الصبر في الله

 

سألت نفسى: هل يستغني الأحياء عن الصبر؟ إنه لازم لكيانهم المعنوي لزوم الماء، أو الهواء لكيانهم المادي.

 نعم، قد تستغني الدواب، أليفة كانت أو متوحشة عن هذا الخلق، لأنها تحيا وفق هواها، وتسيرها طباعها وحدها.

أما الإنسان فهو كائن تتبعه التكاليف مذ يعقل، تأمره بفعل ما قد يكره وترك ما قد يحب.

 بل هو بعد سنوات قلة من ميلاده يقاد إلى المدرسة برغمه، ويبدأ المربون يخرجونه من نطاق اللهو واللعب إلى استيعاب مبادئ القراءة والحساب وحفظ أشتات من النصوص والأناشيد.

 فقبل أن يجئ مرحلة البلوغ، وتناط بعنقه التكاليف الجادة تمهد نفسه لحياة يهجر فيها رغباته، ويحترم فيها واجباته.

 ولا أدرى إذا كان هناك فريق من البشر يستغنون عن هذا الخلق لظروف معينة تحيط بحياتهم، وتوفر لهم من المتاع والراحة ما يغنيهم عن مشقات الكفاح الأدبي والمادي!.

 إنني أشك في أن الدنيا تضم بين طياتها هذا النوع من الناس.

 ذلك أن البشر الذين يقتربون من الأنعام في سيرتهم تفرض عليهم الأقدار آلاماً من طراز سافل، لا يرون محيصاً من احتمالها وهم كارهون.

 على أننا نوقن بأن طريق الإيمان، ومنهج الشرف والبطولة، لابد فيه من صبر طويل طويل.

 وإن الرجل كل الرجل هو الذي يستسهل المتاعب بإلفها، والذي يعلم أنه ما تردد في صدره نفس ـ يجب أن يلقى الدنيا والناس بحزم وتحفظ، وبصيرة وتصون.

 وأن الصبر عتاده في هذا كله، فلن يزحزح عن النار ويدخل الجنة إلا بهذه اليقظة وهذا الدأب.

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أرسل جبريل ـ يعني إلى الجنة ـ فقال: انظر إليها إلى ما أعددت لأهلها فيها.

فجاء فنظر إليها وإلى ما أعدَّ الله عز وجل لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحجبت بالمكاره، وقال: ارجع إليها فانظر إليها، فرجع فإذا هي قد حجبت بالمكاره، قال: لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: فانظر إلى النار وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاءها فنظر إليها، إلى ما أعد لأهلها فإذا هي يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال له: ارجع إليها فانظر إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها) [رواه الترمذي].

 إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات...

 والإنسان يتحرك، ويتكشف معدنه، ويغزر إنتاجه كلما أحسَّ خطر المعارضين، أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آملة. !

 ومعادن العظماء إنما تبرق وسط الأنواء التي تكتنفها، فكأن هذه الأنواء رياح تنفخ في ضرامها، فيتوهج، ولو ترك وحده لكان وشيك الانطفاء.

 ومن حكمة الله تعالى البالغة أنه لم يدع البشر يحيون في بيئة تعطيهم خيرها منحاً بل استحياهم في بيئة تفرض الكفاح فرضاً، ولا تعطى الثمار إلا بعد غراس.

 وهذا الجهد المبذول من مصلحة الحياة نفسها لتبقى وتزدهر.

 من مصلحة الأحياء أنفسهم ليبلغوا تمامهم.

 وقد كتب الأستاذ عبد العزيز الإسلامبولى كلاماً في هذا المعنى يستحق التسجيل.

 قال: حكى أحد العلماء المحدثين عن نفسه، فقال: كنت مغرماً في طفولتي بجمع شرانق الفراش، ومراقبة خروج الفراشة منها في الربيع، وكان جهادها في التخلص من سجنها يثير عطفي دائما.

 وأتى والدي يوماً ما بمقص وأعمله في غلاف الحرير المطبق على الفراشة وساعدها على الخلاص، ولكنها ما لبثت قليلاً حتى ماتت، وعندئذ قال أبي: يا بني إن الجهد الذي تبذله الفراشة لتخرج من الشرنقة يخرج السم من جسمها وإذا لم يخرج هذا السم ماتت الفراشة، وكذلك الناس إذا جهدوا في سبيل ما يريدون زادوا قوة وعزماً، ولكن إذا واتاهم ما يريدون سهلاً طيعاً، غلب عليهم الضعف ومات منهم شيء جليل الخطر.

 وهكذا تعلم أن طبيعة الحياة عجيبة، لأنها لا تعطينا إلا لتأخذ منا، ولا تهب لنا شيئاً إلا لتنال مقابلاً، إنها تكيل لنا صاعاً بصاع، فلا غرو إذا كانت آمالنا لا تتحقق إلا بين الأشواك في الأرض الوعرة، وكأنما شاءت الدنيا أن تخفي مفاتنها تحت مصارع المطامع لتدفع الإنسان إلى مواجهتها والتغلب عليها.

 ومن ثم نعرف قيمة الشدائد، بل نعرف الفرق بين الأبطال الصناديد، والجبناء الرعاديد، إذ الشدائد هي المحك الذي يكشف عن معدن الرجل: قوة وضعفاً.

 عقلا وهوى، والحياة ـ في الأغلب الأعم ـ ليست إلا مزاجاً من سعادة وتعاسة، وهناء وشقاء، وفرح وترح، ولا قيمة لها إذا كانت ذات لون واحد، وقديماً قالوا: وبضدها تتميز الأشياء.

 فلا طعم للحلو دون المر، ولا مذاق للماء الفرات دون الماء الأجاج.

 ولعله من أنفع ما يساق في هذا المطلب، ما قصه عليَّ أستاذ من جلة المعاصرين، وكان يرحمه الله معروفاً بالهدوء، والعزوف عن الشهرة، وقد رقى أرفع المناصب العلمية قال: لقد أخذت نفسى بتلاوة القرآن الكريم كلما إدلهم خطب، وأهرع إلى تدبر كلام الفلاسفة الحكماء، أروح به عن نفسي، وقد وقفت على تشبيه رائع لما نلابس في دنيانا، كلما تذكرته هدأت أعصابي واطمأن خاطري.

 ذلك بأن الحياة اليومية، ليست إلا كوباً، نصفه مملوء بالماء، ونصفه الآخر فارغ لا ماء فيه.

 فلست بمستطيع أن تحكم بأنه مملوء كله ولا فارغ كله وهكذا الناس لن تجد فيهم ذا حياة مملوءة كلها ولا ذا حياة فارغة كلها، وإنما لكل منا نصيب من السعادة، ونصيب من الشقاء، ومن ثم يسعد أحدنا أو يشقى بنظرته إلى الكوب الذي يستقى منه، فإن رآه مملوءاً إلى نصفه سعد بحياته، وان رآه فارغاً إلى نصفه شقي بها.

 وهكذا تعودت إذا ما نزعت نفسي إلى الجزع، أن أذكر أن الحياة ليست فارغة إلى نصفها، بل مملوءة إلى نصفها، ومن ثم تذهب متاعبي كفاء الغم، وتروح أحزاني بدداً).

 وتصبير النفس على لأواء العيش، وإرهاق الواجب، وإغراء الهوى يحتاج إلى عزم وقوة، وللعرب في هذا الأفق آداب رفيعة، استوحوها من تجاربهم ومن أشواقهم إلى العزة، ورغبتهم في وفرة العرض وصون الجانب، وهم يرون أن الركوع للشدائد لا جدوى منه إلا الذلة التي منها يأنفون، وأن هذه الشدائد لا تقيم بساحة إلا ريثما تتحول عنها، فعل المرء أن يواجه ما يكره بجلد، آملا أن تنقشع الغمة وهو ثابت الخلق نقي الصفحة قال عبد العزيز بن زرارة : 

وليلة من ليالى الدهر كالحة= باشرت من هولها مرأى ومصطرعا

ونكبة لو رمى الرامى بها حجرا=أصم، من جندل الصوان- لانصدعا

مرت على، فلم أطرح لها سلبي=ولا اشتكيت لها وهنا ولا جزعا 

لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه=ولا يضيق به صدري إذا وقعا 

كلا لبست فلا النعماء تبطرني=ولا تخشعت من لأوائها جزعا 

وقال ابن الرومى: 

ولا تحسبن الشر يبقى فإنه=شهاب حريق واقد ثم خامد

ستألف فقدان الذي قد فقدته=كإلفك وجدان الذي أنت واجد 

ومن لم يزل يرعى الشدائد فكره=على مهل، هانت عليه الشدائد 

وللشر إقلاع، وللهم فرجة=وللخير، بعد المؤيسات، عوايد 

وكم أعقبت بعد البلايا مواهب=وكم أعقبت بعد الرزايا فوائد 

وكم سيء يوماً سيقفوه صالح=وكم شامت يوماً سيقفوه حاسد 

والصبر الذي دعا إليه هؤلاء الشعراء، رياضة نفسية يعرفها ألو النهى من كل جنس وملة، وهي رياضة تحمد لطبيعتها ونتائجها، فإن العزم أشرف من الوهن والأمل أجدى من اليأس.

 وهؤلاء أبانوا عما في الصبر من محاسن ضبط النفس وطيب العقبى.

 ونحن نزكي هذه الوجهة إلا أننا نتحدث عن صبر المؤمنين ابتغاء وجه الله تعالى.

 وهو مسلك يجعل الصبر مشوباً بالذكر، ويجعل المؤمن بصيراً بأن القدر الأعلى من وراء الأحداث التي تنوبه، ومن ثم فهو في شدته يظل قوي الصلة بربه، يدعوه ويرجوه، ويستسلم له ويعتمد عليه، ويتحمل ما يتحمل لأن الله تعالى شاء، ومشيئته موضع التسليم والإعزاز...

 والكلمة التي تثلج فؤاده [إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:156} يستشعر معناها فيما يعرض له من بأساء وضراء، فيربو يقينه، ويكون أهلاً لرحمات الله سبحانه بعدما استبان موقفه من بلائه.

 والمرء في هذه الحياة يختلف عليه العسر واليسر، والصحة والسقم، ومطلوب منه في الأحوال التي يكرهها ألا تهتز علاقته بربه وألا يضعف أمله في فرجه.

 إنه في اليسر يطمئن إلى ما في يده من مال فلا يبالي بالوساوس، بل قد تبتعد عنه ابتعاداً تاماً!

 أليس ماله في يده؟

والمطلوب منه إذا أعسر ألا يستبد به القلق، وأن يكون إيمانه بالغيب مشيعاً للسكينة في قلبه، فيعلم أن الله تعالى لن يخذله إذا قصده، وأن ما في يده جلَّ شأنه قريب منه [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:268}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين