من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان

يقول الله سبحانه: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}. ويقول: [مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ] {النساء:80}.

فأحقُّ الناس باقتداء المسلمين به والاهتداء بهديه في قوله وفعله وخلقه هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولاسيما وهديه صلى الله عليه وسلم خير الهدى، وطريقته أقوم الطرق وأعدلها، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم أكرم الأخلاق وأقربها إلى الفطرة السليمة.

وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان كثرة الجود والبر، روى البخاريُّ في صحيحِه بسندِه عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

والصائم إذا أحسَّ بألم الجوع ومرارة الحرمان وحرارة العطش كان ذلك أكبر وازع له وأعظم واعظ، فلا يسعه إلا البذل والعطاء، والعطف على البائسين والمحرومين، وإنَّ من أكثر من البر في رمضان فقد أحيا سُنَّة من سننه صلى الله عليه وسلم، ومن ذا الذي لا تتوقُ نفسه إلى إحياء سُنة من سننه صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: (طوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي).

ومن البرِّ في رمضان: إطعام الطعام ولاسيما للصائمين، روى الترمذي في سننه عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء). 

وتقديم الطعام للصائم عند إفطاره من خِلال الخير التي ينبغي أن تُطلب، ومن الفضائل التي تستحق التنويه، روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاءه بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة).

وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم في لطف إلى أنَّ الارتفاق بإطعام الطعام لا يكلف المطعم أكثر مما يصنع لنفسه ما دامت النفوس عامرة بالسماحة والقناعة فقال: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) رواه البخاري ومسلم.

ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: كثرة الذكر، وتلاوة القرآن والإكثار من العبادة والقيام في الليل وبخاصة في العشر الأواخر من رمضان، ففي الحديث المتفق عليه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدَّ مِئْزره – أي: اجتهد في العبادة – وأيقظ أهله، وأحيا ليله) وذلك لأنَّ قيام هذه العشر مَظِنَّة قوية لموافقة ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور – أي يعتكف – في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) وأرجى هذه الليالي أوتارها كما ورد في الصحيح.

ومن هديه صلوات الله وسلامه عليه: تعجيل الفطر وتعجيل الصلاة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). 

وروى مسلم بسنده عن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة رضي الله عنها فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلاهما لا يألوا – أي لا يقصر – عن الخير، أحدهما يُعجِّل المغرب والإفطار، والآخر يؤخر المغرب والإفطار، فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟ قال: عبد الله بن مسعود، فقالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع).

وكانت طريقته صلى الله عليه وسلم أن يُفطر على رطبات أو تمرات فإن لم يجد فعلى ماء، ثم يصلي المغرب، ثم بعد ذلك يأكل ما تيسَّر له، مع تجنُّب الإفراط والإسراف كما هو شأنه دائماً.

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حَسَا حسوات من ماء) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

وهذه الطريقة النبويَّة هي أقوم الطرق وأحسنها لصحَّة البدن؛ لأنَّ تناول الطعام الخفيف أو الماء بمثابة إيقاظ للمعدة وتنبيه لها، فإذا ما أكل الصائم بعد هذا تكون معدته على استعداد لتقبل الطعام وهضمه هضماً جيداً، ولعلَّ في شرب النبي صلى الله عليه وسلم الماء على طبيعته ما يرشد الصائم إلى أن يتحاشى ما استطاع المشروبات المفرطة في البرودة لأنها تعطل المعدة عن عملها وتورث ضرراً، وهذا هو السر فيما ينتاب الكثيرين منا في رمضان من اضطراب في الجهاز الهضمي، وأما شرب الساخن أو الدافئ فإنه أفيد وأحسن لأنه يساعد على الهضم، ولا يسبب للمعدة أي اضطراب أو ضرر، وأما ما يصنعه الكثيرون منا الآن من الإفراط في شرب المثلجات أو النقيع المثلج، فالإقبال بنهم وشَرَه على ما لذَّ وطاب من أنواع الطعام حتى لا يدع في معدته مُتنفَّساً ثم يكون الاسترخاء فالنوم فعجز المعدة عن أداء وظيفتها، فأبعد ما يكون عن هدي النبوة.

ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: السحور، ففي الحديث المتفق عليه: (تسحَّروا فإنَّ السحور بركة)، وروى أبو داود والنسائي بسندهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان وقال: هلمَّ إلى الغذاء المبارك). 

وكيف لا يكون للسحور بركة؟ وهو الذي يُقوِّي الصائم ويعينه على صيام النهار، والقيام بأعماله على خير ما تكون، ويخفف من غلواء الجوع والعطش فلا تضيق نفسه ولا تسوء أخلاقه، وقد أشار إلى هذا الرسول صلوات الله عليه وسلامه بقوله: (استعينوا بالقيلولة على قيام الليل، وبالسحور على صيام النهار) رواه ابن ماجه.

ومن السنة في السحور: تأخيره إلى قبيل الفجر ليكون أدعى إلى المعاني التي ذكرناها، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قيل كم بينهما؟ قال خمسون آية) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) قال ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا، ومن ثم يتبين أنَّ من أكل بعد مدفع الإمساك، وقبل طلوع الفجر وأذانه، فلا حرج عليه في هذا، وهذه من المسائل التي تشتبه على بعض الناس فيظنون أن تناول شيء بعد وقت الإمساك لا يجوز ومفسد للصوم، ويظهر أنَّ تحديد وقت للإمساك أمر قديم بل بلغ الأمر ببعض الناس في العصور السابقة أن قدموا الأذان الثاني إلى وقت الإمساك، وقد اعتبره الحافظ ابن حجر من البدع: 

قال في الفتح: (تنبيه، من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام زعماً ممن أحدثه أنَّه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت زعموا، فأخروا الفطور وعجَّلوا السحور وخالفوا السُنة، فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر والله المستعان).

ومن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السحور: التخفيف فيه، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعم سحور المؤمن التمر) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، وروى الإمام أحمد بإسناد قوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عزَّ وجل وملائكته يصلون على المتسحرين).

وهذا الهدي النبويُّ في الإفطار والسحور هو ما يُشير به نطس الأطباء اليوم ويؤيده الطب الحديث، وصدق الله حيث يقول: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3-4}.

أيها المسلمون في كل قطر، هذا هو هدي نبيكم في رمضان مُتجاوب مع الفطرة السليمة كل التجاوب، لا عَنَتَ فيه ولا مشقَّة، ولا تبذير ولا إسراف، ولا تكليف فيه فوق الطاقة الماليَّة أو البدنيَّة، فمن أراد فلاحاً في دينه ودنياه وسعادة في أولاه وأخراه وصِحَّة لبدنه وزكاة لروحه وصلاحاً لحاله فعليه بالتأسي بهذا الهدي النبويِّ القويم، ففي اتباعه الفوز بمحبة الله تعالى ورضوانه، وصدق الله تعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد الثامن والعشرون، غرة رمضان 1376 - العدد 9).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين