حاجة البشريَّة كلها إلينا

 

الدعوة الإسلاميَّة اليوم حاجة بشريَّة عامَّة، قبلَ أن تكون حاجة الوطن الإسلامي. 

نعم إنَّ الوطن الإسلامي الكبير الممتدَّ من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الهندي والباسيفيكي، والمتغلغل في قلب أوروبا وإفريقية وآسيا في حاجة أوَّليَّة إلى هذه الدعوة، ولن يكون له بغيرها كيان حقيقي، ولكن البشريَّة كلها ليست اليوم بأقل حاجة إلى هداية الإسلام من ذلك الوطن الإسلامي الخاص.

وسواء كانت البشريَّة تحسُّ هذه الحقيقة أو لا تحسها، فإنَّ هذا لا يغير من وضعها شيئاً، فحاجة المريض إلى الطبِّ والعلاج لا تتوقف على شعور المريض بهذه الحاجة، بل لأنَّه كثيراً ما يَرفض تناول الدواء، وكثيراً ما يَنْفِرُ من الطبيب، وكثيراً ما يدَّعي الصحَّة والقوَّة؛ وهو أشد ما يكون حاجة إلى الطبيب والدواء! 

كتب (ج. هـ. دينسون) في كتابه: (العواطف كأساس للحضارة) يصف الفترة التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: 

(ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدِّن على شفا جُرُفٍ هارٍ من الفوضى لأنَّ العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت؛ ولم يكُ ثَمَّ ما يعتدُّ به مما يقوم مقامها، وكان يبدو أنَّ المدنيَّة الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال؛ وأنَّ البشريَّة توشك أن تَرجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجيَّة؛ إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام. 

أما النظم إلى خلقتها المسيحيَّة فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام، وكانت المدنيَّة كشجرة ضخمة مُتفرِّعة امتدَّ ظلها إلى العالم كله - واقفة تترنَّح وقد تسرَّب إليها العطب حتى اللباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل وُلِد الرجل الذي وَحَّد العالم جميعه...) 

والبشريَّة اليوم ليست أحسن حالا، وإن اختلفت الأسباب... 

إنَّ الحيرة والقلق والشرود والاضطراب تَرِين كلها على الضمير البشري في كل مكان. 

في البلاد التي كانت تعتنق ديانة سماوية أو في البلاد الوثنية على السواء. 

لم يعد هنالك يقين في شيء حتى يجد الضمير البشري في ظله الهدوء والراحة والقرار. 

لم يعد هذا الضمير يطمئنُّ إلى عقيدة أو مبدأ أو وضع أو نظام. 

لقد نفضت أوروبا وأمريكا عنها كل مُقدَّساتها القديمة ابتداءً من القرن السادس عشر، وآمنت بالعلم. 

وبلغ هذا الإله الغربي الجديد ذروة قداسته خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحسب الناس هناك أنَّ له مُقرَّراتٍ ثابتة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. ولكن ما كاد القرن العشرون يبدأ وينتصف حتى اهتزَّ عرش هذا الإله المتقلب الذي لا يثبت على حال.. 

لقد اتضح أنَّ مقرراته كلها قابلة للنقض، وأنه هو الذي ينقضها بيديه يوماً بعد يوم، بل لقد بدا هذا الإله ذاته ضائعاً بين تصوراته وأدواته ومقاييسه، لأنَّه لم يعد له مقياس ثابت يفيء إليه، بعدما أصبح هو بيده يحطم سائر المقاييس التي ظنها الناس غير قابلة للتغيير والتعديل.

كان هذا الإله قد بدأ بتصور خاص للمادة، وكان قد أعلن أنَّ كل ما عدا المادَّة وَهْمٌ لا يتنازل – جلالته - للنظر فيه أو البحث عنه.. فإذا هو ينتهي – بعد تحطم الذرَّة على يديه – إلى أنَّ المادة كما تصورها شيء لا وجود له، وأنه في حاجة إلى جهد شاق لتعريفها من جديد! ومن ثم دار هذا الإله حائراً بين مخلوقاته، التي تُكَذِّب هي بذاتها تصوُّراتِه! 

ومن ثَمَّ فقدت البشريَّة اطمئنانها إلى هذا الإله الجديد، الذي فقد هو ذاته إيمانه بنفسه وبوسائله ومقاي?سه وتصوراته!

 وكانت البشريَّة وقد انفلتت من قيود العقيدة الدينيَّة قد انطلقت إلى عبادات جديدة فأمريكا مثلاً قد نبذت كلَّ المقدسات التي عرفتها البشريَّة في تاريخها كله، واتخذت لها آلهة ثلاثة جديدة: الإنتاج، والمال، واللذَّة. وروسيا على الضفَّة الأخرى كفرت بالله الواحد واتخذت لها آلهة: المادة، والاقتصاد، وكارل ماركس!. 

ولكن شيئاً فشيئاً أخذت البشريَّة تتبيَّن أنَّ هذه الآلهة وتلك، إنما تقود العالم كله إلى حروب طاحنة واستعمار بغيض، وحيوانية تنتكس إلى مدارج البشريَّة الأولى؛ وأنَّ العقد النفسيَّة والأمراض العصبيَّة؛ والقلق الفردي والعائلي والاجتماعي والدولي هي البركات التي تتلقى بها تلك الآلهة الكافرة عبادها المتحمسين!

ولست أدري كيف يَعيش الناس في روسيا السوفيتية وراء الستار الحديدي، ولو كانوا يعيشون - كما تدَّعي الأبواق الشيوعية – لما كان لهذا الستار الحديدي ضرورة، ولرحبت الحكومة السوفيتية بمن يطلبون زيارتها لرؤية ما فيها، ولتركت الشعب الروسي يطلع على نظم العالم الأخرى وهي مُطمئنَّة إلى أنَّه سيؤثر نظامه ويتحمس له، ويلعن النظم الأخرى!

 ولكني أدرى كيف يعيش الناس في أمريكا بلد الإنتاج الضخم والثراء الفاحش واللذائذ المباحة. 

لقد شهدتهم هنالك والقلق العصبي يأكل حياتهم على الرغم من كل مظاهر الثراء والنعمة ووسائل الراحة. 

إنَّ متاعهم هياج عصبي ومراح حيواني؛ وإنَّه ليخيل إليك أنهم هاربون دائما من أشباح تطاردهم، إنهم آلات تتحرَّك في جنون وسرعة وهياج لا يقرُّ له قرار. 

وكثيراً ما كان يخيَّل إليَّ أنَّ الناس هناك في طاحونة دائرة لا تني ليل نهار، صباح مساء، تطن بهم ويطنون، لا يهدأون لحظة، ولا يطمئنون إلى أنفسهم ولا إلى الحياة من حولهم – إن كانوا يحسون ما حولهم – ليست هنالك لحظة للتأمل، ولا حتى للشعور بالحياة ذاتها وهي تدور. حتى أوقات راحتهم ورياضتهم في المتنزهات والغابات وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات، تراهم فيها فتحس أنَّهم في (شغل!) كأي شغل خلال أيام العمل؛ وكل ما هنالك من فارق أنهم في مكان غير المكان، وفي عمل غير العمل، ولكن لا راحة ولا هدوء، ولا تأمُّل، ولا اطمئنان. 

إنهم ينتجون كثيراً. ما في هذا شك. إنهم يكسبون كثيراً. ما في هذا شك أيضاً. ولكن لمن ينتجون ولمن ?كسبون؟؛ لذات الكسب ولذات الإنتاج! العنصر الإنساني لا وجود له. 

تأمل ذلك الكسب وذلك الإنتاج. الإحساس بدوافعه ونتائجه في يقظة فكر وحساسية قلب، تذوقه بحسِّ الإنسان المتميز عن حسِّ الآلة.. كل ذلك لا تلمحه في سِيمَا وجه ولا في تعبير لسان!

إنَّها الطاحونة الدائرة ليل نهار: تطحن، وتبعثر ما تطحنه، وتجمعه مرة أخرى لتطحنه من جديد! والناس والأشياء والزمان والمكان كلها تروس في تلك الطاحونة الدائرة التي لا تكل ولا تمل، ولا تكف لحظة عن الدوران.

 إنَّه الدوار!!!

 هدوء القلب. اطمئنان النفس، راحة الضمير، لذَّة الفرح اليقظ بثمرات الجهد والإنتاج، المودات الحلوة بين الناس. التجاوب الروحي بين الأصدقاء. الاهتمامات الناشئة عن الوشائج الوثيقة في الأسرة، تلك المشاعر التي تُشعر الفرد أنَّه ليس وَحدَه، وتمنحه الثقة والطمأنينة والراحة بعد الجهد والكدِّ والعناء، العقيدة في قوة أكبر من قوة الأرض، تلك العقيدة التي تشعر الفرد أنَّه ليس ذرَّة تائهة في هذا الكون العريض بلا أصل ولا قرار. كل هذا لا وجود له في قاموس الحياة الأمريكية، ولا في محيط النفس الأمريكية.

إنَّه الخواء!!

الخواء على الرغم مما يبدو من زحمة في الحياة وامتلاء. 

هنالك مرح كثير، يخيل إلى من لا يعرف أنَّه سعادة، تلك الضحكات التي ترن في الهواء، تلك القفزات الواثبة في الطرقات، تلك القبلات التي لا تنقطع بين الجنسين، تلك (المهارشات) التي تتحسس مساقط اللذة في الأجساد، تلك الكؤوس التي لا تفرغ من الخمر، تلك الضجة التي لا تهدأ ولا تسكن.. ولكنه المرح الحيواني لا السعادة، ولا الفرح. 

إنَّ عربدة السكارى ليست سعادة. كذلك المرح الحيواني ليس فرحاً، إنه انطلاق الطاقة المكبوتة تحت ضغط العمل المرهق. إنَّها فرقعة كفرقعة الآلات لتفريغ البخار.

 ولكن أين الإنسان؟ في كل هذا الركام؟ أين الإنسان المتميز عن الآلة وعن الحيوان؟ ولست أتصور من وراء الفلسفة الماديَّة في روسيا إلا حياة أحطَّ من تلك الحياة.

فحتى ذلك المرح الحيواني الناشئ من الطلاقة والثراء في أمريكا لا أتصوره هناك! وفي هذا الدرك تستقرُّ البشريَّة اليوم في الشرق وفي الغرب سواء.

إنَّ البشريَّة كلها في حاجة إلينا: في حاجة إلى عقيدة في الضمير، يستروح في ظلها من هذا الهجير القائظ، ويطمئنُّ في رحابها من ذلك القلق، ويستقر" في حضنها إلى قرار. 

لقد تعب هذا الضمير البشري من الجري وراء ذلك الإله المتقلِّب؛ العلم. الذي يحطم مواز?نه في كل لحظة، و?كفر بمخلوقاته وتكفر به مخلوقاته، كلما انتهى إلى رأي جديد! 

إنَّ العقل قد يملك أن يتابع خطوات ذلك الإله المتقلب. أما الضمير ففي حاجة إلى ثبات واطمئنان وقرار. 

ولقد تعبت البشريَّة من الارتكاس في حمأة اللذائذ؛ ومن عبادة المادَّة واللذَّة والإنتاج. إنَّ الإنتاج يجب أن يكون خادماً للبشريَّة لا أن تصبح البشريَّة خادمة له، وإنَّ اللذَّة يجب أن تكون ملكاً لصاحبها، لا أن تستعبده وتستذله.

والعقيدة في الله تعالى هي التي تمنح البشر حرِّيَّتهم في وجه اللذائذ وفي وجه الآلات! 

والعقيدة في الله سبحانه يجبُ في الوقت ذاته ألا تكون قيداً للعقل، ولا سجناً للفطرة، ولا حائلاً دون الإنتاج والنمو في الحياة.

ومن ثَمَّ يبرز الإسلام، وتتميز دعوة الإسلام، وتتجلى حاجة البشريَّة كلها إليها في هذا الأوان. 

حاجة الضمير الفردي إلى الاسترواح والثقة والاطمئنان. 

وحاجة العقل البشري إلى الطلاقة والحريَّة والنشاط. 

حاجة الأسرة الخاصَّة إلى الحماية والرعاية والثبات. 

وحاجة الأسرة البشريَّة إلى التعارف والتعاون والسلام.

حاجة الفرد إلى الاعتراف بوجوده وخصائصه وفطرته.

وحاجة المجتمع إلى الحماية والتوازن والاستقرار.

إنَّ شجرة الحضارة البشريَّة تهتزُّ وتترنَّح اليوم كما كانت تهتز وتترنح قبيل مولد (الرجل الذي وَحَّد العالم جميعه) فما أشدَّ حاجة البشريَّة إلى رسالة هذا الرجل لتنقذها مرة أخر?.

إنَّ البشريَّة كلها في حاجة إلينا: في حاجة إلى عقيدتنا، وفي حاجة إلى مبادئنا، وفي حاجة إلى شريعتنا، وفي حاجة إلى نظامنا الاجتماعي، الذي يكفل الكفاية لكل فرد، ويكفل الكرامة لكل إنسان، ويكفل سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع، كما يكفل السلام الدولي العام.

ومن هذه الحاجة الإنسانيَّة – بعد عقيدتنا في الله تعالى – نحن نستمدُّ قوَّتنا وثباتنا على الدعوة إلى عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الاجتماعي الخاص. وسنثبت ـ بعون الله تعالى- ولو تخطفنا الشر والطغيان من كل مكان. 

إنَّ البشريَّة كلها في حاجة إلينا.. ومن ثم تبدو جسامة الجريمة التي يرتكبها من يحاولون أن تذوب في أية حركة أو أية منظمة أو اتجاه في داخل الوطن الإسلامي أو خارجه على السواء. 

إنَّ الذين يُريدون لنا أن نذوب في حركة قومية، أو في كُتلة دوليَّة أو في اتجاه عالمي ـ على فرض أن هناك اتجاهاً عالمياً – إنَّما يرتكبون جريمتهم في حقِّ البشريَّة كلها، قبل أن يرتكبوها في حقِّ الإسلام أو الوطن الإسلامي. 

إنَّ مهمَّتنا أن نتميَّز وأن نحمل الشعلة للضالين في شِعَاب الأرض وفي مَتاهات الصحراء. إنَّ مهمتنا أن ننقذ البشريَّة من الحمأة الآسنة التي تتمرَّغ فيها اليوم، لا أن نذوب معها في تلك الحمأة الآسنة.

والله معنا، والبشريَّة كلها ستعرف يوما أنَّ نبوءة الله حق: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...] {البقرة:143} 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة المسلمون، السنة الثانية، ذو الحجة 1372 - العدد 10 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين