أجر الصدقة ثابت وإن وقعت في يد فاسق

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل: لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد!، لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية! فقال: اللهم لك الحمد! لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على غني! فقال: اللهم لك الحمد: على سارق، وعلى زانية، وعلى غني! فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفَّ عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعفَّ عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله عزَّ وجل). رواه البخار ي ومسلم.

المعنى:

في هذا الحديث دعوة إلى فلسفة اجتماعية تنبَّه إليها الدين الإسلامي قبل أن تتنبَّه إليها أوروبا بقرون، هذه الدعوة هي البحث في الجرائم الخُلقيَّة واتصالها بالمجتمع، وعلاج ذلك من طريق الإحسان لا من طريق العقاب، وفي ذلك اعتراف بالضعف الإنساني وأن لا يأس في الإصلاح.

معنى الحديث: أنَّ رجلاً من بني إسرائيل عزم على التصدق في ليلته فخرج يبحث عن مُستحق للصدقة، فصادف إنساناً فوضع صدقته في يده، فأصبح الناس يتحدثون بأنه قد تُصدق الليلة على سارق.

فحمد ذلك الرجل المتصدق ربَّه وسَلَّم الأمر له، ورضي بقضائه، ولم يضجرْ، بل اعتزم على التصدق مرة ثانية، فوقعت صدقته في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون بذلك.

فحمد الرجل ربَّه وسَلَّم الأمر له ثم اعتزم على التصدق مرة ثالثة، فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون بذلك.

فقال الرجل: اللهم لك الحمد: على سارق، وعلى زانية، وعلى غني.

فأُتي في المنام أو أرسل إليه من الملائكة من أخبره وقال له: أما صدقتك على سارق فلعله أن تيسر له صدقتك سبيل التعفف عن السرقة والبعد منها فيكف ضرره حينئذ عن المجتمع.

وأما الغني فلعله تُعديه صدقتك فيقلع عن شُحِّه وبُخله، ويدرك فضل التصدق فيُقلدك في هذه الفضيلة، ويكونَ لك أنتَ ثواب القدوة الحسنة التي سننتها له.

وأما الزانية فلعلها أن تتوب من جريمتها فإنَّ بعض الزناة ربما كان الحامل لهنَّ على ارتكاب ذلك الفعل القبيح هو قلة ذات يدهن والحاجة الملحَّة عليهن مع ضعف في نفوسهن وقلَّة احتمال وعدم الصبر على ذلك، فمثل هؤلاء إذا وجدن شيئاً يقوم بأَوَدهنَّ ويكفيهنَّ شر العوز وقسوة الحاجة مع بقية من العفاف في نفوسهن وفيض من الشعور بجمال الشرف وعزة الصون والعفاف، فمثل هؤلاء قد تكون الصدقة معواناً لهم على التوبة وعاملاً على الاستقامة.

فتوبة هؤلاء على يد ذلك المتصدق خير له من الصدقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النعم) وهي الإبل.

فقه الحديث:

ظاهر هذا الحديث يدلُّ على أنَّ دوام حسن المعاملة مع الله يوجب رفع المنزلة.

وفيه دليل على صدقة السر أنها أفضل الصدقات فيما تقدَّم من الشرائع، فقد كان هذا الرجل من بني إسرائيل.

أما شريعتنا فقد قال الله تعالى: [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {البقرة:271}. تُريد الآية أنَّ إعطاء الصدقة للفقراء في الخفية والسر أفضل من الإبداء لما في الإخفاء من البعد عن شبهة الرياء ومثاره، ومن إكرام الفقير، وتحامي إظهار فقره وحاجته.

وقال الأكثرون: إن هذا خاص بصدقة التطوع؛ لأنَّ الفرائض لا رياء فيها وهي شعائر لا يَنبغي إخفاؤها، وهذا الرأي هو الذي اختاره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده حيث قال: (إنَّ إبداء الفريضة إشهار لشعيرة من شعائر الإسلام لو أخفيت لتُوهِّم منعها، وذلك يؤثر في المتوهِّم فيسهل عليه المنع لما للقدوة والبيئة من التأثير، ولا محل للرياء في الفرائض والشعائر؛ لأنَّ من شأنها أن تكون عامة، ولأنَّ المرائي بها لا يكون مُصدقاً بفرضيتها، ومن كان كذلك فهو كافر).

ولكن إذا انقلبت الحال وتغيرت النفوس، فصار المؤدي للفريضة نادراً لا يكاد يعرف، فإذا عُرف أشير إليه بالبنان، فهل يصير الأفضل له إخفاؤها؟

الظاهر أنَّ الإظهار في هذه الحالة يكون آكد؛ لأنَّ ظهور الإسلام وقوته بإظهار شعائره وفرائضه، ولا سيما من أهل القدوة والاقتداء.

على أنَّ الأحاديث تفضِّل السرَّ والإخفاء لدقة الرياء وتسرُّبه إلى النفوس وصعوبة التخلص منه فتفسد معه الأعمال، فقد ورد في حديث البخاري أنَّ من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يَمينه).

على أنَّ القرآن الكريم قد مدح من ينفق أمواله في الليل والنهار والسر والعلانية، فقال تعالى: [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {البقرة:274} ففي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بتفضيل صدقة السر، ولكن الجمع بين السر والعلانية يقتضي أن لكل منهما موضعاً تقتضيه الحال وتفضله المصلحة لا يحلُّ غيرُه محله.

ومن فقه الحديث أنَّ فيه دليلاً على أنَّ تحقيق العمل لله وتخليصه من الشوائب أنجح الوسائل، يؤخذ ذلك مما منَّ على الرجل من البشارة بلعلَّ، لعلَّ، لعل، بعد بذل جهده في معروفه، ورضاه بما جرى له فيه.

وفيه أن التخير للصدقة والتحري بموقفها مطلوب في الشرائع التي تقدمت كما هو في شريعتنا؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا لصدقاتكم) [لم أجد هذا الحديث فيما بين يدي من مراجع!] يؤخذ ذلك من إعادة الرجل لصدقته لما سمع أنها في غير مستحق لها.

وفيه أيضاً: دليل على أنَّ الحكم للظاهر حتى يَتبين ضده، وأنَّ العمل على ذلك في كل المِلَل، يؤخذ ذلك من كونه خرج بالليل ورأى على هؤلاء مظاهر المسكنة فعمل على ما ظهر له من حالهم وأعطاهم الصدقة، فلما تبين غير الذي ظنَّ استأنف العمل.

وفيه تنبيه على أنَّ الذي يُخرج الشيء لله صادقاً ويكون طيباً أنَّ الله لا يضيع له ذلك، وأنه يوقع معروفه في خير مما قدَّره، هو كما قيل له في آخر الحديث: لعل لعل لعل، و(لعل) في كل موضع مما قيل له ليست على بابها من الترجي، بل هي واجبة في مثل هذه المقامات على المشهور من الأقاويل!؛ لأنَّ هذه أخبار من الله واختيار له من الله سبحانه بحسن نيته، ولا يقع بها للفاعل تسلية إلا أن يكون على الوجوب.

قال الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:21}.

والشائع أنَّ (لعلَّ) للترجي في ذاتها وإذا وقعت في كلام الله تعالى يكون معناها التحقيق، وغرض القائلين بهذا تنزيه الله سبحانه عن الترجي بمعناه اللغوي وهو تَوقُّع حصول الشيء القريب بحصول سببه والاستعداد له، ولكن هذا رمي للكلام بدون بيان، وحقيقته أنَّ (لعل) للترجي ولكنها تستعمل للإعداد والتهيئة للشيء، وفي هذا معنى الترجي، فحيث وقعت (لعل) في القرآن فالمراد بها هذا المعنى الأخير كما هي في الآية الكريمة، وهذا المعنى (للعل) يستلزم التحقيق؛ لأن الإعداد بما تأتي (لعل) بعده أمر محقق لا ريبة فيه، فإنَّ العبادة على الوجه الذي أرشدت إليه الآية من ملاحظة معنى الربوبية تطبع في النفس ملكة خشية الله وتعظيمه ومراقبته، وتعلي همة العابد وتقوي عزيمته وإرادته، فتزكو نفسه وتنفر من المعاصي، والرذائل، وتألف الطاعات والفضائل، وهذه هي التقوى.

وإذا قلنا: إن الرجاء يتعلق بالناس فالإعداد فيه ظاهر ومتحقق، إذ لو لم يخلقهم مستعدين للتقوى لما اتقاه منهم أحد.

وفي الحديث دليل أيضاً على بركة التسليم والرضا، يؤخذ ذلك من كونه في كل مرة خاب سعيه على جري العادة، ولم يضجر بل رضي وسلم، وأعاد المعاملة فأعقبه ذلك تلك البشارة.

وفيه دليل على فضل هذا المتصدق يؤخذ ذلك من أنَّه جمع في أمره بين الحقيقة والشريعة، فأما الحقيقة فإنَّه لما تصدق كما تقدم ولم يوافق القدر اختياره حمد وسَلَّم، فهذه الحقيقة: سَلَّم الأمر لصاحبه.

وأما آداب الشريعة فكونه أعاد فعله للصدقة ثانية، فعل ذلك ثلاث مرات، وهو في كل مرة يجمع بين الحقيقة والشريعة.

وبعد:

فإنَّ في الحديث إرشاداً في الحياة للعبد المؤمن حيث يجب عليه أن يحمد الله على كل فعل، وإن خفي عن عقله حكمته، وخولفت فيه إرادته، فإنَّ إرادة الله الحكيم أعلى، وهي كلها جميلة في الحقيقة والواقع، ولا يعلم ذلك إلا العالم المدبر قال تعالى: [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] {النساء:79}.

فلبُّ هذه الحقيقة التي أراد الله أن يعلمنا إياها ويربينا بها هو أنَّ كل شيء من عند الله فهو خالقها، وواضع نظمها وسننها، وكل شيء فهو حسن وجميل؛ لأنَّه مظهر الإبداع والنظام من المبدع الخبير، والسوء إنما يعرض للأشياء بتصرف الإنسان، وباعتبار أنها تسوؤه وليس ذاتياً لها، فمصائب الإنسان هي من ظلمه وكسبه لعدم إحكامه العلم وحسن الاختيار في السير على سنن الفطرة وأحكام الشريعة، وهي كلها من الله ومحض فضله، فقد ثبتَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال: (اللهم لك الحمد على كل حال) [رواه الطبراني وغيره من حديث السيدة عائشة].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 9 ، السنة 6،  1372هـ 1953م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين