آية الإسراء

 

 

أجملَ اللهُ قصة الإسراء ـ على طولها ـ في آية واحدة من القرآن الكريم، ووردت فيها جملة أحاديث تختلف طرقاً وطولاً وروايات وقصصاً، ولكنها جميعها تلتقي حول قوله تعالى:[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] {الإسراء:1}. ولو تأملنا كلمات هذه الآية لوجدنا فيها ما يملأ قلوب المؤمنين إيماناً بهذه القصة، واطمئناناً إلى كل ما قيل فيها، ومناعة نفسية ضد كل ما أثير ويثار حولها...

فتصدير الآية بكلمة: (سبحان) يشعر بأن هذا الحادث العجيب أو القصة العجيبة ليس فيها بالنسبة إلى الله ما يثير في النفوس العجب أو الارتياب، لأن معنى (سبحان الله) : تزيهه تبارك وتعالى عن كل ما لا يليق به من صفات المخلوقين، ومعناه كذلك: أنه فوق أن يوصف بعيب أو نقص أو قصور أو عجز، وما إلى ذلك من كل ما لا يليق بكمال قدرته، وجلال جماله، فهو في عدله منزَّه عن الجور، وفي قدرته منزَّه عن العجز، وفي حكمته منزَّه عن الخطأ، وفي علمه منزَّه عن القصور...

وهكذا في كلِّ ما تدلّ عليه أسماؤه الحسنى، ولا شك أن قرن تنزيهه ـ جل شأنه ـ بحادث الإسراء، أو التمهيد لذكر هذا الحادث بتنزيهه عن كل ما لا يليق به، يلقي في قلوب المؤمنين شعوراً بالاطمئنان إلى صدق الخبر وصحة القصة، فلا يساورها الشك في أنه جل شأنه أسرى بعبده ـ بجسده وروحه ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل أو في أقل من طرفة عين، لأنه كما يقول جل شأنه: [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {النحل:40}.

ولأن مشيئته وقدرته كما يقول شوقي رحمه الله تعالى:

مشيئة الخالق الباري وصنعته=وقدرة الله فوق الشك والتهم

ثم إن في إسناد الإسراء إلى الله دلالة أخرى تؤكد في نفوس المؤمنين به صدق الخبر وصحة القصة، لأن كل عمل ينسب إليه ـ جل شأنه ـ هيِّن عليه مهما يكن قدره في شعورنا وتقديرنا، فهو سبحانه الذي أسرى بعبده، وليس لعبده يد في هذا العمل الجليل، ولا قدرة له عليه، إنما كان ذلك من الله الذي:[... وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] {البقرة:255}.فلا يعظم عليه  أمر رحلة أو نقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة أو بعض ليلة، أو لحظة، كلمح البصر أو أقرب من ذلك، ولقد كان الإسراء كما أراد الله أن يكون وكان من المسجد الحرام الذي يقول فيه:[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] {آل عمران:96}. إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، وكان الغرض منه أو الحكمة فيه ـ فإنه سبحانه منزَّه عن الغرض ـ أن يريه الله بعض آياته ليزداد إيماناً به و اطمئناناً إليه، وثقة بأن الإسلام ـ وقد اختنق نوره بين شعاب مكة وهضابها ـ ستزحف أشعته في كل اتجاه وتشرق على المسجد الأقصى وما حوله من ربوع الشام، ولعل من أسرار ذلك أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم تسرية وتسلية عمَّا كان يعانيه ويقاسيه من أذى قريش ومن الأحداث التي ألمت به، إذ مات عمه الذي كان يقف دونه ويحميه من أذى قومه، وماتت زوجه البرَّة الوفيَّة التي كانت تسري عنه البلاء، وتخفف عنه ما يحمل من أعباء وتلطف جوه بما كانت تشيع فيه من مشاعر الحب والوفاء، وكانت قريش قد وصل بها الغيظ منه والضيق به إلى درجة اليأس منهم، وخيبة الأمل فيهم، ولما التمس لدينه جواً آخر يجد فيه متنفساً توجه إلى الطائف فإذا أهلها أشد قسوة عليه من أهل مكة، وإذا هو يواجه بالحجارة تلقى عليه حتى يسيل الدم من قدميه، فيقف أمام ربه يناجيه بهذه الكلمات: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).

في هذا الجو كان الإسراء بمثابة بشرى كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دينه سيظهر ويظفر ويمتد نوره إلى المسجد الأقصى وما حوله، وقد عاد صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة في تلك الليلة فأخبر أم هانئ في الصباح بما كان، فأشفقت عليه وقالت: يا رسول الله لا تحدث قومك بهذا فيكذبوك ويؤذوك فقال في لجهة الواثق المطمئن إلى وعد الله: والله لأحدثنهم به، ثم غدا إلى المسجد وجلس فيه يفكر فأقبل عليه أبو جهل وقال: هل من خبر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال أبو جهل: وما هو؟ فقال عليه السلام: أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى بيت المقدس، قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال أبو جهل ـ كأنه يراها فرصة للتشهير به: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال عليه السلام: نعم.

فأخذ أبو جهل ينادي بطون قريش حتى أقبلوا وقصَّ عليهم النبي القصة، فأخذ بعضهم يصفق، وبعضهم يضع يده على رأسه متعجباً مستغرباً، أسرع بعضهم إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، فقال رضي الله عنه: أو قال ذلك؟ قالو: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا متعجبين: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح!! قال رضي الله عنه: نعم أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحه...

وكان رضي الله عنه منطقياً في إيمانه بالله وقدرته، ونخلص من ذلك: بأن الإسراء لم يكن بالروح وإلا ما أثار هذه الضجّة، وإنما كان بالروح والجسد كما يدل عليه ظاهر قول الله: (بعبده) وكما يفهم من تصوير الآية بكلمة [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ] {الإسراء:1}.

ولا شك أن اقتران المسجد الأقصى ـ وهو قبلة المسلمين الأولى ـ بالمسجد الحرام وهو قبلتهم الثانية في هذه الرحلة الميمونة المباركة له دلالته ومغزاه ومكانته في قلوب المؤمنين، وقد فسر ابن كثير المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقال إنه معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم هناك فأمهم في محلتهم ودارهم فدل على أنه الإمام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

أما الآيات التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، فلا يتسع المقال لعرض تفصيلها فيما وردت به الأحاديث، وقد أبهمها الله في قوله:[ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا] {الإسراء:1}. وقوله: [لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى] {النَّجم:18}.ولكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحي، لأنه كما يقول الله: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى] {النَّجم:3-4}. وهو الصادق الأمين الذي يقول الله فيه: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ]{الأنعام:33}.

وقد كان المعراج وهو صعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وما فوقهن في هذه الليلة المباركة التي فرضت فيها الصلاة، وقد أجمل شوقي هذه القصة في هذه الأبيات:

أسـرى بك الله ليلاً إذ ملائكه=والرسل في المسجد الأقصى على قدم

لما خطرت بهم التفوا بسـيدهم=كالشهب بالبـدر أو كالجنـد بالعلم

صلى وراءك منهم كل ذي خطر=ومن يفز بحـبـيـب الله يـأتـم

جبت السماوات أو ما فـوقهن بهم=على مـنورة درية اللجم

مشيئة الله الـباري وصنعـته=وقـدرة الله فوق الشك والتهم

حتى بلغت سماء لا يطار لها=على جنـاح ولا يسعى على قدم

وقـيل كل نبـي عند رتبته ؟=ويا محمد هذا العرش فاستلم

وبعد:

فإن ذكرى الإسراء والمعراج خليقة بأن تهز شعور المسلمين في كل بلد يعيش فيه نحو المسجد الأقصى، وأن تستفز هممهم وعزائمهم للعمل على تحريره وتحرير الأرض التي باركها الله من قبضة العصابات الصهيونية التي يغريها الاستعمار بالعدوان على المسلمين، وقد وعدهم الله بالنصر حيث يقول:[وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55}.

ولا يزال وعد الله قائماً، ولا يزال طريق النصر هو الإيمان والعمل الصالح، والجهاد في سبيل الله، والإيمان كما يقول الله:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ]{الحجرات:15}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر السنة 39 رجب 13887، الجزء 5.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين