أسس النهضة الإسلاميَّة (2)

 

يتحدث القرآن الكريم عن العلم، عن طريق القصص ويتحدث القرآن عن العلم بالأسلوب المباشر وأصل مباشر، إلى آيتين من الآيات الكثيرة الموجودة في القرآن والتي تُشيد بالعلم والعلماء.

أما أولاً فإنَّ الله سبحانه وتعالى ربط خشيته بالعلم: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}. وأعجل فأقول إنَّ هذه الكلمة القرآنية أتت في مَعْرِض الحديث عن العلوم الكونيَّة، عن العلوم الماديَّة، عن الجبال والغرابيب السود، والألوان واختلاف الأجناس، وبعد أن تحَّدث عن الكرم، عن النواحي الماديَّة قال سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}. هذه العلوم الكونية كان يُسميها أسلافنا رضوان الله عليهم تسمية دقيقة جميلة، كانوا يُسمونها علوم الكشف عن سُنن الله الكونيَّة، ولله سنن في الكون كما له سُنن في المجتمعات، و إذا ما اكتُشِفت هذه السنن الكونيَّة لله سبحانه وتعالى في الكون فإنَّنا نزداد علماً به ونزداد إذن خشية له: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ].

وآية أخرى تصل بالعلماء إلى ما لم يَصل بهم مذهب قديم أو حديث أو نِحْلة قديمة أو حديثة لا في الشرق أو في الغرب، يقول الله سبحانه وتعالى: [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ] {آل عمران:18}. والتوحيد هو: لا إله إلا هو من الذي شهد مع الله سبحانه وتعالى التوحيد (الملائكة) ومن الذي شهد مع الله ومع ملائكته التوحيد؟ [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ] {آل عمران:18}. 

قرن أولي العلم به سبحانه وتعالى وبملائكته، في ماذا؟ في: (أشهد ألا إله إلا الله)، وهي قمَّة الإيمان، وقمَّة التوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله) إنها ليست: أقول لا إله إلا الله، ولا أنطق بلا إله إلا الله، ولا أقتنع بلا إله إلا الله، ولا أؤمن بلا إله إلا الله، ولا أعتقد بلا إله إلا الله، وكل هذه الصيغ من التعبير جميلة، ولكن القمَّة التي طالبنا الإسلام بها والتي وصل العلماء إليها، والتي قرن الله سبحانه وتعالى العلماء به وبملائكته في شهادتها هي: (أشهد أن لا إله إلا الله وهي قمة الإيمان). 

ولن تجد مُطلقاً في الماضي ولا في الحاضر، لا في الشرق ولا في الغرب، لن تجدَ إشادةً بالعلم كهذه الإشادة، أي علم؟ أي علم يقصده القرآن؟ إنه كل ما بين قَوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وبيان قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون من الناحية الروحيَّة المعنويَّة، ومن ناحية المجتمع بيَّنها القرآن وبيَّنَتها السنَّة.

وقوانين الله سبحانه وتعالى في الكون المادي ترك الله سبحانه وتعالى للإنسان الحرية المطلقة في أن يبحث في أرجاء الكون ما شاء، وأن يَسير في الكون حسبما أراد، وأن يكون الكون كله مجالاً لأبحاثه ولم يُقيِّده إلا بشيء واحد، قيَّده بأن تكون أسسه: أسس البحث، وغايات البحث مُتَّجهة إلى الله سبحانه وتعالى، وليست مُتجهة إلى تَدمير أو غلبة أو استعلاء، وإنما هي متجهة إلى الله سبحانه وتعالى إلى الفضيلة، إلى إسعاد الإنسانية، إلى هذه النواحي التي تفيد الإنسانية فيما يتعلق بسعادتها ولا تضر الإنسانيَّة أو تشقيها هذا هو القيد الوحيد الذي قيَّد الله سبحانه وتعالى به العلم.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدَّث عن العلم، وحديثه الجامع عن العلم معروف، حديثه الذي رواه الترمذي ورواه غير الترمذي الذي يجعل طريق العلم طريقاً إلى الجنة، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سَهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإنَّ العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

واندفعت الأمة الإسلاميَّة مُتأثِّرة بالقرآن، مُتابعة للقرآن، مُعترفة بأنَّ شعارها هو شعار رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال: (ربِّ زدني علماً)، ومُعترفة بأنَّ شعورها وطابعها هو: (من استوى يوماه في العلم أو الفضيلة فهو مغبون، ومن لم يكن إلى زيادة فهو إلى نقصان). 

اندفعت الأمة الإسلامية في العلم: تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وأصول فقه، ولكنها بجوار ذلك، ومنذ أن بدأت أيضاً، اندفعت نحو العلم في خبايا الكون وزوايا الوجود المادي: تكتشف وتبحث وتفحص وتجرب وتنظر وتستقرئ، وكل ذلك حدث فكانت النهضة الإسلامية الكبيرة، وكان هناك أعلامها، أعلام هذه النهضة الذين لا يُعَدُّون بالعشرات وإنما يعدون بالمئات، كان هناك أعلامها في الرياضة، وكان هناك أعلامها في الطب، وكان هناك أعلامها في الهندسة، وكان هناك أعلامها فيما يتعلق بمختلف العلوم على شتى نواحيها، وكانت الحضارة الإسلامية هي الأساس الذي قُدِّم للغرب، فأخذه الغرب من ناحيته المادية، ولم يأخذه بقيد الله سبحانه وتعالى من ناحية الأسس أو من ناحية الأهداف، لم يأخذه بهذا القيد، قيد الخير والفضيلة والرقي بالإنسانية، وإنما أخذه مطلقاً، فكان التدمير أثراً من آثار علم الغرب، وحضارة الغرب، وكانت هذه المآسي التي َشقيت بها الإنسانية من آثار هذا العلم لأنه كما يقول الغربيون أنفسهم يقولون: إنها حضارة شيطانية؛ لأنَّها لا تنتسب إلى أصل أخلاقي ولا إلى أصل روحي ولا إلى أصل ديني.

[للمقالة تتمة]

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة الجديد، 1 يوليو 1978 - العدد 156).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين