حدث في الخامس عشر من شعبان وفاة الإمام الليث بن سعد

في الخامس عشر من شعبان لعام 175 توفي في مصر، عن 81 سنة، الإمام الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمي القيسي، إمام أهل مصر في الفقه والحديث، قال عنه الشافعي رضي الله عنه: الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

 

ولد الإمام الليث بن سعد سنة 94 في قَلْقَشَندَة، وهي قرية تقع شمالي القاهرة إلى الجنوب من مدينة طوخ بمحافظة القليوبية في مصر، وأصل أسرته من موالي أصفهان، وطلب العلم في مصر، ثم رحل إلى الحج سنة 113، وسمع من نافع مولى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وابن شهاب الزهري. قال الليث: كتبت من علم محمد ابن شهاب الزهري علماً كثيراً، وطلبت ركوب البريد إليه إلى الرصافة، فخفت أن لا يكون ذلك لله تعالى فتركته.

 

وكان معه في هذه الحجة زميله المحدث الإمام عبد الله بن لَـهِيعة بن عقبة بن فَرعان الحضرمي المصري، المولود سنة 97 والمتوفى سنة 174، وجرت فيها طرفة من عمل المحدِّثين، قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة فرأيت نافعاً مولى ابن عمر فدخلت معه إلى دكان علاف، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين! وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال: من هذا؟ قلت: مولي لنا. فلما رجعنا إلى مصر، جعلت أحدث عن نافع فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟ قلت: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك!

 

واتضحت معالم مكانته العلمية وهو في أول شبابه، قال شرحبيل بن جميل بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة: أدركتُ الناس أيام هشام بن عبد الملك بن مروان،  وكان الليث بن سعد حدث السن، وكان بمصر عبيد الله بن جعفر وجعفر بن ربيعة والحارث بن يزيد ويزيد بن أبي حبيب وابن هبيرة وغيرهم من أهل مصر، ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة، وإنهم ليعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه على حداثة سنِّه.

 

ثم أصبح الليث بن سعد عالماً يشار إليه بالبنان، بل ويجعله بعض أهل حقبته مقدماً على الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد مرَّ قول الشافعي في هذا، وكان تلميذ الإمام مالك عبدُ الله بن وهب الفهري، المتوفى في مصر سنة 197 عن 72 عاماً، تُقرأ عليه مسائل الليث، فمرت به مسألة فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكا يجيب فيجيب هو. فقال ابن وهب للرجل: بل كان مالك يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدا قط أفقه من الليث! وقال ابن وهب رحمه الله: كلُّ ما كان في كتب مالك: وأخبرني من أثق به من أهل العلم؛ فهو الليث بن سعد.

 

وتأسف الشافعي على أن فاته لقاء هذا الإمام الكبير، وعبر عن حسرته أن سبقته يد المنية إلى الليث فحالت دون لقائهما، قال يونس بن عبد الأعلى: قال الشافعي: ما اشتدَّ عليّ موت أحد من العلماء مثل موت الليث بن سعد. وقال الشافعي: الليث بن سعد أتبع للأثر، أي الحديث، من مالك بن أنس.

 

قال يحيى بن عبد الله بن بكير المولود سنة 154 والمتوفى سنة 231: ورأيتُ من رأيت فلم أرى أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حَسَن المذاكرة. وما زال يذكر خصالا جميلة ويعقد بيده، حتى عقد عشرة، ثم قال: لم أر مثله.

 

وقال أبو محمد ابن أبي القاسم: قلت لليث بن سعد: أمتع الله بك يا أبا الحارث، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، قال: أو كل ما في صدري في كتبي؟! لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب.

 

وأرسل بعض أهل المدينة رسائل إلى الليث يستفتونه في بعض القضايا، فأرسل بأسئلتهم إلى الإمام مالك بن أنس يسأله عن رأيه فيها، وهذا من كمال الأدب الذي تحلى به أجدادنا رضوان الله عليهم، وهو كذلك ذروة فقه الفقه، لئلا يفتيهم بما يخالف رأي علمائهم فينقص من قدر العلم والعلماء ويتسبب في مشاكل وفتن يسر بها شياطين الإنس والجن، وأجابه الإمام مالك على ما سأله برسالة يتبين فيها سروره بهذا المسلك الحكيم، ثم وجَّه الليث بن سعد إلى الالتزام برأي أهل المدينة فيما يعرض له من مسائل حيث بلغه أن يفتي بخلاف ذلك في بعض الأمور، فأجابه الليث برسالة يبين له محبته واحترامه ثم تناول فيها عدداً من القضايا التي يتباين رأيه فيها مع رأي الإمام مالك بن أنس، وبيَّن حجته في ذلك بأسلوب ينضح بمكانة هذا الإمام الطود وسعة علمه وقوة حجته. وقد نشر الرسالتين والدي رحمه الله في كتاب نماذج من رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي، ويضيق المجال عن إيرادهما هنا. ونكتفي بإيراد ثناء الإمام مالك بن أنس على الليث بن سعد رحمهما الله: وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجةِ من قِبَلِك إليك، واعتمادِهم على ما جاءهم منك.

 

ولم يقتصر أثر الليث بن سعد على الفقه والحديث، بل كان له في مصر أثر طيب في تحبيب عثمان رضي الله إلى أهلها، قال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث ابن سعد فحدثهم بفضائل عثمان فكفوا عن ذلك، وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك.

 

ولما حج الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عاد من المدينة إلى بيت المقدس، فأتاه الليث بن سعد من مصر، فأُعجِبَ بعلمه، وكان أبو جعفر عالماً فقيهاً، وأراده أن يتولى له على مصر فاعتذر بكونه من الموالي فلا نفوذ له بين القبائل، قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك عن العمل في ذلك لي، أتريد قوة أقوى مني ومن عملي!! فأما إذ أبيت فدلني على رجل أقلده أمر مصر؟ قلت: عثمان بن الحكم الجذامي؛ رجلُ صلاح، وله عشيرة. قال: فبلَغَه ذلك، فعاهد الله عز وجل أن لا يكلم الليث بن سعد.

 

فاعجَبْ للخليفة من حرصه على الحق والعدل يريد أن يعين هذا العالم الجليل على أهم ولاية له، واعجب لهذا العالم الذي لا يرغب في هذا المنصب ويعتذر عنه، واعجب لعثمان بن الحكم الوالي المعين كيف استاء من الليث لكونه أوصى به لدى السلطان.

 

ولما أراد الليث العودة إلى مصر ودَّع الخليفة المنصور الذي قال له: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك. قال شعيب بن الليث: وكان أبي يقول: لا تخبروا بهذا ما دمت حياً.

 

وخرج الليث إلى العراق سنة 161 ومكث في بغداد بضعة أشهر على الأقل، والتقى في هذه الزيارة بالخليفة العباسي هارون الرشيد، وسبب ذلك كما رواه لؤلؤ خادم الرشيد أنه حدث بين الرشيد وبين زوجته ملاحاة في أمر من الأمور، فقال هارون في عَرَض كلامه لها: أنت طالقٌ إن لم أكن من أهل الجنة! ثم ندم واغتما جميعاً بهذه اليمين، ونزل بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه.

 

فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين، فلم يجدوا منها مخرجاً، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفاً بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أُشخص من مصر، وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء وهارون يراعي الفقهاء واحداً واحداً، فقال: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له: إن أمير المؤمنين يقول لك: مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك؟ فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مَقْنَع، فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولَـمَا أُحضِرتَ هذا المجلس. فقال: يُخلي أميرُ المؤمنين مجلسَه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك.

 

فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس ثم قال: تكلم! فقال: يدنيني أمير المؤمنين، فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام، وليس عليك منه عين، فقال يا أمير المؤمنين أتكلم على الأمان وعلى طرح الهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما آمر به؟ قال: لك ذلك، فقال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر له فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصحفه حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذه وتصحفه حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ فلما بلغ قوله تعالى في سورة الرحمن:?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ?، قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين: والله، فاشتدَّ على الرشيد ذلك، فقال له هارون: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط. فنكس أمير المؤمنين رأسه - وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب - ثم رفع هارون رأسه إليه، فقال: والله، قال: الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله. قال هارون: إني أخاف مقام الله. فقال: يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست جنة واحدة، كما ذكر الله تعالى في كتابه! فسُمِعَ التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع له.

 

ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت وسل ما شئت تجب فيه، فقال: يا أمير المؤمنين وهذا الخادم الواقف على رأسك؟ فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين الضياع التي لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إليَّ لأنظر في أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعاً. فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد من هذا شيئاً بل تكون في يديَّ لأمير المؤمنين، فلا يجري علىَّ حيفُ العمال وأعِزُّ بذلك. فقال: لك ذلك، وأمر أن يكتب له ويسجل بما قال. وسأل هارون الرشيد الليث بن سعد: ما صلاح بلدك يا أبا الحارث؟ قال: جريُ نيلها، وعدلُ واليها، ومن رأس العين يأتي الكدر.

 

ولقربه من الخلفاء قرب المتعفف النزيه، كانت له لديهم حظوة قائمة على الثقة والتقدير بحكمته وتقواه، ونتج عنها أن أصبح زعيم مصر يسعى في خير أهلها وصلاحهم، وولى المهدي على مصر موسى بن مصعب وكان ظالماً غاشماً فثار عليه أهل الحوف وقتلوه في سنة 168، ولم يُخفِ الليث بن سعد كراهيته لموسى بن مصعب على ظلمه وجوره، وكان مرة في صلاة الجمعة وموسى بن مصعب يخطب الناس، فذكر الآية من سورة الكهف: ?إنّا أعْتَدْنَا لِلظّالمِينَ نَاراً أحَاطَ بِهِمْ سُرَادُِقُهَا?، فقال الليث، وموسى يخطب: اللهم لا تَقِه منها.

 

ثم ولى أمير المؤمنين هارون الرشيد على مصر ابن عمه الأمير موسى بن عيسى بن موسى بن محمد، والذي أذِنَ للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها الوالي السابق علي بن سليمان، فبُنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة، وقالا: هو من عِمارة البلاد. واحتجا أن عامة الكنائس التي بمصر لم تُبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين.

 

وفي سنة 164 ولى الخليفة العباسي المهدي على قضاء مصر إسماعيل ابن النسفي الكندي، وهو أول من ولي قضاء مصر على مذهب أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة، وكان من خيرة القضاة إلا أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة في إبطال الأوقاف، فجاء أهل مصر بخلاف ما اعتادوا عليه وثقل أمره عليهم، وجاء الليث إلى القاضي إسماعيل، فجلس بين يديه، فقام إسماعيل، وأجلَّه، وأمره أن يرتفع، فقال: ما جئت إليك زائراً، وإنما جئت إليك مخاصماً. قال: في ماذا؟ قال: في أحباس المسلمين، قد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فمن بقي بعد هؤلاء!! وقام، فكتب إلى الخليفة المهدي في بغداد، فورد منه في منتصف سنة 167 كتاب إلى الليث بعزل القاضي، فأتاه الليث فجلس إلى جنبه، وقال للقارئ: اقرأ كتاب أمير المؤمنين. فقال له إسماعيل: يا أبا الحارث، وما كنت تصنع بهذا! والله لو أمرتني بالخروج لخرجت من البلد. فقال له الليث: إنك والله - ما علمتُ - لعفيف عن أموال الناس.

 

ولا غرو أن يضيق الإمام الليث بن سعد بهذا القاضي فالليث مؤسس الأوقاف بمصر، ذكر بلديُّه القلقشندي في صبح الأعشى الوظائف الدينية في مصر في ذكر ناظر الأوقاف الخيرية فقال:  نظرُ الأحباس المبرورة، وهي وظيفة عالية المقدار، وموضوعها أن صاحبها يتحدث في رزق الجوامع و المساجد والربط والزوايا والمدارس من الأرضين المفردة لذلك من نواحي الديار المصرية خاصةً، وما هو من ذلك على سبيل البر و الصدقة لأناس معينين، وأصل هذه الوظيفة أن الليث بن سعد رحمه الله اشترى أراضي من بيت المال في نواحٍ من البلدان وحبسها على وجوه البر، وهي المسماة في ديوان الأحباس؛ وجوه العين، ثم أضيف إلى ذلك الرباع والدور المعروفة بالفسطاط وغيره.

 

ولهذه الحظوة والنفوذ حسده بعضهم وقال بيتين وبعث بهما إلى أبي جعفر المنصور:

 

لعبد الله عبد الله عندي... نصائحُ حِكتُها في السر وحدي

 

أميرَ المؤمنين تلافَ مصراً... فإن أميرها ليثُ بن سعد

 

قال أشهب بن عبد العزيز: كان لليث بن سعد كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، أما أولها فيجلس ليأتيه الوالي في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه الوالي فإن أنكر من القاضي أمراً أو من الوالي كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول: نجِّحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، قال: وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر.

 

كان الليث بن سعد من أثرياء مصر، كانت ضيعة قرب رشيد في شمال مصر تغل عليه مبلغاً كبيراً من المال، وخرج يوماً فقوموا ثيابه ودابته بثمانية عشر الف درهم إلى عشرين ألفاً، وتتباين الروايات تبايناً كبيراً في مقدار دخله السنوي، من 5.000 دينار  إلى 80.000 دينار، ولكن الروايات تتفق على سخائه وكرمه وإنفاقه إنفاق من لا يخشى من ذي العرش إقلالا، حتى ما وجبت عليه الزكاة في عام من الأعوام.

 

وأرجح أن يكون دخله هو المبلغ الأخير، لأن كرمه شيء مدهش يفوق التصور، قال شعيب بن الليث: خرجت مع أبي حاجا فقدم المدينة فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رُطَب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.

 

وكان الليث بن سعد يصل الأمام مالك بن أنس بمئة دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: إن عليَّ دَينا، فبعث إليه بخمسمئة دينار، وكتب إليه مالك: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث إلي شيئا من عُصْفُر، فبعث إليه ثلاثين حِملاً من عصفر، فصبغ لابنته وباع منه بخمسمئة دينار وبقي عنده فضلة.

 

وكان الليث يعمل لأصحابه من العلماء الفالوذج ويحشوه بالدنانير، تحفيزاً لأصحابه على الاستزادة من ضيافته ومساعدة لهم بطريقة كريمة هي أقرب للدعابة.

 

وفي سنة 170 احترقت دار الإمام المحدث القاضي عبد الله بن لَـهِيعة، وكان جمّاعة للكتب رحالة في طلب الحديث، فبعث إليه الليث بألف دينار أو ورقاً قيمته كذلك.

 

ودرس على الليث بن سعد إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال مؤسس دولة الأغالبة في إفريقية، وهو ما كان يطلق على تونس آنذاك، وكان فقيهاً عالماً أديباً شاعراً خطيباً، ذا رأى وبأس وحزم ومعرفة بالحرب ومكائدها، جرىء الجنان طويل اللسان حسن السيرة، لم يل إفريقية أحد قبله من الأمراء أعدل في سيرة ولا أحسن لسياسة ولا أرفق برعية ولا أضبط لأمر منه. وكان في أول حالته كثير الطلب للعلم والاختلاف إلى الليث بن سعد؛ ووهب الليث له جارية بارعة الجمال اسمها جلاجل وهي أم ابنه زيادة الله بن الأغلب.

 

وجاء إلى مصر الواعظ منصور بن عمار السلمي الخراساني، وكان موهوباً في الوعظ وترقيق القلوب والقصص، وكان في قصصه وكلامه شيئاً عجبا لم يقص على الناس مثله، وجرت له قصة مع الليث بن سعد تبين زعامة الليث وفضله وكرمه، قال منصور بن عمار: لما قدمت مصر وكان الناس قد قحطوا، فلما صلوا الجمعة رفعوا أصواتهم بالبكاء والدعاء، فحضرتني النية فصرت إلى صحن المسجد فقلت: يا قوم تقربوا إلى الله بالصدقة، فإنه ما تُقُرِبَ إليه بشيء أفضل منها. ثم رميت بكسائي ثم قلت: اللهم هذا كسائي وهو جهدي وفوق طاقتي. فجعل الناس يتصدقون ويعطوني ويلقون علي الكساء، حتى جعلت المرأة تلقي خُرصها وسِّخَابها، حتى فاض الكساء من أطرافه، ثم هطلت السماء فخرج الناس في الطين والمطر.

 

فلما صليت العصر قلت: يا أهل مصر أنا رجل غريب ولا علم لي بفقرائكم، فأين فقهاؤكم؟ فدُفِعتُ إلى الليث بن سعد فقال: ما حملك على أن تكلمت في بلدنا بغير أمرنا؟ قلت: أصلحك الله، أعرض عليك، فإن كان مكروها نهيتني فانتهيت وإلا لم ينلني مكروه. فقال تكلم فتكلمت فقال: قم لا يحل لي أن أسمع هذا الكلام وحدي. فدعا ابن لهيعة فنظرا إلى كثرة المال فقال أحدهما لصاحبه: لا تَحـَرك. ووكلوا به الثقات حتى أصبحوا.

 

ثم أدلجت إلى الإسكندرية وأقمت بها شهرين، فبينا أنا أطوف على حصنها وأُكبِّر، فإذا أنا برجل يرمقني فقلت: ما لك؟ قال: يا هذا أنت قدمتَ مصر؟ قلت: نعم، قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قلت: نعم، قال: فإنك صرت فتنة على أهل مصر، قلتُ: وما ذاك؟ قال قالوا: كان ذاك الخضر دعا فاستجيب له، قلت: ما كان الخضر، بل أنا العبد الخاطئ.

 

قال منصور بن عمار: فأدلجت فقدمت مصر فلقيت الليث بن سعد، فلما نظر إلي قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قلت: نعم، قال: فهل لك في المقام عندنا؟ قلت: وكيف أقيم وما أملك إلا جبتي وسراويلي؟ قال قد أقطعتك خمسة عشرة فداناً. ثم قدمت عليه بعد ذلك فأخرج إلي جارية قيمتها ثلاثمئة دينار فقال: خذها. فقلت: أصلحك الله، معي أهل، قال: تخدمكم، قلت: جارية بثلاثمئة دينار تخدمنا؟! قال: خذها. فدخلت عليه بعد ذلك فسكت حتى خرج الناس ثم أخرج من تحت مصلاه كيساً فيه ألف دينار فألقاه إلي فقال: خذها هي لك على رصين كلامك هذا الحسن، صن بهذه الحكمة التي آتاك الله تعالى ولا تتبذل، ولا تُعلِم بها ابني الحارث فتهون عليه.

 

وممن درس على الليث بن سعد قاضي الأندلس وعالمها الإمام يحيى بن يحيى الليثي، المولود سنة 152 والمتوفى سنة 234، وكان من أشبه الناس بالإمام مالك في سمته وهيئته ونفسه ومقعده، جاء إلى مصر وهو شاب فدرس على الليث بن سعد، وكان يطمح أن يدرس على الإمام مالك في المدينة المنورة، فتحقق له ذلك بفضل دعاء الليث له، قال يحيى بن يحيى الليثي: أخذت بركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك العلم. فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكاً. وسمع يحيى الموطأ من الإمام مالك، وأُعجِبَ الإمام مالك بعقله، وقال عنه: هذا عاقل أهل الأندلس. وعاد إلى الأندلس، فنشر فيها مذهب مالك.

 

وجاءت امرأة إلى الليث وفي يدها قَدَح فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنا لي عليل واشتهى عسلا، فقال: يا غلام، أعطها راوية من عسل، أي جرة، فقال له كاتبه: إنما تسأل قدحاً، فقال: إنها سألتني على قدرها فأعطيناها على قدر السعة.

 

واشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة أرض زراعية، ثم لم تكن الغلة على ما أمَّلوا فاستقالوه فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسمئة دينار، فراجعه الحارث ابنه في ذلك فقال: اللهم غُفرا، إنهم كانوا أملوا فيها أملا فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا.

 

وكان الليث رحمه الله تعالى يظهر آثار نعمة الله عليه بإكرام ضيوفه وعلى رأسهم من قصده من طلبة العلم، ولما جاء مصر من أفغانستان شابٌّ في طلب الحديث هو المحدث الكبير أبو رجاء قتيبة بن سعيد البغلاني المتوفى سنة 240، أكرمه الليث واصطحبه معه من الإسكندرية إلى مصر، فروى عن حاله في هذه الرحلة ما يظهر لنا يسار الليث ومروءته، قال قتيبة: قفلنا مع الليث بن سعد من الإسكندرية وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه.

 

وكان الليث رحمه الله ذا مروءة كاملة لا يسوغ الطعام إلا مع أضيافه فمائدته ممدودة دائماً لمن قصدها، قال أحد أصحابه: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض.

 

وأخبار الليث بن سعد كثيرة وقد ألف فيها الإمام ابن حجر العسقلاني كتاباً أسماه: الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية، وألف عنه في عصرنا هذا فضيلة الإمام الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله كتاباً عنوانه: الليث بن سعد، إمام أهل مصر.

 

رزق الليث بولد أسماه شعيباً، ولد سنة 135 وتوفي سنة 199، أخذ عن والده العلم وصار فقيها مفتيا، من أهل الفضل، قال ابن وهب: ما رأيت ابنا لعالم أفضل من شعيب بن الليث.

 

ومع وجود ابنه وتلاميذه الكُثر، قيل: ذهب علم الليث بن سعد كله بموته. وقال الليث بن سعد: ما هلك عالم قط إلا ذهب ثلثا علمه ولو حرص الناس. وهذا لغزارة علمه وسعة فقهه، أما قول الشافعي لما قدم مصر بعد موته: والله لأنت أعلم من مالك وإنما أصحابك ضيعوك. فعنى أن تلاميذ الليث لم يصنفوا في مذهبه المؤلفات، ولم يبنوا على ما أسس لهم من قواعد في المسائل التي تناولها رحمه الله تعالى.

 

وكان لليث بن سعد كذلك حفيد سار على خطى والده وجده، اسمه عبد الملك بن شعيب، المتوفى سنة 248، وكان أحد الفقهاء المعدودين في زمانه، ومن المحدثين البارزين، روى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي.

 

توفي الليث بن سعد ودفن في القرافة بمصر، قال محمد بن عبد الرحمن: كنت جالستُ الليث بن سعد وشهدت جنازته وأنا مع أبي، فما رأيت جنازة أعظم منها ولا أكثر من أهلها، ورأيت كلهم عليهم الحزن والناس يعزي بعضهم بعضا ويبكون، فقلت لأبي: يا أب، كلُّ واحد من الناس صاحب الجنازة؟! فقال لي: يا بني، كان عالماً سعيداً كريماً، حسن الفعل كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبدا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين