
سفيان الزاهد العابد:
من دعاء أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا. ومن دعائه أيضا: اللهم وسِّعْ عليَّ رزقي في دنياي، ولا تحجبني بها عن أخراي. وهذا النسق من الاتصال بالدنيا هو النسق الصادق، وعلى هذا الهدي، وهو الهدي القرآني سارَ سفيانُ الثوري في زهده.
يروي بشرُ بن الحارث أنَّ سفيان الثوري سئل: أيكون الرجل زاهداً ويكون له المال؟ قال: نعم. إن كان إذا ابتلي صَبَر وإذا أُعطي شكر.
وأمر الزهد في الدنيا يَلتبس على كثير من الناس؛ يظنُّ بعضهم أنَّه التجرُّد من كل شيء، والأمر ليس كذلك عند الصوفية، ولم يكن كذلك عند الصحابة فقد كان أبو بكر رضي الله عنه صاحبَ تجارة وثَرَاء، وكان عثمان رضي الله عنه صاحبَ مال وثَرَاء، وكان ثراءُ عبد الرحمن بن عوف ثراءً عريضاً، وكانوا زهاداً، أي: أنَّ المال لم يكن يَستعبدهم لقد ملكوا المال ولم يملكهم المال، وكانوا مُتحققين بقول الله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}.
وكان من المظاهر الجميلة في زُهدهم أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه جاءَ في يوم من الأيام بماله كله مُتبرِّعاً به في سبيل الله. ولما قالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا أبقيتَ لعيالك؟ قال: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه.
ويأتي سيدُنا عثمان بمالٍ كثير فيضعه في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم مُتبرِّعاً به في سبيل الله فَيُسَرُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكثرته التي تدلُّ على سماحة سيدنا عثمان والتي ستيسر أمرَ تجهيزِ الجيش، ويضع صلوات الله وسلامه علىه يدَه في المال يجول بها فيه هنا وهناك، ويقول: (اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راض) ويجول بيده في المال مرةً أُخرى ويقول: (ما على عثمان ما فعل بعد اليوم). ويتبرَّع عبد الرحمن بن عَوف بقافلة ضَخْمة من الجمال تحمل بُراً وألوانا كثيرة من الملبوس والمأكول يتبرَّع بالجمال وبما حملت الجمال صدقةً لوجه الله لا يطلب علىها من الناس جزاءً ولا شكوراً، لقد كانوا أثرياء وكانوا زهاداً.
ومن طريفِ ما يُروى في ذلك ويوضِّحه ما رواه ابن عطاء الله السكندري عن عارف بالله من كبار الأثرياء ولكن الدنيا كانت في يده لا في قلبه. يقول ابن عطاء الله:
وقد يكون حجاب الولي كثرة الغنى وانبساط الدنيا عليه، وقال بعض المشايخ: كان رجلٌ بالمغرب من الزاهدين في الدنيا ومن أهل الجد والاجتهاد وكان عيشه مما يَصيده من البحر وكان الذي يصيده يتصدَّق ببعضه ويتقوَّت يبعضه فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الشيخ: إذا دخلتَ إلى بلد كذا. . فاذهب إلى أخي فلان فأقرئه مني السلام واطلب الدعاء منه لي فإنَّه ولي من أولياء الله، فقال: فسافرت حتى قدمت تلك البلدة وسألت عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلحُ إلا للملوك، فعجبت من ذلك وطلبته فقيل لي: هو عند السلطان فازداد تعجبي فبعد ساعة وإذا هو آت في أفخر ملبس ومركب، وكأنما هو ملك في موكبه قال: فازداد تعجبي أكثر من الأول. قال: فهممتُ بالرجوع وعدم الاجتماع به ثم قلت: لا يمكنني مخالفة الشيخ فاستأذنت فأذن لي، فلما دخلت هَالني ما رأىت من العبيدِ والخَدَم والشارة الحسنة فقلت له: أخوك فلان... يسلم علىك؟ قال: جئتَ من عنده؟ قلتُ: نعم. قال: إذا رجعتَ إليه قل: إلى كم اشتغالك بالدنيا وإلى كم إقبالك عليها، وإلى متى لا تنقطع رغبتُك فيها. فقلت: هذا والله أعجب من الأول. فلما رجعت إلى الشيخ قال: اجتمعت بأخي فلان؟ قلت: نعم وأعدت عليه ما قال. فبكي طويلا وقال: صدق أخي فلان...، هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده وعلى ظاهره، وأنا أخذها من يدي وعندي إليها بقايا التطلع!.
ولقد كان سفيان يحثُّ على الكَسْبِ ويدعو إلى الزهد، ومن حثِّه على الكسب والعمل ما حدَّثَ به مبارك أبو حماد فقال: سمعت سفيان يقول لعلي ابن الحسن فيما يوصيه: يا أخي عليك بالكسب الطيِّب، وما تكسب بيدك، وإياك وأوساخ الناس أن تأكله أو تلبسه، فإنَّ الذي يأكلُ أوساخ الناس مثله مثل علىة لرجل وسفلة ليس له فهولا يزال على خوف أن يقع سفله وتتهدم علىته.
فالذي يأكلُ أوساخ الناس هو يتكلم بهوى، ويتواضع للناس مخافة أن يُمسكوا عنه، ويا أخي إن تناولتَ من الناس شيئاً قطعتَ لسانك وأكرمتَ بعض الناس وأهنتَ بعضهم مع ما يَنزل بكَ يوم القيامة؛ فإنَّ الذي يُعطيك شيئاً من ماله فإنَّما هو وسخه (وسخه أي: تطهير عمله من الذنوب)، وإن أنت تناولتَ من الناس شيئا إن دعوك إلى مُنكر أجبتهم.
وإنَّ الذي يأكلُ أوساخ الناس كالرجل له شُركاء في شيء ينبغي أن يقاسمهم، يا أخي جوعٌ وقليلٌ من العبادة خيرٌ من أن تشبع من أوساخ الناس وكثير من العبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ - أَحْسِبُهُ قَالَ: إِلَى الجَبَلِ - فَيَحْتَطِبَ، فَيَبِيعَ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ". [أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري].
وبلغنا أنَّ عمرَ بن الخطاب قال: (من عمل منكم حمدناه ومن لم يعمل اتهمناه، وقال: يا معشر القرَّاء، ارفَعُوا رءوسَكم ولا تَزيدوا الخشوع على ما في القلب، استبقوا في الخيرات ولا تكونوا عِيالاً على الناس فقد وضح الطريق).
ويقول سفيان: (ليس الزهدُ في الدنيا بلبس الخشن ولا أكل الخشن، إنما الزهد في الدنيا قِصَرُ الأمل). ويقول مرةً أخرى فيما رواه وكيع: (الزهدُ في الدنيا قِصَرُ الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العبا).
ومع هذا فإنَّ سفيان يَرى تَهافتَ الناس على الدنيا وذِلَّتهم في طلبها فيحاول ما استطاع أن يَصْرِفَهم عن المهانةِ والذلَّة، وأن يُبيِّنَ لهم خِسَّةَ هَؤلاء الذين يَذِلُّون لشهواتهم ويذلون للأثرياء والأمراء والملوك.
ونحن نذكر هنا بعض ما روي عنه في ذلك ولكن لا يعزب عن ذهننا أنه يرى أنَّ الزهد لا يتنافي مع الثراء.
وروى عبد الواحد عن سفيان قال: إنما هو اختيار أو اختبار أو عقوبة. قال فحدثت به محموداً أو ناظرته فيه فقلت له: الاختيار ينبغي أن ترضى به والاختبار ينبغي أن تصبر عليه والعقوبة ينبغي أن تتوب منها. وعن يحيي بن يمان قال: كان الثوري يتمثَّل بهذا البيت:
باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارسٍ خَلِقٍ، يا بئسَ ما اتَّجروا
والدنيا في نظرِ سفيان تمثِّلُها هذه الرؤيا التي رواها إبراهيم بن سعد فقال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: أخبرني رجلٌ من الصالحين قال: رأىتُ في مَنَامي عجوزاً شمطاء عليها من كل حلية فقلت: من أنت؟ فقالت: أنا الدنيا فقلتُ: أعوذُ بالله من شَرِّك. فقالت إن أردتَ أن يُعيذَك الله من شري فأبغضْ الدنيا والدرهم.
ومن مأثوراته: ما حدَّث به أبو مسلم المستملي قال: «إذا زهدَ العبدُ في الدنيا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبه وأطلقَ بها لسانه، وبصَّره عيوبَ الدنيا وداءها ودواءها».
ومع كل ذلك وتمشياً مع المبدأ الإسلامي وهو أنَّ الزهد معناه أن لا يُسيطر حبُّ الدنيا على قلب الشخص، وأن لا تستعبدَ الدنيا الإنسان، وأنَّ الإنسان يصح أن يكون من أصحاب الثراء وهو مع ذلك زاهد؛ لأنَّه يتحقق بقوله تعالى: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد:23}.
نقول: إنَّ الثوري لم يكن مُتزمِّتاً في مأكلٍ ولا ملبس، قال وكيع: رؤي سفيان الثوري يأكل الطباهج، وقال: إني لم أنهكم عن الأكلِ ولكن انظر من أين تأكل، وارتحل وانظر على ما تدخل وتكلَّم وانظر كيف تتكلم، كيف أنهاكم عن الأكل، والله سبحانه وتعالى يقول: [يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ] {الأعراف:31} .
وأما عبادة سفيان الثوري فيقول فيها مؤمل: ما رأىت عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان. وقال أبو أسامة: ما رأىتُ أحداً أخوفَ لله تعالى من سفيان، وقرأ سفيان: [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ] {الطُّور:26}، فخرجَ فاراً على وَجْهِه حتى لحقوه، واجتمعت بنو ثور على سفيان وهو شاب يُناشدونه مما كان فيه من العبادة، أي أقصر عن هذا».
ومن العبادة الذكر والدعاء:
روى سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي الصَّلَاةِ أَنْ أَقُولَ قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ «قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلَّهِ، فَمَا لِي أَنْ أَقُولَ؟ قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي. فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّ هَذَا قَدْ أَصَابَ الْخَيْرَ كُلَّهُ. أَوْ: عَلِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ.
وحدَّث محمد بن يزيد بن خنيس قال: كان سفيانُ الثوري يقول كثيراً: «اللهمَّ أبرم لهذه الأمَّة أمراً رشيداً يعزُّ فيه وليُّك، ويذلُّ فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك ورضاك».
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : مجلة الأزهر، (السنة 41، ذو القعدة 1389هـ) الجزء التاسع.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول