هل في الشر خير؟
يقولون: هل في القصف والقتل والتدمير خير؟ أقول: نعم، المؤمن لا يزال بخير مهما أصابه، نأخذ هذا المعنى من الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له". وفي لفظ: "عجبت لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير. إن إصابه ما يحب حمد الله فكان له خير، وإن أصابه ما يكره صبر فكان له خير، وليس أحدٌ أمرُه كله خير إلا المؤمن".
سيقول قائل: قبلنا أن يكون في القصف والقتل والحصار والجوع خير وابتلاء، ولكن ماذا عن عدوان المجرمين على الأعراض؟ هذه المؤمنة التي كانت تحرص أن لا يرى الأجنبيّ شعرة من رأسها ثم أسرها الظالمون فكشفوا بدنها وانتهكوا عرضها، كيف يكون ما أصابها خيراً لها؟
أقول: جواب هذا السؤال أكبر مني ومنكم. نحن نسلّم بالأصل لأننا تلقيناه بخبر صحيح، إننا نؤمن بأنها ما أصابها إلا الخير حتى لو جهلنا التعليل والتفصيل. أخبرنا الصادق المصدوق أن المؤمنين والمؤمنات كل أمرهم لهم خير حتى ما بدا في ظاهره شراً، ونحن نصدق ما أخبرنا به الصادق المصدوق، حتى في مثل هذا المقام الذي تزيغ أمامه الأفهام، المقام الذي نحتاج فيه إلى تسليم الأولياء وثقة الصدّيقين: "إنْ كان قالها فقد صدق".
* * *
يا أيتها المكلومة المحزونة التي عانت في حبوس الظالمين، في الشام وفي غير الشام: إنْ ظننتِ أن ما أصابك شرّ رضيَه الله لك فقد أسأت الظن بالله، وإنما هو خير إنْ صبرتِ عليه فأنت من أهل الجنة إن شاء الله. وهل تريدين جزاء أعظم من التنعّم الأبديّ في جنة الرحمن؟
في الحديث الذي أخرجه الشيخان أن ابن عباس قال لعطاء بن أبي رباح: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرَع وإني أتكشف (أي أنها تفقد السيطرة على نفسها إذا أصابتها نوبة الصَّرْع فتتكشف فيراها الناس) فادعُ الله لي. قال: "إن شئتِ صبرت ولكِ الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك".
للحديث بقية تعرفينها يا أمة الله، لكنه لو أنه انتهى هنا لتَمّ المعنى، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سمع منها شَكاتها فعلم أنها تتكشف إذا صُرعت، ورغم ذلك حبّبَ إليها الصبر ووعدها عليه بالجنة. أي أنه اختار لها أن ترضى بما أصابها، وما أصابها كان يكشفها بغير إرادتها، فرضي لها أن تُكشَف لأن هذا محل ابتلائها، ولم يَدْعُ لها بأن تُستَر ولا تُكشَف إلا حينما طلبت منه الدعاء، ولو شاء لدعا لها به حالاً. قال راوي الحديث: قالت: أصبر، لكن ادعُ الله ألاّ أتكشف. فدعا لها، فكانت لا تتكشف.
* * *
لو شاء النبي عليه الصلاة والسلام لدعا لكل مُبتلى مضرور فنجا من الابتلاء وذهب عنه ضُرّه، ولكنه علم أن الابتلاء منحة من الله اختارها لمن يحب لترتفع بها درجته، فتركه ولم يَدْعُ لرفع البلاء. في الحديث المشهور الذي تعرفونه جميعاً لمّا طلب منه المسلمون المستضعَفون في مكة أن يدعو لهم ويستنصر لهم ماذا فعل؟ إنما وعدهم بيوم يظهر فيه الإسلام وينتصر المسلمون. لم يدعُ بكشف الغمة، بل طالبهم بالصبر وعدم الاستعجال.
وقد رأيتم أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّر المرأة ووعدها بالجنة فاختارت الصبر والجنة، ولو شاء لدعا لها فذهب صَرْعُها كما دعا لها بأن لا تتكشف فلم تتكشف من بعد. وفي الحديث أيضاً أن أعمى طلب منه أن يدعو له بردّ بصره، فشجّعه على أن لا يفعل وأن يرضى بما اختاره له الله، فلما ألحّ عليه استجاب له. محل العبرة في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام اختار للعبد ما اختاره له الله، فإن كان الله اختار لعبده البلاء فهو خير له، فكيف يدعو النبي بذهاب الخير الذي اختاره الله لمن يحب؟ إلا أن الرجل فضّل الفرج العاجل على الخير الآجل فاختار الدعاء، فشُفي وأبصر من جديد.
عن عثمان بن حنيف (وصحّحه الألباني في صحيح الترغيب) أن أعمى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يكشف لي عن بصري. قال: أوْ أدَعُك؟ قال: يا رسول الله، إنه قد شَقّ عليّ ذهاب بصري قال: فانطلقْ فتوضأ، ثم صلّ ركعتين، ثم قل: اللهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّي محمد نبي الرحمة. يا محمد: إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري، اللهمّ شفِّعْه فيّ وشفّعني في نفسي. فرجع وقد كُشف له عن بصره.
* * *
إن المؤمن يعيش مطمئنَّ النفس أبداً لأنه يوقن بأن الله اختار له الخير في كل حال، مهما بدا له ذلك الاختيار شراً وضرّاً في ظاهره. لكن الإسلام لا يتركنا بلا تفسير؛ إنه يقول لنا إن كل ما أصابنا من ضُرّ فهو خيرٌ حقاً، ثم يمضي أبعدَ من ذلك فيوضح لنا كيف يكون الشر خيراً للناس. هذا ما سنقرؤه في الحلقة الآتية إن شاء الله.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول