أجيال النصر وأجيال الهزيمة

 

 

ليس الانتصار والانكسار حظوظا عمياء تصيب الأمم وهي غير مستحقة لها، أو تفجؤها على غير توقع منها، أو تلتوي بمسيرها فتقهرها على وجهة كانت تؤثر سواها.

كلا، فإن الأمور تتدافع إلى نهايتها وفق سنن كونية دقيقة وخواتيم الصراع بين الأمم لا تقع خبط عشواء، ولا تكيلُها الأقدار جزافا بل تجيء وفق مقدمات منتظمة، كما تجيء النتائج بعد استكمال الأسباب.

وربما كان ما يصيب الأفراد أحيانا من نوازل مبهمة سببا في عدّ المصائب جملة أقداراً قاهرة.

وربما كان ذلك ما جعل المتنبي يقول:

ألا لا أُري الأحداث مدحاً ولا ذما * * * * * فما بطشها جهلاً ولاكفها حلما

 

وهذا الكلام من زوات الشعراء، ومما قد يتسلى به الغافلون عندما تؤدّبهم السماء.

والحق أني عندما أتأمل في هزائمنا المتلاحقة أمام اليهود خلال ما مضى من سنوات أشعر بأن الغزو الثقافي قد حقق مراده وفق ما يشتهي. وأن ما غرسه في بلادنا قد آتى ثماره المرة كلها.

وأن جهوده الماكرة في ميادين التعليم والإعلام منذ استعمر الأراضي والعقول لم تضع سدى.من عشرات السنين والأجيال الجديدة تُذادُ عن القرآن الكريم ذوداً، وتجهل في آياته تجهيلاً !!!

من عشرات السنين والتاريخ الإسلامي تُعكر منابعه، وتققل حصصه، ويلحق تارة بالتاريخ القومي، وتارة بالتاريخ الأجنبي، حتى لا أحسب محمد وصحبه آباءنا الروحيين والفكريين !!!

من عشرات السنين وعلوم العقيدة والفقه والتربية والأدب تطارد من التعليم العام لتكون بضاعة بعض الأزهريين المغموصين. وأخيراً تُزوى البضاعة وحملتها في ركن بعيد عن الأضواء لتتلاشى على مر الأيام.

من عشرات السنين والأوضاع المقلوبة التي تشبه عوامل التعرية تنحت مقوماتنا من الإيمان والصلاة والتقوى، وتطلق أسراب الديدان لتلتهم كل نبت يبدو للشرف والوفاء والحياء. فلما التقى الجمعان وقع ما كان الاستعمار يمهد له من قديم، ويسوق الأمور إليه بتؤدة وصبر.

إن كل القوى الناقمة على الإسلام اختبأت وراء الاستعمار الحديث لتنال منه بشتى الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت.

وهي في لينها تدسُّ السموم، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت، وفي كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً. إنها تريد بناء مجتمعات منسلخة عن الإسلام، مرتدة عن هديه في البيت والشارع والمدرسة والمحكمة وسائر مناحي الحياة العامة.

وقد وصل الغزو الثقافي إلى غايته المنشودة، وانعكس ذلك كله على معاركنا مع بني إسرائيل.

ذلك أن المعارك يربحها طلاب التضحية من أصحاب العقائد، ولا يربحها عُبّادُ الشهوات من أبناء الدنيا. وينبغي أن أجيب هنا عن شبهة روجها القاصرون. إن العلم سلاح عظيم في إحراز النصر، هذه حقيقة لا يحتاج كشفها إلى عبقرية، ولا يماري فيها إلا مجنون.

وبناء الدولة على العلم هو وظيفة كل حكم راشد، خصوصاً العلم التجريبي والتطبيقي.لكن العلم أداة تُستخدم لنصرة من يمتلكها.

رجاله. الشرق الشيوعي والغرب والجبهات المتصارعة في العالم اليوم تتنافس في تحصيل العلم وتعرُّف أسراره وتكثير الصليبي كلاهما يتوسل بالتفوق العلمي لدعم موقفه ومد سلطانه. فالعلم هنا أو هنالك وسيلة لإنجاح المعتقد أو تغليب المذهب. فكيف يجيء في هذه الأيام العجاف من يريد تزهيدنا في العقيدة باسم الحاجة إلى العلم ؟!

وفي أيّ بلاد يقال هذا الكلام؟ في بلاد الإسلام الذي احتفى بالعلم من أول آية نزلت فيه. لقد لاحظت أن ضعف العقيدة خلق في بلادنا صنفين من المتعلمين كلاهما لا خير فيه.

الأول: صنف يكتفي من العلم بقشوره، أو إجازاته الرسمية، فهو لا ينفذ إلى لبابه، ولا يستفيد أو يفيد من حقائقه.

والآخر: صنف اغتر بالقدر الذي أحرزه، ويريد أن يحيا به ملكاً غير متوج، وكأنه تعلم ليستكبر ويطغى !!

والصنفان يكثران حيث يضعف الإيمان، وتهي الأخلاق، وتفحش الأثرة. وأصحاب العقائد حين يقبلون على العلم يجوّدون فيه، لأن طلب الكمال غايتهم، ولأن العلم وسيلة رائعة- كما شرحنا –لإعزاز مبادئهم وقومهم.

وفي فراغ الجو من الإيمان الباعث على الحركة، وجدنا ناساً ثرثرتهم أكثر من إنتاجهم، ودعاواهم أكثر من حقائقهم، وشهواتهم أملك لأزمتهم؛ مع أنهم تخرجوا من شتى الجامعات المدنية والعسكرية. ماذا أرى الآن بعد الهزائم المخزية التي نكّست رؤوسنا؟ أقواماً يضحكون ولا يبكون، ينطلقون إلى القهوات والأندية ليسمروا ويعبثوا، أو إلى الشواطئ ليلهوا ويلعبوا !!! كان ينبغي أن تكون هذه الجباه مقطّبة لكنّها مبسوطة !!! كان ينبغي أن تكون هذه الشفاه مزمومة لكنّها منفرجة !!!

وماذا أقرأ الآن ؟ خليطاً هائلاً من الأخبار والبحوث كأنما حشدها امرؤ يريد أن يسرق عقلي حتى لا أفكر، وأن يسرق ضميري حتى لا يستيقظ، وأن يملأ آذاني بطنين مزعج من الأحداث المفتعلة حتى يختفي صوت المعركة القائمة. فإذا فرض الواقع الأسيف نفسه سمعت من يرجع الهزيمة إلى ألف سبب غير سببها الحقيقي، ومن يلتمس لها ألف دواء إلا دواءها الصحيح !!!. ويستحيل أن يتكون جيل النصر في هذا الجو الأغبر.

لقد اجتهد الاستعمار خلال قرن من الزمان أن يعوّدنا ترك الصلوات، وحب الشهوات فلماذا لا تحلُّ المشكلات الجنسية بالاستعفاف، وتيسير الزواج بدل إشاعة التبرج وتوطيد أركان الفحشاء؟ ولقد استمعنا إلى خصومنا يُغالون بوصايا الأنبياء، ويتمسكون بتعاليم كتبهم ويصرح وزير حربية إسرائيل دون خجل ولا وجل بأنه يحارب من أجل التوراة واليهودية وأرض الميعاد كما روت ذلك الصحف. على حين يخجل رؤساء العرب ويوجلون من الانتساب إلى القرآن والتشّبث بآياته، لأن الغزو الثقافي أمات علاقاتهم بالدين والنبي والصحابة والتابعين !!! لو كان العرب مجموعات من الدراويش الطيبيين هزمهم التخلف العلمي الشائن لقلنا: إن التنويه بالعلم فريضة، وهذا التنويه لا يتطلب عبقرية في المناداة به. إن محمد علي الأمّي وابنه إبراهيم استكملا هذا النقص، واستطاعا بالجيش المصري أن يكسبا معارك عظيمة في القارات الثلاث !!!

إن جيشنا من خيرة جيوش الأرض عندما يُرزق القيادة الصالحة. لكن العرب هزمتهم أزمة الإيمان في قلوبهم، والقحط الرهيب في المثل والأخلاق. لقد فتكت بهم فوضاهم الداخلية قبل أن تفتك بهم سيوف الأعداء. وهذا المصير الحقير هو ما خطط له الاستعمار الفكري الضائق بالقرآن والرسول ومنهج الإسلام كله منذ ظهر الإسلام.

إنه صنع أجيال الهزيمة، فيجب علينا نحن أن نصنع أجيال النصر. وأجيال النصر لا يصنعها قوم انحلُّوا عن دينهم؛ وتنكّروا لتاريخهم. إن الأيدي المتوضّئة لا الأيدي الملوّثة هي التي تصنع هذه الأجيال.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد العاشر السنة الثانية والعشرون جمادى الثانية سنة 1388هـ الموافق سبتمبر 1968م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين