المقربون

 

نبي الاستغفار والشكر:

إنَّ الحديث عن سيدنا نوح عليه السلام مُفَرَّق في كثير من سور القرآن الكريم، ولقد أنزل الله – مع ذلك – سورة خاصَّة تسمى بسورة (نوح) وفيها يقول الله سبحانه على لسانه: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12) ]. {نوح}. 

ويقول الله سبحانه وتعالى عنه في سورة الإسراء: [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا] {الإسراء:3}.

إنَّ الله سبحانه وتعالى كما خلق الكون المادي وجعل له قوانين مُطَّردة لا تتخلَّف، هيَّأ كذلك الوضع الاجتماعي ووضع له قوانين لا تتخلَّف، سواء في زوايا الخير فيه، أو في جوانب الشر منه.

لقد أبان الله تعالى عن قوانين الخير أسباباً ونتائج، ووضح سبحانه لقوانين الانهيار الاجتماعي أسباباً ونتائج، ومن ذلك قانون الاستغفار.

وقانون الاستغفار: قانون صالح للفرد، وقانون صالح للجماعة. 

وقبل أن نتحدَّث عن نتائج الاستغفار فإنه لابدَّ من تحديد المعنى، يقول الراغب الأصفهاني في مادة غفر: (الغفر إلباس ما يصونه عن الدنس، والغفران والمغفرة من الله تعالى هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب، قال: غفرانك ربنا، ومغفرة من ربكم، ومن يغفر الذنوب إلا الله... والاستغفار طلب ذلك بالمقال والفعال، وقوله: [...اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)]. {نوح}. لم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط، بل باللسان وبالفعال، فقد قيل: الاستغفار باللسان من دون ذلك بالفعال فعل الكذَّابين، وهذا معنى: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] {غافر:60} اهـ.

والاستغفار – إذن – هو تصميم مخلص باللسان والجوارح، وبالقول والفعل، على الرجوع إلى الله تعالى عن كل سيئة، وعلى التزام صراطه سبحانه في كل فعل، وعلى الاستنارة بنوره جلَّ وعلا في كل حركة. 

أو هو العهد الذي يلتزمه الإنسان فيما بينه وبين الله تعالى أن يصلح ما بينه وبينه.

وعنصر الصدق في الاستغفار، وعنصر الإخلاص فيه، هما من أركانه، لا ينفكان عنه، وإلا فهو استغفار الكذابين، ويكون بذلك سيئة تضاف إلى ما قدَّم العبد من سيئات.

وإذا تحدَّد المعنى على هذا النسق أثمر الاستغفار ثماره الكثيرة، ومن هذه الثمار ما ذكره الله تعالى نصاً في القرآن الكريم:

1 – {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}

2 – {وَيُمْدِدْكُمْ:}

أ - بِأَمْوَالٍ 

ب - وَبَنِينَ 

3 - وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ 

4 - وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.

ومن طرائف الإمام الورع التقي الزاهد: الحسن البصري رحمه الله تعالى – في حسن الاستنتاج – ما رواه الربيع بن صبيح أنَّ رجلاً أتى الحسن وشكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال: استغفر الله تعالى. وأتاه آخر فقال: ادعوا الله سبحانه أن يرزقني ابناً فقال له: استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله تعالى.

فقيل له: أتاك رجال يشكون ألواناً، ويسألون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار.

فقال: ما قلت من نفسي شيئاً، إنما اعتبرت قول الله عزَّ وجل حكاية عن نبيه نوح عليه السلام أنَّه قال لقومه: [...اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12) ]. {نوح}.

ومن هذا القبيل – تناسقاً وبياناً – الحديث الذي رواه كثير من أصحاب السنن، وقال عنه الحاكم: صحيح الإسناد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) ولكن هذه ليست وحدها ثمار الاستغفار وذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] {الأنفال:33}.

ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فيروي أبو بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] {الأنفال:33}. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة).

ويقول ابن عباس رضي الله عنهما عن الآية الكريمة: (إن الله تعالى جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما دام بين أظهرهم: فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقي فيكم: وقوله: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] {الأنفال:33}.

وعن فَضَالة بن عُبَيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عن وجل).

أما عن الاستغفار ودوره في مغفرة الذنوب فقد روى كثير من أصحاب السنن عن الإمام علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته...قال: (وحدثني أبو بكر رضي الله عنه – وصدق أبو بكر – أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له، ثم قرأ هذه الآية: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.

ومن هذا النسق يروي علقمة ويروي الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: في كتاب الله عزَّ وجل آيتان ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما واستغفر الله عزَّ وجل إلا غفر الله تعالى له: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.

وقوله عزَّ وجل: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}.

ويروي الإمام الغزالي رحمه الله تعالى عن بعض العلماء أنه قال: العبد بين ذنب ونعمة، لا يصلحهما إلا الاستغفار والحمد.

ويروى عن قتادة رحمه الله تعالى قوله: (القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم: أما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار).

ومن نصائح رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين ما رواه الحاكم بسنده عن محمد بن عبد الله بن محمد بن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واذنوباه... واذنوباه... فقال هذا القول مرتين أو ثلاثاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: (اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، فقالها، ثم قال: (عد) فعاد ثم قال (عد) فعاد، ثم قال: قُمْ فقد غفر الله لك)

وصيغ الاستغفار كثيرة وكلها مباركة، ومنها ما رواه الإمام مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في استغفاره: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي).

(اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).

أما سيِّد الاستغفار فهو كما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

وبعد: 

فإنَّ ضرورة الاستغفار تتضح مما يلي: 

روى الإمام الترمذي حديثاً حسناً صحيحاً بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبَه، فذلك الرانُ الذي ذكر الله تعالى: [كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {المطَّففين:14}.

وعن البراء رضي الله عنه قال له رجل: (يا أبا عمارة [وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] أهو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يُقتل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفره الله) رواه الحاكم وصحَّحه.

وأما بعد:

فإنَّ الاستغفار بل كثرة الاستغفار من خصائص المقرَّبين، وليس له وقت معيَّن، إنَّه مستحب ومندوب ومطلوب في كل الأوقات حتى ولو لم يكن ذنب، يقول سبحانه في إطلاق لا تحديد فيه: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] {النَّصر:3}.

ومع هذا الإطلاق العام فإنَّ الله سبحانه وتعالى ذكر الأسحار باعتبارها من الأوقات التي يستغفر فيها المتقون، ومن أجل ذلك فإنَّ الذين يَستيقظون في ثلث الليل الأخير حريصون على انتهاز فرصة نزول ربنا سبحانه إلى السماء الدنيا مُنادياً: ألا هل من مُستغفر فأغفر له، ألا هل من تائب فأتوب عليه، ألا هل من سائل فأعطيه.

يخصصون دائماً أوقات الأسحار للاستغفار مع استغفارهم كلما تفضَّل الله تعالى عليهم بتهيئة الفرصة لاستغفاره، يقول تعالى في سورة آل عمران: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ] {آل عمران:14}.

[قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ] {آل عمران:15} 

[الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {آل عمران:16} 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الخامسة والثلاثون، شعبان 1393).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين