الحكم بالكفر لا يضاد المواطنة

 

هدم الثوابت والتشكيك في المسلَّمات: 

صرنا في عصر يهدم فيه من يهدم في الثوابت، ويشكك من يشكك في المسلَّمات، والمحزن في الأمر أن نجد بعض من يشارك في ذلك هم من "علماء" الأزهر، بل من عمداء الكليات الشرعية سابقا وحاليا، ومن أعضاء مجمع البحوث الإسلامي.

الأزهر قلعة الإسلام التي استعصت على الاختراق، زمنا طويلا، والتي كان لها دورها في الحفاظ على الدين واللغة، والتي لها مكانتها التي نعلمها جميعا في شرق العالم الإسلامي وغربه، وصدق الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا".

وجدنا ممن يتزيى بزي الأزهر وممن تخرج فيه، وحاز شهادته العالمية، وممن كان عميدًا لبعض كلياته الشرعية، ومن هو عضو بمجمع البحوث الإسلامية،  وجدنا من هؤلاء من يخرج علينا على شاشات الفضائيات، ليخالف قطعيات العقيدة، ومسلمات الدين، والمعلوم من الدين بالضرورة.

آخر التُّرهات التي يثيرها هؤلاء، هي موضوع (كفر غير المسلمين)، هذا الأمر الذي يعلمه الصغير والكبير، والمتعلم والأمي، والعالم والجاهل، ومن نشأ من المسلمين في بلاد المسلمين، ومن نشأ بعيدا عن ديار الإسلام، وهو أمر مقرر في القرآن بآيات قطعيَّة، ومقرَّر في السنة بأحاديث صحيحة، وأجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، وأجمع عليه أهل القبلة قاطبة بكل فرقهم أهل السنة والمعتزلة الشيعة والخوارج والمرجئة، وأجمعت عليه مذاهب الإسلام المعمول بها والتي انقرضت من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا، ولم يشذ عن ذلك إلا أصوات الغربان التي بدأت تنعق في أيام الناس هذه.

يقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:17].

ويقول: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:72، 73].

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:150-152]. في آيات كثيرة لكن اكتفيت بهذه الآيات قطعية الدلالة. 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسُ محمد بيده، لا يسمعُ بي أحد من هذه الأمَّةِ: يهودِيّ ولا نصرانيّ، يموت لم يُؤمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلا كان من أصحابِ النَّار". والأمة هنا هي أمة الدعوة التي تشمل البشرية جميعا، من لدن بعثته إلى قيام الساعة.

وقال ابن حزم في (مراتب الإجماع): واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا.

وقال الحجاوي في الإقناع (حنبلي) في سياق حدثيه عما يوجب الردة: أو لم يكفِّر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحَّح مذهبهم، أو قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة - فهو كافر.

قال القاضي عياض في الشفا:" نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك".

معنى الكفر:

الكفر ليس مقصورًا على إنكار وجود إله للكون، بل يشمل كل من أنكر كون الله عالمًا قادرًا مختارًا، أو كونه واحدًا، أو كونه منزهًّا عن النقائص والآفات، أو أنكر نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو صحَّة القرآن الكريم، أو آية من آياته، أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة، كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر والزنى، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام أو نشأ بعيدًا عن ديار الإسلام.

وكفر النصارى هو كفر من عدة جهات من جهة التكذيب برسول الله صى الله عليه وسلم والتكذيب بكتابه الخاتم وهو القرآن.

هل النصارى مؤمنون بالله؟

الإيمان بالله ليس إيمان بقوة غيبية خلقت الكون، بل إيمان بالله البائن من خلقه المتصف بكل كمال، المنزَّه عن كل نقص، الذي لا يحل في العباد ولا يتحد معهم، المنزه عن الصاحبة والولد، فهل يؤمن النصارى بهذا الإله؟

النصارى يؤمنون بإله واحد مكون من أقانيم ثلاثة: الآب والابن والروح القدس.‏ وهذه الأقانيم الثلاثة متساوية،‏ سرمدية،‏ وقادرة على كل شيء.‏ لذلك تعلِّم عقيدة الثالوث أن الآب هو الله،‏ الابن هو الله،‏ والروح القدس هو الله،‏ وجميعهم إله واحد هو الله.‏

وأن المسيح هو إله حق من إله حق، أزلي خالق، قادر علي كل شيء، موجود في كل مكان، غير محدود.. فاحص القلوب والكلى، قدوس، رب الأرباب، غافر الخطايا..  مولود من الآب الذي هو أيضًا إله حق.

فهل الله "الواحد" الذي يؤمن به النصارى هو الله الحق تعالى الذي يؤمن به المسلمون؟

بعض ما يستشهد به من ينكر كفر النصارى:

يعمد هؤلاء الذين خالفوا ما قررته النصوص القطعية من كتاب الله وسنة رسوله وأجمعت عليه الأمة، إلى بعض آيات من كتاب الله ظنية الدلالة، فيفسرونها تفسيرًا مغايرًا لما استقرَّ عليه أهل التفسير، مخالفين آيات أخر صريحة، وكان ينبغي عليهم، وفْق ما قرَّره علم أصول التفسير، أن يردوا المتشابه إلى المحكم، والظني إلى القطعي، وأن ينظروا في السباق واللحاق، وأن يستعينوا بأسباب النزول... إلخ هذه القواعد الي قعدها علماء علم أصول التفسير.

من هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

وهذه الآية جاءت في سياق نفي الإيمان عن أهل الكتاب {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ولو تفيد امتناع جواب الشرط لامتناع الشرط، وفي سياق أنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقبلها نهي المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وبيان ما عليه أهل الكتاب من الضلال ومعاداة أهل الإيمان، وجاء بعدها التصريح بكفر الذين قالوا إنا الله هو المسيح بن مريم والذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة (الآيات من 51 إلى 84 من سورة المائدة – أرجو قراءتها كاملة).

فما معنى:  {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}؟

الآية تربط بين هذه الأمة وبين الأمم المؤمنة قبلها من اليهود والنصارى والصابئين وأتباع كل الأنبياء قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين أن معاملة الله واحدة للجميع، فمن حقق الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، من هذه الأمة أو من أمم الأنبياء السابقين وأتباعهم. 

والآية لا تعني أن الأديان الحالية كلها حق، يصح للإنسان أن يتديَّن بها، بل هي تتحدث عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام، فهي تقول: إن الناجين من هؤلاء المذكورين ليسوا من عبد المسيح أو قال: إن الله ثالث ثلاثة، ولا الذين قتلوا الأنبياء، ولا الذين غضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير، ولا الذين عبدوا الطاغوت وقالوا: يد الله مغلولة، وإنما من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.

وفي السياق ذاته يأتي قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. ولن أذهب إلى ما ذهب إليه الأستاذ سيد في ظلاله من أن الآية مخصوصة بقوم من النصارى أسلموا، بل سأسير مع جمهور المفسرين من أن الآية عامة وإن جعلها بعضهم لعصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم رأوا أن الخطاب في الآية خاص به، لكن الآية تقرر حكما تاريخيا، وهو عداء اليهود للمسلمين، وأن النصارى أقرب مودة من اليهود، فالناظر في التاريخ يجد أن من أسلم من اليهود عبر تاريخ الإسلام يعدهم العاد، بينما أسلمت أمم كاملة من النصارى أو على الأقل أسلم جلهم، وذلك ناتج عن اختلاف فلسفة الدينين، فالنصرانية دين يدعو إلى التسامح (استغفروا لأعدائكم وباركوا لاعنيكم)، (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر)، على عكس أدبيات اليهود، الدين القومي، الذي يبحث عن ملك يهوذا الضائع، والذي يرى أن بني إسرائيل شعب الله المختار.

ويعجبني ملمح أشار إليه الشيخ الشعراوي في الآية، وهو أن قرب المودة هذا، معلل بعلل ثلاث: أن منهم قسيسين، ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون. فإذا فقدت هذه الشروط، وتولى البابوية الحكام، وترك النصارى الرهبنة والزهد في الدنيا، وسعوا إلى العلو في الأرض والاستكبار، انتفى المعلول، وهو قرب المودة، فالعلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، والواقع التاريخي يؤيد ما ذهب إليه الشيخ الشعراوي، فلما تحول القساوسة من قادة روحيين إلى أصحاب سلطة دنيوية، وحينما طمع من زعم الرهبنة في سمن الشرق وعسله، كانت الحروب الصليبية، وحينما أصبحت البابوية والتبشير أداة في يد الاستعمار الحديث، ومطيَّة لسيطرته على الشعوب وثرواتهم، كان ما نعلمه كلنا مما فعله الاستعمار ببلاد الإسلام، وإذا عادت البابوية إلى سابق عهدها: قسيسين يقودون أتباعهم روحيا، ورهبانا يزهدون في الدنيا، والتواضع والبحث عن الحق وعدم الاستكبار والعلو، يعود قرب المودة المذكور في الآية. ويضرب القرآن مثالا حيا بالنجاشي ومن أسم معه من القساوسة والرهبان: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} وكان جزاؤهم:  {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.

وللقارئ أن يبحث في كل آية يستشهد بها هؤلاء في سباقها ولحاقها، ويقرأ في تفسيرها وأسباب نزولها ليدرك أن هؤلاء المعممين يحرفون الكلم عن مواضعه.

نقاط على الحروف:

1-  أن صاحب كل عقيدة مؤمن بها كافر بكل ما يضادها، فالمسلم الذي آمن بعقيدة الإسلام كافر بعقيدة التثليث وبعقيدة الصلب والفداء، وبكل عقيدة تخالف عقيدة الإسلام: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله".

ولا يجد المسلم غضاضة إذا قال له النصراني: أنت كافر بعقيدتي. 

وكذلك النصراني كافر بمحمد وبقرآنه وبشرعه.

2- إن الوصف المسلم لغيره بالكفر لا يعني أن يسيء إليه أو يظلمه أو ينتقصه حقه، بل الإسلام يدعو إلى التسامح، ما لم يعتدوا على الإسلام وأهله، يقول تعالى: {ودَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

فهو وصف عقدي مرتبط ببعض الأحكام القانونية كعدم تولي الإمامة العامة للمسلمين، وعدم التوارث بينه وبين المسلمين، وعدم تزوج الكافر من المسلمة، وأبيح تزوج المسلم من الكتابية المحصنة (العفيفة(.

3- الوصف بالكفر حكم دنيوي، أما أحكام الآخرة فمتعلقة في حق من يعلن إسلامه بحقيقة ما في قلبه، فالمنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر في الدرك الأسفل من النار. وغير المسلم الأمر في حقه متعلق ببلوغ الدعوة فجمهور الأشاعرة خلافا للماتريدية والمعتزلة يرون نجاة من لم تبلغه الدعوة أو بلغته بلوغا مشوها لا يدفعه إلى البحث والنظر.

 قال أبو حامد الغزالي في فيصل التفرقة:" أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة -إن شاء الله تعالى-، أعني: الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:

صنف لم يبلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- أصلًا، فهم معذورون.

وصنف بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.

وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضًا منذ الصبا أن كذابًا ملبسًا اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له: المقفع، ادعى أن الله بعثه وتحدَّى بالنبوة كاذبًا. فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب". اهـ. 

ونجد كلاما قيما للإمام ابن القيم حيث يقول: " صحَّ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً"، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم.

نعم لا بد فى هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان فى الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضًا: أحدهما: مريد للهدى مؤْثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. 

الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. 

فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى. 

والثاني: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأَول كمن طلب الدين فى الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع فى طلبه عجزاً وجهلاً، والثانى كمن لم يطلبه، بل مات فى شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض.

فتأمل هذا الموضع، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به فى جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.

هذا فى الجملة والتعيين موكول إلى علم الله [عز وجل] وحكمه هذا فى أحكام الثواب والعقاب. وأما فى أحكام الدنيا فهى جارية مع ظاهر الأمر".

خلاصة القول:

 

- أن كل من لا يؤمن بنبوَّة النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم يصدق عليه لقب الكفر.

- وأن الوصف بالكفر ليس سبَّة فكل مؤمن بعقيدة كافر بما يخالفها.

- وأنه لا تلازم بين الكفر وبين عقاب الآخرة، إذ العقاب منوط ببلوغ الدعوة، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}

- أن الوصف بالكفر لا يعني الاعتداء على الآخر أو ظلمه أو نقصه حقه. {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين