أسس النهضة الإسلاميَّة (3)

 

يقول الكثيرون من المتزنين فيما يتعلَّق بالحضارة الغربيَّة، يقولون إنَّها حضارة شيطانيَّة؛ لأنَّ الحضارية الصادقة هي ما يكون فيها الناحية الروحيَّة والناحية الماديَّة.

الناحية الروحيَّة التي تسيطر عليها في التوجيه وفي التنظيم وفي الاستعمال، والناحية المادية التي تفيد في كشف القوانين المادية، ومن أجل ذلك كانت الحضارة الإسلامية مُتكاملة، وإن كان الله سبحانه وتعالى قد بدأ يقول (اقرأ) فإنَّه أتبع ذلك مباشرة بقوله: (باسم ربك)، فكان هناك العلم في الكلمة الأولى، وكان هناك الإيمان في الكلمتين الثانيتين. 

(اقرأ) لم يطلقها، وإنما قيدها (باسم ربك)، وإذا أنت تبصَّرت فيما يَتعلَّق بهذه الكلمات الثلاث، اقرأ باسم ربك، وجدت أنَّ (اقرأ) تَعني، لغةً الأمر بالقراءة ولكنها في حقيقة الأمر رمز لكل عمل يَأتيه الإنسان، والمعنى الحقيقي لهذا الرمز (اقرأ باسم ربك): اعمل باسم ربك، قم باسم ربك، إذا تحرَّكت فتحرَّك باسم ربك، وإذا سكت فاسكت باسم ربك، وإذا قلت فقل باسم ربك، وإذا صمت فاصمت باسم ربك، اقرأ باسم ربك، إنَّها رمز لكل عمل يأتيه الإنسان، ومن أهم هذه الأعمال العلم، ولذلك كانت الكلمة التي تُعبِّر عن العلم هي الكلمة الرمزية في هذا المجال، ولم يقل الله تعالى في هذه الكلمات الأولى: اقرأ باسم الله، وإنما قال: (اقرأ باسم ربك)، وأنا شخصياً في حقيقة الأمر كنت أتوقع لأول وهلة بالنظرة القاصرة – نظرة الإنسان عادة – كنت أتوقع أن يقول اقرأ باسم الله، ولما فكرت في الأمر رأيت الحكمة الحكيمة لله سبحانه وتعالى حينما يقول اقرأ باسم ربك، اقرأ باسم المربي، اقرأ باسم التربية التي ستأتي، أنت في حريَّة مُطلقة قبل أن تَدخل في هذا الدين، فإذا دخلت فيه يجب أن تلتزم من المبدأ بتربية المربي. 

وجاءت تربية المربي تتوالى في الجوِّ الإسلامي، تتوالى في صورة تنظيم للمجتمع، وتتوالى في صورة الثقة بالله سبحانه وتعالى، وإلى أيِّ مَدى هذه الثقة تكون: (اقرأ باسم ربِّك)، أما ما لم يكن باسم ربك فإنَّه ليس بإيمان، وما لم يكن باسم ربك كالذبيحة تذبح على النصب فهو فسق، يقول تعالى: [وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ] {الأنعام:121}. وكلمة فسق هنا: لا تختص بما ذُبح على النصب فقط، أو بما لم يُذكر اسم الله عليه من الذبائح فقط، وإنما كل أمر لا يَصدر عن النيَّة الخالصة لله، فإنَّه في العرف الإسلامي فِسْقٌ ولو كان عمل خير.

إنَّ هناك تفرقة بين الوثنيَّة والإيمان يجب أن نتدبَّرها. 

ما هي الوثنية؟ هي ما يصدر عنا لا نريد به أو لا نذكر عليه اسم الله، أو لا تكون نيتنا فيه غير صادرة عن الأسس الإسلاميَّة، وكل ما كان غير صادر عن المبادئ الإسلاميَّة فهو وثنيَّة، أما الإيمان فإنَّه الصدور عن الله سبحانه وتعالى، عن قُرآنه وعن سنَّتِه.

وكل عمل إذن ليس صادراً: في النيَّة أو في الموضوع عن الجوِّ الإسلامي فإنَّه يُعتبر وثنيَّة وكل وثنية هي فسق؛ لأنه لا يذكر اسم الله عليها، ولا يصدر الإنسان فيها عن الدين.

أطلق الله سبحانه وتعالى الحريَّة للإنسان في العالم المادي ولم يُقيِّده إلا بهذا القيد، قيد أن تكون النيَّة فيه لله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه وتعالى فيما يتعلَّق بالعقائد، وفيما يتعلَّق بالتشريع، وفيما يتعلَّق بالأخلاق حسم الأمر حسماً كاملاً تاماً لا لبس فيه ولا شائبة فيه، يجب على الأمَّة الإسلاميَّة وجوباً مُطلقاً أن تصدر فيما يتعلَّق بنظام مجتمعها وفيما يتعلق بأخلاقها، وفيما يتعلَّق بعقائدها، وفيما يتعلَّق بتشريعها... أن تصدر عن الله سبحانه وتعالى.

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى رسالة هي آخر الرسالات، وتعليل أنها آخر الرسالات أمره سهل، إنَّ الكتب السابقة التي كانت تحتوي الرسالات كانت تغير وتبدل وتتناقض وتتعارض وتختلف بعمل الإنسان، فكان من الطبيعي أنه حينما تندثر هذه الكتب وتزول تصبح الرسالة وقد زالت، وكان لابدَّ إذن من هداية الإنسان برسالة أخرى، وأحبَّ الله سبحانه وتعالى أن تختتم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه كتاباً ضَمِنَ حِفْظه: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}. 

هذا الكتاب هو الرسالة الدائمة الخالدة، فليست الإنسانيَّة إذن في حاجة إلى رسالة أخرى، ليست في حاجة إلى بهائيَّة وليست في حاجة إلى قاديانية، وليست في حاجة إلى مزيفات كمزيفات مُسيلمة الكذاب أو سجاح الكاذبة، ليست الإنسانية في حاجة إلى مزيفات من أمثال هذه لأنَّ عندها كتاب الله تعالى.

من المميزات الضخمة الهائلة للغة العربية وللمسلمين أن أنزل الكتاب الكريم بها، إنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتضمن أسلوب الله سبحانه وتعالى، التي فيها النص المقدس الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك فإنه منذ نزول القرآن بها أصبحت لغة مقدسة، وكل تهريج من هؤلاء الذين يريدون أن يبتعدوا عنها في اللهجة أو في الكتابة إنما هو ابتعاد عن الروح الحقيقيَّة للجو الإسلامي.

ومن المميزات الضخمة الهائلة للمسلمين إنَّهم يَستمدون دينهم من الأسلوب الإلهي، إنَّهم يأخذون عن القرآن الكريم، وليس هناك نحلة أخرى أو مذهب آخر يستمد عقيدته أو أخلاقه أو تشريعه عن الأسلوب الإلهي. 

إنَّ القرآن ميزة ضخمة للمسلمين كمصدر لحياتهم، إنَّه مصدر بالأسلوب الإلهي، وميزة ضخمة للغة العربية؛ لأنَّها أصبحت هي اللغة الوحيدة التي تحتوي على نص مُقدَّس بالأسلوب الإلهي نفسه، ومنذ نزول القرآن فإنها أصبحت لغة الإسلام لأنَّها لغة القرآن.

ويَسير القرآنُ والرسول صلى الله عليه وسلم في طريقٍ وَاضح من ناحية التشريع، ليس للإنسان حريَّة الاستنتاج ولكن حرية التشريع ليست له، وقد كتب الإمام الشافعي رضي الله عنه بالنسبة لتوضيح قواعد استنتاج التشريع هذا العمل العظيم الذي نسميه في صراحة منطق المسلمين، إنَّه ألَّف عبقرية مُبتكرة (أنا لستُ شافعيَّ المذهب، وهذا إذن ليس مدحاً مني للإمام الشافعي من أجل اعتناقي لمذهبه ) ألَّف في عبقرية مبتكرة أصول الفقه، وكان هذا الابتكار ضخماً، هائلاً، إنَّه يُعتبر فترة من الفترات التي تجلى الإلهام الإلهي فيها على الإمام الشافعي فصنع ما صنع.

إنَّ الإنسان لا حريَّة له فيما يتعلَّق بالتشريع، وليس أمرُ التشريع موكولاً إلى الإنسان، وإنَّما هو موكول إلى الله سبحانه وتعالى، هذا التشريع طبق في الجو الإسلامي، إنَّه لم يَعُد نظرية غير مُطبَّقة، وكل من يهرج فيقول إنَّ هذا التشريع خيال لا يطبق، يُكذِّبه إنه طُبِّق وأصبح واقعاً، لقد خرج من نظرية إلى واقع ومن مبادئ إلى تطبيق، إنه لم يعد كلاماً فحسب، لقد أصبح واقعاً بدل أن يكون نظراً فحسب أو كلاماً فحسب.

مجتمع إسلامي كان خير مجتمع أخرج للناس، وقد بيَّن اللهُ سبحانه وتعالى لنا في صور حَاسمة الموقف بالنسبة للتشريع الإلهي، إنَّه سبحانه يقول: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45} ويقول: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {المائدة:47}. ويقول: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {المائدة:45}. ويقول: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}. 

هذا فيما يتعلق بالتشريع، إنَّه لا يتأتى مُطلقاً أن يدور في خَلَدِ مُسلم صادق الإيمان أن تكون الشريعة الإسلامية مصدراً من المصادر الأساسيَّة كلا، بل ولا أن تكون الشريعةُ الإسلاميَّة المصدر الأساسي للتشريع كلا، وإنَّما الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، هذا هو شعور المؤمن الصادق الإيمان، وهذا هو ما تُعبِّر عنه في صدق وفي إخلاص وفي حَسْم هذه الآيات التي تحدثنا عنها والتي وصف الله سبحانه وتعالى فيها من لم يحكم بما أنزل الله، لقد وصفه مرَّة بالظلم، ثم زاد هذا الوصف فوصفه بالفسق، ثم في النهاية وصفه بالكفر، وما من شَكٍّ في أن من يَحيد عن التشريع الإلهي مختاراً غير مُضطراً، من يحيد عن تشريع الله تعالى مختاراً فإنَّه ظالم وهو فاسق وهو كافر، وهذا هو وصف الله سبحانه وتعالى وليس وصفنا نحن.

وكان الموقف حاسماً أيضاً فيما يتعلَّق بالأخلاق؛ فإنَّ الأخلاق الإسلاميَّة يجب أن تكون كما هي في الجو الإسلامي، وكان الموقف حاسماً فيما يتعلَّق بنظام المجتمع، ولابد أن نَسير في نظام مجتمعنا على حسب ما رَسَمَه الإسلام لنظام المجتمع، وهكذا الأمر أيضاً فيما يتعلق بالعقائد.

إنَّ الغرب فيه ثقافة وفيه العلم المادي، والإسلام – كما قلنا – أطلق لنا العنان فيما يتعلَّق بالعلم المادي بالقيد الذي ذكرناه، ولابد أن نغترف منه أينما وجدناه، ولكننا لا نغترف بحسب وإنما نغترف ونطور ونخترع فيه، ونبتدع ونكون من المنشئين له المطورين له، المبتدعين له، نكون من أعلامه بل في قمة أعلامه.

[وللمقالة تتمة]

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة الجديد، 1 يوليو 1978 - العدد 156). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين