثي مصر في وقته، وأخذ الحافظ العراقي كذلك عن شيخ الإسلام الحافظ تقي الدين السبكي، علي بن عبد الكافي، المولود سنة 683 والمتوفى سنة 756.

 

وسمع الحافظُ العراقي صحيحَ مسلم على الحافظ المعمَّر ابن عبد الهادي، أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي الدمشقي، المولود سنة 656 والمتوفى 749، والذي استقدمه الوزير نجم الدين البغدادي إلى مصر فحدث فيها بصحيح مسلم، ونذكر هنا للفائدة ترجمة هذا الوزير الصالح؛ محمود بن علي بن شروين البغدادي، الذي كان وزيراً في بغداد، ولما دبت فيها الفتن وخشي على نفسه من الاغتيال لجأ في سنة 738 إلى مصر، فأكرمه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وجعله أحد أمرائه، وأوصى أن يكون وزيراً من بعده، فولى الوزارة في دول أولاده، حتى قتله مظلوماً الملك المظفر حاجي سنة 748، وكان جواداً كثير الصدقات.

 

وشرح الله صدر الحافظ العراقي لرواية الحديث فتوجه للسماع والرحلة إلى كل المحدثين في عصره على اختلاف أمصارهم، فأكثر من السماع ولا يتسع المقام لذكر من أخذ عنهم.

 

ولم يحل اهتمام الحافظ العراقي بالحديث بينه وبين العلوم الأخرى، فقد درس الفقه على شمس الدين ابن عدلان، محمد بن أحمد عثمان، المولود سنة 663 والمتوفى سنة 749،  وأخذ أصول الفقه عن شمس الدين ابن اللبان، محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، المولود بدمشق سنة 679 والمتوفى سنة 749، وأخذه كذلك عن رئيس الشافعية في عصره؛ جمال الدين الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسن، المولود سنة 704 والمتوفى سنة 772، والذي كان يثني على فهم الحافظ العراقي، ويستحسن كلامه في الأصول، ويصغي لمباحثه فيه ويقول: إن ذهنه صحيح لا يقبل الخطأ.

 

وأخذ عن الحافظ العراقي علم الحديث ورواياته كثيرون لا يحصيهم العد، ونذكر في أولهم الإمام أبا الحسن نور الدين الهيثمي، علي بن أبي بكر، المولود بمصر سنة 735، والذي كان الحافظ العراقي يكبره بعشر سنوات، فقد صاحب الهيثمي الحافظ العراقي من سنة 750 حتى وفاته سنة 806، وتوفي بعده بسنة في سنة 807، ولم يفترقا في سفر ولا حضر، وكان الهيثمي عجبا في الدين والتقوى والزهد، وخدمة الشيخ، كثير الاحتمال للشيخ ولأولاده، حتى كان في أمر خدمته كالعبد ولا يخاطبه: إلا بسيدي، وزوَّجه الحافظ العراقي ابنته خديجة.

 

وتخرج الهيثمي على الحافظ العراقي في الحديث، وهو الذي دربه على إفراد زوائد كتب الحديث، وابتدأ بزوائد مسند الإمام أحمد، وبفضل ذلك أصبح الهيثمى إمام فن الزوائد، وجمع زوائد كتب كثيرة، وهو الذي أشار عليه بترتيب كتاب ثقات العجلي، كما ذكر الهيثمي في مقدمته. قال ابن حجر العسقلاني في إنباء الغمر بأبناء العمر في ترجمته للحافظ العراقي: وعليه تخرج غالب أهل عصره، ومن أخصهم به صهره شيخنا نور الدين الهيثمي، وهو الذي دربه وعلمه كيفية التخريج والتصنيف، وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضارا للمتون من شيخه، حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك لأن الحفظ المعرفة.

 

وهنا نذكر أن الإمام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، هو كذلك من تلاميذ الحافظ العراقي البارزين، والتقى ابن حجر بالحافظ العراقي في رمضان سنة 796، ولازمه عشرة أعوام، وحبب إليه علم الحديث والإسناد، فما انسلخت تلك السنة حتى خرَّج لشيخه مُسندِ القاهرة أبي إسحاق التَّنُوخِيّ المئة العشاريات، فكان أول من قرأها في جمع حافل ابنُ الحافظ العراقي: الحافظُ أبو زرعة.

 

وهنا نتوقف لنذكر أن الحافظ العراقي تزوج سيدة تدعى عائشة كان أبوها لمغاي من أجناد نائب السلطنة أرغون الأمير العلائي، وجاءه منها ابن نجيب أسماه أحمد وكناه بأبي زُرعة ولقبه ولي الدين، ولد بالقاهرة سنة 762، وأحضره والده على جماعة من شيوخها، ثم أرسله إلى دمشق سنة 765 فمكث فيها أقل من 3 أشهر، وأدرك جماعة من مسندي دمشق وأعيان علمائها، ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون، وكان الولد يقظاً فلما بلغ 14 سنة طاف بنفسه على الشيوخ، واجتهد في استيفاء السماع منهم، وأخذ عمن كل من اتصل به أو لقيه، وكتب الطباق وضبط الأسماء، وتدرب بوالده في الحديث وفنونه، واصطحبه والده سنة 768 إلى المدينة ومكة حيث سمع من محدثيهما.

 

وفي هذه الرحلة ألف الحافظ العراقي لأجل ابنه أبي زرعة كتابه طرح التثريب في شرح التقريب، والتقريب هنا: كتاب سابق للحافظ العراقي أسماه: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد، قال رحمه الله في مقدمة طرح التثريب: فلما أكملت كتابي المسمى بتقريب الأسانيد وترتيب المسانيد، وحفظه ابني أبو زرعة المؤلَّف له، وطلب حمله عني جماعةٌ من الطلبة الحمَلَة، سألني جماعة من أصحابنا في كتابة شرح له يسَّهل ما عساه يصعب على موضوع الكتاب، ويكون متوسطا بين الإيجاز والإسهاب، فتعللت بقصور من المجاورة بمكة عن ذلك، وبقلة الكتب المعيْنة على ما هنالك، ثم رأيت أن المسارعة إلى الخير أولى وأجل، وتلوت ?فإن لم يصبها وابلٌ فَطَلّ?، ولِـما ذكرْتُه من قِصَر الزمان وقلة الأعوان، سميته طرح التثريب في شرح التقريب، فليبسط الناظر فيه عُذرا، وليقتنص عروس فوائده عَذرا، والله المسؤول في إكماله وإتمامه، وحصول النفع به ودوامه، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

وبرع أبو زرعة في سائر العلوم كالفقه وأصوله والعربية والبلاغة، وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس، وظهرت نجابته ونباهته واشتهر فضله وعقله، مع حسن خُلُقه وخَلْقه، وشرف نفسه وتواضعه، وأمانته وعفته وضيق حاله وكثرة عياله، ودرَّس وهو شاب في حياة أبيه وقال أبوه في دروسه:

 

دروسُ أحمد خير من دروس أبِه ... وذاك عند أبيه منتهى أربه

 

ولما توفي الحافظ العراقي، أضيفت وظائفه إلى ابنه أحمد، وكان مجلس الإملاء الحديثي قد انقطع بوفاة الوالد، فشرع الابن فيه في سنة 810، وأملى حتى وفاته في سنة 826 أكثر من 1.000 مجلس، وفي سنة 824 توفي قاضي الديار المصرية جلال الدين عبد الرحمن البُلقيني، فعينه الملك الظاهر ططر محله في قضاء مصر، فسار فيه أحسن سيرة بعفة ونزاهة وحرمة وصرامة وشهامة ومعرفة، فسر الناس بولايته، أما أهل الدولة فكرهوه لتصميمه على الحق وعدم مداراته لهم، فلم يدم في المنصب سوى 10 شهور، وجيء مكانه بمن هو دونه في الفهم والحكم، وتوفى أبو زرعة سنة 826، بعد أن أملى أكثر من 1000 مجلس علم، وله مؤلفات قيمة في الحديث والفقه والتفسير منها: البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح وقد مُسَّ بضرب من التجريح، والمستفاد فى مبهمات المتن والإسناد، وتحفة التحصيل فى ذكر رواة المراسيل، وأخبار المدلسين، وشرَحَ كتابَ والده طرح التثريب وأورد فيه فوائد عن والده في الفقه والحديث، وله كتاب تحفة الوارد في ترجمة الوالد، وله نظم ونثر كثير. وللابن ابنة اسمها بركة، ولدت سنة 793 وسمعت على جدها والحافظ الهيثمي، وأجاز لها غيرهم من المحدثين، ودخلت في سلك المحدثات، وتوفيت سنة 841.

 

ثم نعود للحديث عن الحافظ العراقي، فنقول: وفي رمضان سنة 775 أقيمت جلسة لقراءة البخاري بقلعة القاهرة بحضرة السلطان الشاب الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد، وكان القارئ هو الحافظ زين الدين العراقي، ثم اشترك معه شهاب الدين العرياني يوما بيوم، وأمر السلطان مشايخ العلم أن يحضروا عنده سامعين ليتباحثوا، فحضر جماعة من الأكابر.

 

وفي سنة 788 أمر السلطان الملك الظاهر برقوق بتعيين الحافظ العراقي في قضاء المدينة المنورة وخطيباً للمسجد النبوي فيها فرحل إليها تاركاً ابنه أبا زرعة في القاهرة، وأقام فيها 3 سنوات ثم عزل، ففي سنة 791 ثار أمراء المماليك على برقوق فاختفى ثم انسحب إلى الكرك، وجاءوا محله بالملك الصالح أمير حاج حفيد السلطان قلاوون، وأصدر الملك الجديد، أو من حوله من الأمراء، أمراً بعزل الحافظ العراقي عن قضاء المدينة، فعاد إلى مصر، وعاد السلطان برقوق فاستولى على الحكم في سنة 792 بعد أن هزم الملكَ الصالح قرب دمشق، وولى في سنة 793  الحافظ العراقي تدريس المدرسة الظاهرية العتيقة ونظرها.

 

وفي سنة 796 بدأ الحافظ العراقي مجلساً كل يوم ثلاثاء لإملاء الحديث على المحدثين، قال الحافظ ابن حجر: فأحيا الله به سنة الإملاء بعد أن كانت داثرة، فأملى أكثر من أربعمئة مجلس، وكانت أماليه يمليها من حِفظه، متقنة مهذبة، محررة، كثيرة الفوائد الحديثية.

 

وإضافة إلى إحيائه سنة إملاء الحديث، فإن الحافظ العراقي أحيا علم الحديث بمؤلفاته وتلاميذه الكُثر، وبروح التعاون والتشجيع التي تعامل بها معهم، فقد رافق الفقيه والمحدث الحنفي، جمال الدين الزيلعي، عبد الله بن يوسف، المتوفى سنة 762، حين عمل كتابه تخريج أحاديث تفسير الكشاف للزمخشري وكتابه نصب الراية لأحاديث الهداية، وهو تخريج أحاديث كتاب الهداية في الفقه الحنفي للمرغيناني.

 

لقد كان الحافظ العراقي بحق رائد نهضة جديدة أعادت الروح إلى علم الحديث، وجعلت الأجيال القادمة من طلبة العلم تهتم به وتنكبُّ عليه، فهو مجدد ورائد نفع الله به الدين والعلم، معدود في مجددي القرن الثامن الهجري، والحق أن تلك الحقبة شهدت نهضة علمية في كل العلوم والمعارف الإسلامية، قام بها علماء مصر ويليهم علماء الشام، وهي حقبة غمطت كثيراً إذ طالما أدرجت تحت مسمى القرون الوسطى المظلمة، وهو مصطلح أوروبي على حقبة أوروبية ولا ينطبق على حال العلوم الإسلامية في ذلك الزمان.

 

كان الحافظ العراقي شيخاً منور الشيبة، جميل الصورة، كأن وجهه مصباح، ومن رآه عرف أنه رجل صالح، وكان كثير الوقار، نزْر الكلام، طارحاً للتكلف، لطيف المزاج، سليم الصدر، كثير الحياء، قلَّ أن يواجه أحداً بما يكرهه ولو آذاه، متواضعاً، ولكنه كان مقداماً يصدع في كلام أرباب السطوة، ولا يهاب سلطاناً في قول الحق، على أنه كان حلو المحاضرة، خفيف الروح، لطيف الطبع، حسن النادرة والفكاهة، وكان لا يترك قيام الليل بل صار له كالمألوف، وكان كثير التلاوة إذا ركب، وكان عيشه ضيقاً، ولكنه كان كثير الكتب والأجزاء، ثالث ثلاثة في القاهرة يضرب المثل بما لديهم.

 

ترك الحافظ العراقي عدداً كبيراً من المصنفات في علوم الحديث والسيرة والأصول والتاريخ، من أهمها قصيدته الألفية في علوم الحديث، التي نظمها في مكة المكرمة، وقصيدة ألفية أخرى في السيرة النبوية، وكتاباً أسماه: القُرَب في محبة العرب، ولعل أبرز ما يهم القارئ غير المختص كتابه المختصر الذي خرَّج فيه الأحاديث التي أوردها الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، وسمى الحافظ العراقي كتابه: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار. وقد عزا فيه كل حديث إلى مصدره، وأبان عن درجته، وكثير منها حكم عليه بالضعف أو الوضع، أو أنه لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه خدمة جليلة للحديث النبوي لأن كتاب الإحياء انتشر بين الناس انتشاراً كبيراً، وقد تساهل فيه الغزالي رحمه تساهلاً ملحوظاً فيما أورده فيه من أحاديث.

 

وللحافظ العراقي ابنتان من المحدثات أولاهما جويرية ولدت قبل سنة 788، وتوفيت في سنة 863، والثانية زينب ولدت سنة 791، وتوفيت 865، سمعتا على والدهما والحافظ الهيثمي وغيرهم من المحدثين، وأخذ عنهما الحديث فيما بعد جمهرة من المحدثين.

 

كان الحافظ زين الدين العراقي، يقول الشعر وإن كان في الغالب لا يتجاوز فيه الأبيات القليلة، ومن ذلك قوله:

 

إنْ كنتَ لا ترحم المسكين إن عَدِما ... ولا الفقيرَ إذا يشكو لك العَدما

 

فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وإنَّما يرحم الرحمنُ من رَحِما

 

وله أيضاً في ذات المعنى:

 

أنفقوا لله جودا ... مَن سَخا ليس بمغبونْ

 

لن تنالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبونْ

 

ومن شعره في من يسمع الحديث منه، ويتمنى وفاة الشيخ الجليل ليفتخر بالرواية عنه بعد أن انقطعت:

 

إذا قرأ الحديث علي شخصٌ ... وأمَّل ميتتي ليروج بعدي

 

فما ذا منه إنصاف لأني ... أريد بقاءه ويريد بُعدي

 

توقف الحافظ العراقي عن الإملاء قبل 5 أشهر من وفاته، وأنشد في آخر ذلك المجلس أبياتاً تتعلق بطول العمر، كان آخرها قوله:

 

بلغتُ في ذا اليوم سن الهرم ... تهدم العمرُ كسيل العرِم

 

وتوفي الحافظ العراقي عن 81 سنة في الثامن من شعبان عقب خروجه من الحمام ودون علة سابقة، ودفن في تربة طشتمر في الصحراء بظاهر القاهرة، ورثاه تلميذه الحافظ ابن حجر بقصيدة من شعر الفقهاء، مما قاله فيها:

 

لقد عظمت مصيبتنا وجلّت ... بسوق أولي العلوم إلى السياق

 

وأشراط القيامة قد تبدّت ... وأذَّنَ بالنّوى داعي الفراق

 

وكان بمصر والشام البقايا ... وكانوا للفضائل في استباق

 

فلم تُبقِ الملاحم والرّزايا ... بأرض الشام للفضلاء باق

 

وطاف بأرض مصر كلّ عام ... بكأس الحَين للعلماء ساقي

 

فيا أهل الشآم ومصر فابكوا ... على عبد الرحيم ابن العراقي

 

على الحَبر الذي شهدت قُرومٌ ... له بالانفراد على اتّفاق

 

على حاوي علوم الشرع جمعاً ... بحفظ لا يخاف من الإباق

 

ومن فُتحت له قدما علومٍ ... غدت عن غيره ذات انغلاق

 

وجارى في الحديث قديم عهدٍ ... فأحرز دونه خصل السباق

 

ومن ستين عاماً لم يُجارى ... ولا طمع الـمُجاري في اللحاق

 

يقضي اليوم في تصنيف علم ... وطول تهجد في الليل واقي

 

فيا أسفي عليه لحسن خلق ... أرق من النسيمات الرقاق

 

ويا أسفي عليه لحفظ ود ... إذا نُسيت مودات الرفاق

 

ويا أسفي لتقييدات علم ... تولت بعده ذات انطلاق

 

عليه سلام ربي كل حين ... يلاقيه الرضا فيما يلاقي

 

وأسقت لحدَه سُحبُ الغوادي ... إذا انهملت همت ذات انطباق

 

وذاقت روحُه في كل يوم ... تحيات إلى يوم التلاق

 

كان شيخ القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري، محمد بن محمد، المولود سنة 751 والمتوفى سنة 833، زميلاً للحافظ العراقي في الأخذ عن الإمام الزاهد المحدث بهاء الدين العسقلاني المكي، فهو ممن يعرفه حق المعرفة، وقال عنه في ختام كتابه الهداية في علوم الحديث: آخرُ حفاظ الحديث وممليه، وجامع أنواعه والمؤلف فيه، وبه ختم أئمة هذا العلم، وبه ختمتُ الكتاب، والله الموفق للصواب، وقد قلت لما بلغتني وفاته وأنا بسمرقند:

 

رحمةُ الله للعراقي تترى ... حافظِ الأرض حَبرِها باتفاقِ

 

إنني مقسم أليَّة صدقٍ ... لم يكن في البلاد مثل العراقي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين