الباقيات الصالحات

 

كتبتُ في العدد الماضي من مجلة (لواء الإسلام) مقالاً عنوانه: (تطور نظام الوقف)، وذكرت فيه أنَّ الوقف نشأ في الإسلام نظاماً لكفَّارة البر بالفقراء، والإنفاق في وجوه الخير على سبيل الدوام، وأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تصدقوا بأموالهم ونصوا في صدقاتهم على أنها لا تُباع، ولا تُبتاع، ولا تُوهب، ولا تُورث، ما أرادوا بهذا إلا أن تدوم صدقاتهم، وتستمرَّ معونتهم لجهات الخير، وأنَّ الباعث لهم على هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وأنهم قصدوا بتصدقهم بالصفة التي تصدقوا بها أن تكون صدقاتهم جارية.

وقد كتب إليَّ أحد القرَّاء سائلاً: هل تكون الصدقة الجارية بالوقف وحدَه؟ وهل يتفق ما جاء في هذا الحديث وقوله تعالى في سورة النجم: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] {النَّجم:39} ؟.

وأنا أكتب في هذه الثلاث الباقيات الصالحات ما فيه بتوفيق الله هدى وشفاء وجواب للسائل:

كل إنسان أراد الله تعالى به الخير يحرص أشدَّ الحرص على أن يبتغي رحمة الله تعالى وثوابه بأية وسيلة، ويرى أنَّ حسناته مهما تعدَّدت يسيرة، وأنَّ هفواته وزلاته أكثر من حسناته، ويستشعر دائماً أنَّه إذا جاء أجلُه انقطع عملُه، ولا يمكنه أن يتدارك ما فاته، ولا أن يبدل سوء عمله حسناً، لأنه لا تكون له إرادة تتجه إلى عمل، ولا قدرة يقتدر بها على عمل، فمن أجل هذا يفكر في الخير الذي يُبقي أثره بعد موته، وفي البر الذي يكون شجرة دائماً ثمرها ليدوم أثر بره بعد موته، ويبقى رجاؤه في رضا الله تعالى ورحمته.

وقد أرشد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى ما يحرص كل مؤمن على أن يَهتدي إليه، وهو الباقيات الصالحات التي تبقى للعامل بعد موته، وتكون أثراً دائماً من حسناته، ووسيلة لمثوبة الله تعالى ومرضاته، وهي الصدقة الجارية، والعلم الذي يُنتفع به، والولد الصالح الذي يدعو له، فمن خلَّف واحدة من هذه، أو خَلَّفها كلها، فهو بنص الحديث لم ينقطع عمله، ولم ينقطع أجره على عمله.

1 – فالصدقة الجارية، أي: الدائمة، هي كل ما ينفقه الإنسان في جهات البر إنفاقاً يبقى أثره، ويدوم الانتفاع به، وكل ما يعمله الإنسان من خير يستمر نفعه.

فمن وقف مالاً على مسجد أو مستشفى أو مبرة أو الفقراء أو أية جهة من جهات الخير، فوقفه صدقة جارية، ولضمان دوامها ينص الواقف في وقفه على أن ما وقفه لا يورث ولا يباع ولا يوهب.

ومن ساهم في بناء مستشفى أو مدرسة أو مستوصف خيري أو أي مبرة لسد حاجة المرضى والفقراء وطلاب العلم، أو ساهم فيما يكفل لهذه المبرات نفقاتها وبقاءها فعمله صدقة جارية.

ومن يسَّر الماء النقي لشرب أناس محرومين منه، أو أصلح جسراً تمرُّ الناس به، أو مهَّد طريقاً تتعثَّر المارَّة فيه، أو بنى سبيلاً لشرب المارَّة في طريق مُنقطع، أو ردم مستنقعاً لوقاية الناس من الأمراض، فعمله صدقة جارية.

ومن عدَّل قانوناً جائراً، أو أصلح نظاماً في الأمة فاسداً، أو رفع عن الناس سخرة أو إصراً، أو وضع لتعليم الناشئين وتربيتهم منهجاً قويماً، فعمله صدقة دائمة.

ومن أصلح بين فردين أو أسرتين متعاديتين وبدَّل عداوتهما محبة، أو هدى ضالاً، أو كفَّ ظالماً عن ظلمه، أو هدم بدعة سيئة في المآتم أو المساجد أو الموالد أو مجتمع، واقتدى الناس به، فكل هذه الأعمال صدقة جارية، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).

فليست الصدقة الجارية خاصَّة بالوقف على جهات الخير، بل يندرج فيها كل تبرع مالي فيما يدوم انتفاع الفقراء، وذوي الحاجات به.

وليست الصدقة الجارية خاصَّة بالتصدق المادي، بل تشمل كل إصلاح وتقويم لما في الأمة من فساد واعوجاج، وكل تبديل للبدع السيئة، وإزالة للمنكرات.

وليست الصدقة الجارية مقدورة للأغنياء وحدهم، بل فيها متسع للأغنياء وللفقراء، ورب سعي من الفقير في إصلاح مُتعادِين، أو في نصح متآمرين على إثم، أو في مساهمة بذراعه في بناء مبرة، كان صدقة جارية، وقد عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح (إماطة الأذى عن الطريق صدقة).

2 – والعلم الذي يُنتفع به هو العلم الذي يَهدي الناس إلى الصراط المستقيم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو معاملاتهم، وأخلاقهم، ويوصلهم إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن خلَّف للناس علماً ينتفعون به في دينهم ودنياهم، فعمله لا ينقطع بموته، وثوابه مستمر باستمرار انتفاع الناس بعلمه.

ولا فرق بين أن يكون علمه الذي خلَّفه نافعاً للناس، ومحققاً مصالحهم وعقائدهم، أو أخلاقهم، أو عباداتهم، أو معاملاتهم، أو نافعاً للناس في وقايتهم من الأمراض أو في علاج أمراضهم أو في توفير حاجاتهم، أو في تيسير حياتهم، أو تذليل صعابهم، أو نافعاً للناس في إنتاج زرعهم أو صيانة مواشيهم أو وقاية ثمارهم، فكل أثر علمي ينفع الأفراد أو الجماعات بأي وجه من وجه النفع في حياتهم وفي آخرتهم، فهو حسنة خالدة، وبر لا ينقطع أجره.

ولا فرق بين أن يكون الأثر العلمي النافع كتاباً أُلِّف، أو كتاباً أخرج، أو بحثاً أنضجه الباحث، ووصل به إلى غاية، أو استكشافاً كشف عن حقيقة غامضة، أو عن داء أو دواء، ولا فرق بين هذا وبين أن يخلف العالم تلاميذ وعوا ما سمعوا، وبلغوا ما وعوه، ونشروا علمه وهداه، فكل مجهود علمي ينتفع به عن أي طريق فهو علم ينتفع به.

3 – والولد الصالح الذي يدعو لوالده بالخير هو أثر حميد خالد للوالد، ودعاؤه مرجو الإجابة، فهو حسنة دائمة من حسنات والده، وصلاحه أثر من آثار التربية الحسنة والرعاية الخلقية المحمودة.

ومن خلَّف ولداً صالحاً فقد خلَّف حسنة خالدة، وترك في أمته مورداً للهدى، وشجرة تثمر الثمار الطيبة، لأنَّ الولد الصالح مُهتدٍ وهادٍ، وهو في البيئة التي يعيش فيها نور ونصح وأسوة حسنة، فوالده في الحق خلَّف براً من أفضل أنواع البر، وترك مصدراً يدوم خيره ويتصل، ويرثه خلف عن سلف.

وفي هذا الحديث إرشاد المسلمين إلى: 

(أولاً): فيه إرشادهم إلى أنَّ أفضل أنواع البر الذي يجب أن يتسابقوا في ميدانه هو إسداء الخير والنفع للناس بأية وسيلة من وسائل النفع، لأن من ينفع الناس ينفع نفسه، وتدوم حسناته، ويكون حياً بعد موته، بالذكر الحسن، وألسنة الخير، ومثوبة الله تعالى. 

وأما التسابق في ميدان الجاه، والغنى والدرجات والمناصب فهذا متعبة في الدنيا، ولا نفع فيه بعد الموت، وهي مظاهر دنيوية لا ينفع بها الناس، ولا ينتفع بها صاحبها نفعاً خالداً، وهذا يثبت لنا أن أظهر شعائر الإسلام البر بالناس، وأن أفضل خصال المسلم نفع الناس، وأن هدى الإسلام يكون وحدة اجتماعية متعاونة، لا قسوة فيها ولا أنانية.

(وثانياً): فيه إرشادهم إلى فضل العلم النافع، وتنبيههم إلى السعي في طلبه، لأن من خلف أثراً علمياً نافعاً خلف حسنات لا تنقطع، وفيه إرشاد العلماء إلى أن يعنوا بدراسة العلوم النافعة للأمة في الدين والدنيا، وإلى أن يجتهدوا في أن يكون لعلمهم ودرسهم أثر في نفع أمتهم. فالعلماء الذين يتخذون علمهم وسيلة إلى الجاه والغنى والمنصب، ولا يعنون بنفع الناس بعلمهم أو ترك آثار نافعة لعلمهم، هم في الحقيقة لا خير في علمهم، وهم والجهلاء سواء.

فمن لم ينفع الناس بعلمه مات علمه بموته، وانقطع عمله بانقضاء أجله، والعلماء الذين يبذلون جهودهم العلمية في ترويج العقائد الفاسدة والشبهات المضللة، وتضليل العقول وترويج الزيغ، هم شر من الجهلاء، وآثارهم العلمية سيئات دائمة، عليهم وزرها ووزر من ضلَّ بها إلى يوم القيامة.

(وثالثاً): فيه إرشادُ المسلمين إلى فضل التربية الصحيحة للأولاد، وإلى أنَّ الواجب على الآباء أن ينشئوا أبناءهم على الدين والفضيلة والاستقامة، لأنَّ الوالد الصالح هو ثمرة لوالده، وحسنة خالدة له، والشجرة الطيبة كلما أثمرت ثمرة طيبة دعا الناس لغارسها، فالأب الذي يربي أولاده تربية صالحة يغرس في أمته أشجاراً طيبة مثمرة، ويبذر بذوراً جيدة خيرة.

ومما فصلناه يتبين اتفاق هذا الحديث والآية الكريمة: [وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] {النَّجم:39}؛ لأنَّ الإنسان إذا تصدق بصدقة دائمة فخيرها مستمر بعد موته، وثوابه إنما هو على سعيه، فهو الذي عمل الخير، وعمل على أن يبقى بعده، وإذا خَلَّف أثراً علمياً نافعاً فانتفاع الناس بعلمه بعد موته هو انتفاع بسببه، فهو تعلم وعلم، وترك علمه نوراً للناس يهتدون به، بعد موته كما كانوا يهتدون به في حياته، فثوابه على سعيه، وإذا ترك ولداً صالحاً يدعو له فهو ثمرة من ثمار تربيته، ودعاؤه له أثر بره، فانتفاعه بصلاح ولده وبدعاء ولده إنما هو انتفاع بنتيجة تربيته وعمله، فهو يُثاب على سعيه. 

فهذا الحديث أرشد المسلمين إلى أمهات البر الدائم، وحَثَّهم على العلم النافع والتربية الصحيحة، ولو عمل المسلمون بهدي الله ورسوله لكانوا على خير مما هم عليه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، المجلد السادس، جمادى الأولى 1372، يناير 1953).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين