لا يليق بكم يا شيخ مورو!

في برنامج "مهما صار" الذي يذاع على القناة التونسية ( الوطنية 1) دُعي الشيخ عبد الفتاح مورو إلى أن يقوم بمشهد أمام الجمهور يوضح من خلاله أهمية صناعة الافلام ودورها في التأثير على المجتمع، ولأن الشيخ يريد أن يوضح رسالة الفن بطرح واقعي عملي، فقد أشرف بنفسه على إنتاج فيلم، وتم ترشيح الفيلم في مهرجان البندقية الذي سيقام في شهر سيبتمبر القادم ليكون ضمن الافلام المرشحة للجائزة،  ولهذه المناسبة قام الشيخ بالوقوف على حلبة المسرح، ونزع جبته وعمامته التي ما يكاد يظهر في غيرهما، ووقف في دور تمثيلي تبادله مع مذيعة ومذيع، مرتديا زيا غربيا قديما، والجمهور يضحك ويصفق لهذا الدور الذي بدا لي لوهلة بهذه الملابس، وبخبرة الشيخ المتواضعة تمثيلا،  كأنه عرض مهرج بهلواني! 

ظهور الشيخ بهذه الشخصية أثار لغطا عريضا في كل الأوساط، وواجه نكيرا مفهوما، مثلما تلقاه بعض المحبين بتبرير عجيب، رأوه تجسيرا واقعيا بين الإسلاميين وغير الإسلاميين! 

قلت للأحباب: متى سننهي هذه الجدلية الإشكالية في استخدام مصطلح إسلامي! 

المصطلح نوسعه ونضيقه بمزاجنا، حتى ليبدو أحيانا بديلا لمصطلح عالم مسلم، وطالب علم شرعي، وأحيانا يتوسع فيشمل كل صاحب انتماء حركي، بل قد يتسع ليشمل كل مدافع عن الهوية بفن ملتزم، مثل لطفي بشناق وإيمان البحر درويش وحسن يوسف وحنان الترك ومصطفى العقاد ومحمد المازم وفايز المالكي… 

واحدة من إشكاليات المصطلح هذه الصورة الخارجة عن العرف المعتبر شرعا… 

يمكن لي أن أجاري العامة، وأجاملهم وأوسع عليهم حتى يعلموا أن في ديني فسحة تسعهم جميعا، ولكنهم جميعا سيحترمون ويوقّرون ويستوعبون ويعظّمون نأي العالم وطالب العلم الشرعي عن الخوض في لهوهم بمثل هذه المشاركة المزعجة! 

ترك النبي صلى الله عليه وسلم الجاريتين تضربان بالدف، وسمع منهما لكنه لم يشاركهما الأهازيج.. 

نظر مع عائشة لرقص الأحباش لكنه ما رقص معهم! 

شهد تبادح أصحابه بالبطيخ لكنه ما أثر عنه مشاركتهم في هذا اللغو. 

ضحك لما فعله النعيمان ولكنه لم يقم بمثله… 

مراعاة المقامات مطلوب، وأرباب السلوك يقولون عبارة مجازية:  حسنات الأبرار سيئات المقربين.. 

فما كل ما يصلح من العامة يقبل من شيخ وقور! 

لذا لا تقولوا إسلامي فهي كلمة مطاطة، هو شيخ وعالم وله مكانته وقدره، وهذا المعروض إثمه الاجتماعي أكبر من نفعه، وما سيكسبه فيه ممن استغنى، وله تصدى، أقلّ بكثير ممن ومما سيخسره من الذي جاءه يسعى وهو يخشى، ثم الشيخ والمتعصبون له عن أمثالهم من المحبين المزعوجين يتلهى! 

وفي كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء: "ومن تزين بما ليس فيه، شانه الله". إعلام الموقعين". 2/161

نعم كان ولا يزال يسع الشيخ عبدالفتاح مورو أن يدعم رسالة الفن الملتزم، فلست أعترض على الفنون، ولا أقلّل من رسالتها في الحياة، وجاذبيتها للجمهور، وسحرها في صناعة رأي عام، وتجييش عواطف، وتصحيح أفكار، وبناء منظومات ثقافية، واختزال وتكثيف معلومات عريضة بأرشق وألطف وأجمل أداء! 

غير أن الذي يقوم به شيخ جليل وقور ويخدم به دور يتناسب ومقامه ونظر الناس له، فالإمام القرضاوي ساهم في كتابة نصوص مسرحيات، وعدد من أناشيد الدعوة التي لا تزال تتردد على كل لسان، والشيخ أحمد عز الدين البيانوني كتب أناشيد بعضها لا يزال ينشد ويغنى في مجالس ومحافل مجتمعات متباينة، والشيخ سلمان العودة دقّق نصوص أكثر من مسلسل، والشيخ علي الطنطاوي قدم في أدبه مادة خصيبة لما تزل تنتظر من يستثمرها فنيا، والشيخ الشعراوي كان له الفضل بعد الله في توجيه عدد من الفنانات والفنانين لأداء رسالة ملتزمة في فنهم دون اعتزاله، والأستاذ سليم زنجير أسهم في الفن الغنائي والمسرحي والفيلمي إسهامات خدم فيها شرائح متعددة، وخاصة شريحتي الطفولة والثورة.. 

وهكذا فإسهامات علماء الشريعة، وطلبة العلم في خدمة رسالة الفن معقولة مقبولة مبذولة، لكن أحدا منهم لم يفارق مقامه لمقامات لا تليق به، فليست الواقعية أن نتجرد عن هيبة العالم الذي تحفظ له وقاره وشهوده وشهادته، ولا أن يشري مروءته بثمن بخس في فقه الموازنات.  

روى الخطيب في الجامع، قال: "يجب على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف،

والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه،

فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم،

فأما متصلة وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم،

وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة" اهـ. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي. 1/156

وبخصوص الزي الذي قدم به ما سمي تجسيده التمثيلي، فقد كان مروءة وعرفا مما لا يلتقي مع شرف ما يحمله من العلم الشرعي، وهذا يخلّ بما نطلبه للشيخ من تعظيم العامة له، من أجل الانتفاع بعلمه، مما نؤمل فيه ببلد أصابه غلوّ داعش والعلمنة معا أن يكون وسيلة إلى هداية الخلق للحق. وتحبيبهم بنهج الوسطية! 

مظهر العالم له اعتباره، وكان عمر رضى الله عنه يقول: "أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب".الإحكام"

أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق. الإحكام" للقرافي (ص 271) .

والناس - كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى - كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض "مجموع الفتاوى" (28 / 150) .

لأجل هذا، ومحبة بنهج الوسطية، وحدبا على حامليه، وغيرة عليهم من طعن شانئيهم، وإحساسا بأليم وقع هذه التجاوزات على أوليائهم، أقولها للشيخ، ولا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها:  ما كان أغناك عن هذا التجسيد يا شيخنا!  فإنه يكفيكه عدد من محبيك الذين يجلونك -وانا من مجلّيك- ممن يستلهمون منك معاني رسالة الفن الملتزم، دون أن يضطروك لهذا المسلك الذي لا يناسب وقارك وهيبتك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين