رمضان المعجزات

 

كنت بالأمس أقرأ في كتاب (أرض المعجزات ) للكاتبة بنت الشاطئ، وهو كتاب يتحدث عن مكة أم القرى التي منها خرج القرآن ... كلامُ الله تعالى المعجز بأقصر سورة منه ... وراح ذهني يتجول في كل ما يتصل بالإسلام من عبادات وخصائص ... فلاح لي أن كل شيء في ديننا هو معجز ... بمعنى أنه ميدان لصنع المعجزات والغرائب ... ولخرق العادات والعجائب ... ومصدر لتفجير الطاقات الكامنة في المسلم ...

فالصلاة معجزة بحكم آثارها في الروح والنفس ... والزكاة معجزة لما توجد في المجتمع من تكافل وتضامن ... والحج معجزة للذي نراه من توحيد للمسلمين بشتى انتماءاتهم وأعراقهم ... والصيام معجزة ...

نعم رمضان الذي تفصلنا عنه سويعات يسيرة معجزة تحتها عجائب كثيرة وفوائد لا تعد ولا تحصى ... صحيح أن مدته يسيرة ... ثلاثون يومأً ... لكن متى كان الإسلام يعتد بالكثرة ... متى كان يحفل بالعدد والعدة ... متى كان يهتم بالكم والجسم ... ثلاثون يومأً ... ولكنها ثلاثون قرناً مليئة بعظيم التجارب وكبير المنافع ... كل يوم منها كفيل بصقل المسلم من جديد ... وإعادة تصديره إلى الدنيا من جديد .

إن المهاتما غاندي صام يوم صام وهو كافر بالله ملحد ... ولكن صيامه أخاف الأعداء ولفت أنضار العالم إليه ... فنجح وحرر بلاده من ربقة الإنجليز والتمييز العنصري ...وكان صيامه مجرداً عن أي معنى شرعي  ... خالياً من القربة .... لا يحتوي على شيء من رضا الله تعالى ... فكيف بصيام المسلم ؟ الذي يرى فيه قربة من أعظم القربات ، وأنه ليس حمية فقط، ولا تعذيباً للنفس ولا تجويعاً للبطن ولا رسالة إلى الأعداء كالتي فعلها غاندي .

وهذا ما يميز المسلم في صيامه ... فيكون معجزة ... تلد القوة ... والانتصار على النفس ... والاعتدال في المسار ... والاستقامة على الطريقة . 

لكن لن يكون كذلك – معجزة - إلا إذا خرج الصيام عن دائرة الاعتياد وتحرر من رِبقة التقليد والرتابة ؟؟؟ فكان صيامأً لا تجني عليه الغيبة ولا النميمة... ولا تفسد روحه الأفلام ولا المسلسلات ... ولا تعكر صفوه وسائل التواصل ولا الملهيات ... صيام يقرب العبد من ربه... ويطهر القلب من درنه... ويعيد للروح خاصية التأثير فيها . 

ويوم يريد المسلمون أن يؤثروا في الدنيا ويعيدوا لاسمهم بريقه فما عليهم إلا ان يطووا صفحة الهزل ، ويقلعوا عن حالة اللهو واللعب ... ويصوموا عن المغريات لبلوغ أقصى الغايات ... في الدين والدنيا والحياة . 

إن امرؤ القيس لما بلغه مقتل أبيه قال : اليوم خمر وغداً أمر ...أي اليوم أتابع لهوي ... ولكن له نهاية .. نهاية تبتدأ عندها مرحلة جديدة ... هي الجد والحزم وطلب الغاية المنشودة ... ثم قال لصاحبه :

بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَهُ      وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانِ بِقَيصَرا

فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينُكَ إِنَّما      نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتَ فَنُعذَرا

وكذا رمضان إيذان بانتهاء صفحة غير مرضية في حياة أمة الإسلام ، وإعلان بخطة طريق جديدة يختطها المسلم في حياته ويعمل وَفْقَها ... فليس بعد اليوم لهو ولا ملهيات ... ولا صارف ولا مغريات ... ولو كان من أبسط المباحات ... حكى مصطفى صادق الرافعي أن أبا عمرو زبَّان بن العلاء ( توفي 70هـ) بمكة، كان إذا دخل رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي...إنه يريد لرمضانه أن يكون مختلفاَ عن الأيام العادية؛ لأنه فرصة لا تضيع بل يجب أن يهتبلها الإنسان ويغتنمها أشد ما يكون الاغتنام .

إذا هبّت رياحك فاغتنمها *** فعقبى كل خافقة سكون 

ولا تقعد عن الإحسان فيها *** فما تدري السكون متى يكون 

وعليه كان السلف ينتظرون هذا الشهر انتظار المَشوق ... بكل لهفة وتطلع .. فيحكى عن سيدنا عمر ري الله عنه أنه كان يقول في مثل هذا اليوم من كل عام : مرحباً بمطهرنا ... من أين أخذ هذا المفهوم ... ومن أين استقى هذا المعنى الجميل ... استقاه من مضمون وروح قوله تعالى في سورة البقرة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186).

أخذه من وحي قول حبيبه صلى الله عليه وسلم : (( قد جاءكم شهرُ رمضان ، شهرٌ مبارك ، كَتبَ اللهُ عليكم صيامَه ، فيه تُفَتَّح أبواب الجنة ، وتُغَلَّق فيه أبواب الجحيم ، وتُغَلُّ فيه الشياطين. فيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شهر! مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم ))" رواه أحمد وغيره.

أفلا يحق له أ يقول ذلك ... أو لا يجدر بنا أن نقتدي به في ذلك فنقول مرحباً يا رمضان 

رمضان يا خير الشهور تحية *** تضفي عليك مع الجلال جلالا

خذها يفوح عبيرها من مؤمن*** يبغي لك التعظيم والإجلالا

رمضان عدت وهذه أوطاننا *** عم الفساد بها وزاد وطالا

ضاعت مقاييس الفضيلة بيننا *** وتبدلت أحوالنا أوحالا

فالحر أصبح في البلاد مضيعا *** والنذل أمسى سيدا مفضالا

رمضان ها قد جئت تطرق بابنا *** وتريد منا أن نكون رجالا

وتريد منا أن نكون أعزة *** نأبى الهوان ونأنف الإذلالا

إخوتي الكرام :

لا ينتهي الحديث عن معجزات رمضان لأن أسراره لا تنتهي ... فلنحرص على إحرازها ... وجني ثمارها ... ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ...

اللهم وفقنا لذلك ... وأعنا على إدراك رضاك  ... يا كريم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين