التشويق إلى القرآن

 

تفصلنا ساعات عن بدء النفحات الطيبة المباركة، عن أيام رمضان، ذلك الشهر الذي جعله الله انقلابا في نظام المؤمن، فيه ينتبه المرء لحاجات روحه ويجاهد حاجات جسده، فيه يتغير طعم الأيام وتتغير أولويات الحياة، إليه يشتاق المؤمن، ومنه ينفر الذي أصاب قلبه المرض، وهو باب اختبار يرى فيه المرء كم بلغت الدنيا في نفسه، فكلما اشتد وثقل على النفس أمر الصيام والعبادة كلما دقَّ جرس الخطر يخبره أنه قد ابتعد وتاه في أودية الدنيا وأنها تسربت إلى قلبه وتشربتها روحه، وكلما رأى المرء في رمضان منقذا وضرورة واشتاق له وأقبل عليه كلما كان هذا إشارة إلى أن نفسه أقرب إلى الهدى، وأن حاجات الدنيا لم تزل غير مسيطرة على حسه وضميره.

 

وقد صار رمضان بهذه المكانة لسبب وحيد.. أنه الشهر الذي تشرف بنزول القرآن فيه، فالقرآن هو الذي شرَّف رمضان، فالشرف من القرآن لا من رمضان! تفكرت في كتابة شيء يثير الأشواق إلى كتاب الله، فكانت هذه اللمحات..

 

(1) المشهد الحيّ

للقرآن طريقة بديعة في وصف المعاني، تعبيرات القرآن ترسم مشهدا حيا.. وصف الله حال المتجبرين يوم القيامة فقال (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَ?نِ عِتِيًّا)، ففي ذلك اليوم سيبدأ العذاب بالأعتى فالأعتى، الأظلم فالأظلم، أكثر قومه فجورا وتجبرا.. يأخذه الله فيكون أول قومه عذابا.. لكن هذا الوصف بالنزع، يرسم مشهد المتجبر وقد صار ضعيفا متكوما متكورا ملتصقا بقومه يحاول أن يدفن نفسه فيهم ويتعلق بهم، يجتهد في الهروب من يد العذاب.. ثم تأتي يد العذاب فتصل إليه وهو على هذه الحال الذليلة فتنتزعه انتزاعا، ثم تلقيه في العذاب.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا..)، لقد أمر الله بأخذ الحذر في حال الجهاد لا بأخذ الحذر الذي يؤدي إلى القعود، على المسلم أن يجاهد وهو يحذر، لا أن يحذر فيقعده الحذر عن الجهاد!

هكذا صار حال الجبار الفاجر المستهزئ، قطعة صغيرة تتخفى وتتدثر وتلتصق وتهرب، ذهب الفجور والتجبر وانقلبت الصورة!!.. أو قل: اعتدلت الصورة!

 

(2) القرآن كائن حي

كم من حيرة تشغل المرء ليلا أو نهارا حتى إذا فتح كتاب الله كأنما وجد إجابة حيرته في آية! كأنما الآية تكاد تكون تنطق وتتكلم! قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا)

 

هل ترى كيف أن بعض الناس يرى أن قرار القتال حتى وإن كان قد نزل من الله فإنه سابق لأوانه، لم تأت اللحظة المناسبة بعد! وكانوا يتمنون لو أنه تأخر قليلا!! هكذا تتمرد النفس على ما لا تحبه، تُسبغ عليه من المبررات العقلية ما يجعله حكمة العقل لا هروب النفس من التكاليف، حتى إن بعض المسلمين أحبَّ لو تأخر نزول الأمر بالجهاد قليلا! والواقع أن هذا لم يكن إلا تعلقا بالدنيا.. ولهذا قال الله: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تُظلمون فتيلا!

 

كم مرة في حياتنا تهربنا من الواجبات بدعوى الوقت الذي لم يحن بعد، والقرار السابق لأوانه؟!.. أكاد أرى من يُكثر من قول "سابق لأوانه، لم يحن وقته" لا يكون مقداما أبدا! ومثل هذه الآية في ذات المعنى قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا..)، لقد أمر الله بأخذ الحذر في حال الجهاد لا بأخذ الحذر الذي يؤدي إلى القعود، على المسلم أن يجاهد وهو يحذر، لا أن يحذر فيقعده الحذر عن الجهاد!

 

اقرأ الآية كاملة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا. وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا. فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).

 

أليست هذه الآية كائنا حيا يُخاطب كأنما يكاد يتكلم؟! وهكذا، كلما ازداد المرء ارتباطا بكتاب الله كلما رأى في آياته نورا وهداية ودليلا.

 

(3) القرآن وأسرار النفس

حين يتدبر المرء آيات القرآن ويراجعها ويتأملها، يعرف أن في أغوار نفسه البعيدة بخلا عميقا.. بُخْلٌ لا وصف له أدق من وصف الله (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ)

أمر الله بالإنفاق في سبيله مرات عديدة.. لكن الأرباع الأخيرة في سورة البقرة مما كثر فيها الحديث عن الإنفاق والترغيب فيه.. لكن اللافت للنظر في هذه الآيات هي تلك الخواتيم:

 

(وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، (وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

 

خواتيم الآيات تؤكد تأكيدا متكررا، بطرق متنوعة، وألفاظ متعددة ومتقاربة أحيانا، على حقيقة واحدة: أن الله لن يفلت من علمه شيء مما تنفقون وأنه سيجزي عنه أضعاف مقداره، وأنه غني واسع حميد! من هذه الخواتيم يعرف المرء قوة البخل في نفسه، بخلٌ تعالجه الآيات بشتى السبل لكي ترتاح النفس وتطيب حين تنفق من المال.. فلولا الأجر الكبير المضاعف من الغني الواسع العليم الخبير لكانت النفس تبخل فلا تنفق في سبيل الله..

 

حين يتدبر المرء هذه الآيات ويراجعها ويتأملها، يعرف أن في أغوار نفسه البعيدة بخلا عميقا.. بُخْلٌ لا وصف له أدق من وصف الله (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ)! ويا له من تصوير عنيف مزلزل.. به يعرف المرء طبيعة نفسه!

 

(4) القرآن والكافرون

يخجل المرء من نفسه إذا قرأ لبعض المستشرقين ومن لم يُسلموا شيئا في مدح القرآن والتأثر به، لقد سلكت معاني القرآن إلى نفوسهم رغم حاجز اللغة وشوائب الترجمة.

 

يقول المستشرق الفرنسي مارسيل دي بوازار: "إن القرآن لم يُقَدَّر قَطُّ لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"

يتحدث الكولونيل البريطاني رونالد فيكتور بودلي عن سحر القرآن وأثره الهائل فيقول: "لهذا الكتاب سحر خفي، له تأثير عجيب في العرب؛ فقد حوَّل الرعاة والتجار والبدو والبسطاء إلى مقاتلين وبناة إمبراطورية، ومؤسسي مدن كبغداد وقرطبة ودلهي، وإلى علماء وحكماء ورياضيين، وإن هذا الكتاب -ولا شَكَّ- لهو الذي عاون هؤلاء الرجال على أن يغزوا عالمًا أوسع من العالم الذي سيطر عليه الفرس والروم، وقد فعلوا ذلك في عشرات السنين، واستغرق ذلك ممن سبقوهم قرونًا"[1].

 

ويراه هنري دي كاستري سرا مكنونا لا يفتح بابه إلا لمؤمن، يقول: "أتى محمد بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، وهو لا يزال إلى يومنا هذا سرًّا من الأسرار التي تعذر فكّ طلاسمها، ولن يسبر غور هذا السرَّ المكنون إلا مَنْ يُصَدِّق بأنه مُنَزَّل من الله"... ويضيف: "لو لم يكن في القرآن غير بهاء معانيه وجمال مبانيه لكفى بذلك أن يستولي على الأفكار ويأخذ بمجامع القلوب"[2].

 

وفي كلمة بديعة يقول القانوني والمستشرق الفرنسي مارسيل دي بوازار: "إن القرآن لم يُقَدَّر قَطُّ لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة"[3].

والسؤال المحرج هنا: كيف استطاع هؤلاء أن يفهموا من القرآن ما لا يفهمه كثيرون فينا؟! أليس هذا مشوقا لأن نقرأ كتاب الله بعناية وتأمل؟!

 

المراجع:

[1] الرسول ص235.

[2] الإسلام خواطر وسوانح ص46.

[3] إنسانية الإسلام ص109.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين