
(لقد مَنَّ الله على أهل الإسلام بسفيان الثوري!) [المعافى بن عمران]
إنَّه سفيانُ بنُ سعيدٍ الثوري، وُلد سنة خمسٍ و تسعين، أو سبع وتسعين من الهجرة بالكوفة، كان أبوه من ثقاتِ المحدِّثين، ولقد ذَكَره المؤرِّخون في أئمة المحدِّثين الذين أخذَ عنهم سفيان، وكان من غير شك أول من لقن سفيان العلم، فنشأ سفيانُ – دون اختيارٍ منه – بين كُتب الحديث، وتفتَّحت عيناه على جو من العلم يتَّسم بعبيرِ النبوة، ويَسُودُه جَوامع الكلم، واتَّجه آلياً في دراسته وجهة أبيه، وفي ذلك يقول هو: طلبت العلمَ فلم تكن لي نِيَّة، ثم رزقني الله النيَّة.
أي: أنه طلب العلم أولاً بحكم العادة البحتة، ثم وفَّقه الله سبحانه لأن يقصد به وجه الله، ولكن مما يجدر مُلاحظته أنَّ المحدثين إذ ذاك ما كانوا يأخذون على الحديث أجراً، لقد كانوا يتمثَّلون قَولَه تعالى: [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] {الأنعام:90}.
ويبدو أنَّ والد سفيان لم يكن من ذوي الثراء العَريض، وأنَّ سفيان وإن كان قد نشأ في جو علمي فيه النور والإشراق والصفاء، وفيه باستمرار ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه أكثر من مرة في كل يوم، فإنَّه نشأ مع ذلك في جو من التقشُّف، بيد أنَّ جوَّ الأسرة كان جواً كريماً، فقد كانت أمُّ سفيان من النساء الحصيفات التقيَّات: لقد كانت ذاتَ عقلٍ وذات تقوى، انظر إلى عقلها وتقواها في نصيحتها لسفيان: عن وكيع، - العالم المعروف - أنَّ والدة سفيان قالت له: (يا بني اطلب العلم، وأنا أَعُولك بمغزلي، وإذا كتبتَ عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تَرَ ذلك فلا تتعبن نفسك).
ويكفينا هذه الكلمة لنأخذ منها:
1- إنَّ الجو الذي كان يَعيشُ فيه سفيان كان جو تَقَشُّف.
2- وأنَّ هذا الجو كان يتَّسم بالتقوى والصلاح.
ونشأ سفيانُ بين أبٍ (من ثقات المحدِّثين) وأمٌّ تريد أن تَعُوله بمغزلها ليطلب العلم من أجل زيادة النُّور في قلبه، لم تكن الأمُّ تُفَكِّر لابنها – من وراء تعليمه – في الجاهِ أو الثَّراء، وإنما كانت تُفَكِّر في أن يَزدادَ الخيرُ في نفسه.
ونظرةُ الأم إلى هَدف العلم، إنَّما هي النظرة التي كانت تسودُ البيئةَ إذ ذاك لقد تربَّت عليها البيئة الإسلامية منذ: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28}. ومنذ: [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18}.
ولقد كانت البيئة حينئذ تتمثَّل قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي: (من سلكَ طَريقاً يَبتغي فيه عِلْماً سهَّل الله له طَريقاً إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلم رضاً بما يَصنع، وإنَّ العالم ليستغفرُ له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضلِ القمر على سائرِ الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذَ بحظٍّ وافر).
وبدأ سفيانُ يتعلَّم اتّباعاً لأبيه واستجابةً لرغبةِ أمِّه، ولكن سفيان بمجرد أن دخلَ في دور الشباب بدأ يفكر جدياً في أمر مَعيشته، وليس من الطبيعي أن يغتبط سفيان – وهو صاحب الفطرة الصافية – بأن تَعُوله أمُّه بمغزلها، أو أن تستمرَّ أمه في إعالته بمغزلها.
يقول سفيان فيما رواه يحيى بن يمان: لما هَممتُ بطلب الحديث، ورأيت العلم يدرس قلت: أي رب إنَّه لابدَّ لي من معيشة، فاكفني أمرَ الرزق وفرِّغني لطلبه، فتشاغلتُ بالطلب، فلم أرَ إلا خيراً، بيد أنَّ سفيان تنبه بسرعة إلى أنَّ المال ضروري للإنسان على أي وضع كان الإنسان: إنَّه ضروري له، لو أراد أن يسيرَ في حياته على أن يكون مُتعبِّداً، وضروري له لو أراد أن يسيرَ في حياته على أن يكون عَالماً، والعابد لا يأخذ على عِبادته أجراً، والعالم لا يأخذ على عِلمه أجراً، لابد إذن من التكسُّب ومعه المال.
يقول سفيان هذه الكلمة المدويَّة: (عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والانفاق على العيال)، ولما سئل عن الحلال ما هو؟ قال: (تجارة بَرة، أو عطاء من إمام عادل، أو صلةٌ من أخ مؤمن، أو ميراث لم يخالطه شيء).
ويقول هذه الكلمة المدوية أيضاً: (لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس). ويقول لهؤلاء الذين يريدون أن يلتزموا المساجد أو الخلوات للعبادة، يقول لكل منهم: (إذا أردتَ أن تتعبَّد فأحرز الحنطة) أي: ليكن قُوتك مَوفوراً عندك من كسبك، ويُعزِّز سفيان قوله بأخبار العبَّاد بأنه مكتوب في التوراة: إذا كان في البيت بُرٌ فتعبَّد، وإذا لم يكنْ فالتمسْ.
ولقد كان سفيانُ مَعْنياً بالعُبَّاد، يريد دائماً أن يكونوا أعزَّة بالله، إنَّه يُخَاطبهم كلما صادفهم قائلاً: يا عُبَّاد، ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق، ولا تكونوا عالةً على النَّاس.
ويقول يحيى بن يمان، قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله، أين تطيب العبادة؟ قال: حيث جوالق من خبز بدرهم، حتى لا يمدَّ أحدٌ عَينَه إلى أحد) اهـ.
والمال لابدَّ منه للمؤمن لمجرَّد وصف الإيمان، وذلك أنَّ الإيمان يتضمَّن أن لا يهينَ الإنسانُ نفسَه بالمسألة، وأن لا يريقَ ماءَ وَجْهه بسبب الحاجة.
يقول سفيان: (كان المال فيما مضى يُكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن)، ومن أجل ذلك طلب سفيان المال عن طريق التجارة، وسافر مُتاجراً، ولم يعبأْ بالبعض عندما عَابوا عليه السفر للتجارة.
يروي عبد الرزاق أنَّ سفيان سافرَ إلى اليمن مُتَاجراً، فلما حضر من اليمن ذهب إليه ابن عيينة، فسَلَّم عليه، وردَّ وهو مُتكئ على عصاه، فقال ابن عيينة: يا أبا عبد الله عابَ الناسُ عليك خروجَك إلى اليمن فقال: (عابوا غيرَ مَعِيب، طلب الحلال شديدٌ خرجتُ أريده).
لم يعبأْ بمن عَابوا عليه السفر للتجارة، ولقد أخذ مَرَّة من رجل أربعة آلا درهم مُضَاربة فاشترى بها مَتاعاً مما يُبَاع في اليمن، فأخذه معه فربح فيه نفقته.
لقد خرج إلى اليمن يَلتمس الحلال بالتجارة، ولقد فعل أكثر من ذلك، لقد كان يعطي لبعض الناس مالاً يتَّجرون فيه لحسابه:
يقول ابن سعد: قال الواقدي: كان سفيان يأتي اليمن يتَّجر، ويُفرِّق ما عنده على قومٍ يتَّجرون له ويلقاهم في الموسم يُحَاسبهم ويأخذ الربح، وقال مُبارك بن سعيد: كانت له معي بضاعة ويوصي سفيان من عنده قدر من المال أن يصلحه أي يثمره: (من كان في يده من هذه شيء – كما يقول – فليصلحه، فإنَّه زمان من احتاج كان أول ما يَبذل دينه).
ولقد كان سفيانُ يَمقتُ هؤلاء الذين يَقفون بباب السلطان طلباً للمال، أو الذين يَبيعون دينَهم بدنيا السلطان، أو الذين يُداهنون، ويتملَّقون الأمراء والملوك، ويقول عن هؤلاء وأولئك: إنَّ عامة من داخل هؤلاء (أي: الأمراء) إنَّما دفعهم إلى ذلك العيال والحاجة. ويقول لأحدهم: (يا شيخ ولي فلان فكتب له (أي: كنت سكرتيراً له ) ثم عزل، وولي فلان فكتبت له، وأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، يدعى بالأول فيسال، فيدعى بك فتسأل معه عما جرى على يديك له، ثم يذهب، وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر فيسأل وتسأل أنت عمَّا جرى على يدك له، ثم يذهب وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر: فأنت يوم القيامة أسوؤهم حالاً، فقال الشيخ: فكيف أصنع يا أبا عبد الله بعيالي؟ فقال سفيان: اسمعوا هذا يقول: إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاع الله ضيع عياله) اهـ.
لقد كان لسفيان تجارة، وكانت له بضاعة، يقول يوسف بن أسباط: كانت له بضاعة مع بعض إخوانه، وكان يقول: ما كانت العدَّة – أي المال المعد – في زمان أصلح منها في هذا الزمان؟ وما من شك في أنَّ المال السائل الذي كان يتصرَّف فيه سفيان لم يكن كثيراً، فقد روى أحمد العجلي أن بضاعة سفيان كانت ألفي درهم، وهو مبلغٌ معقول بالنسبة لرجل لم يكن همُّه في قليل ولا كثير التجارة للغنى، وإنما ليمسك الرمق، وكان سفيان يدَّخر المال للحاجة، يقول عبد الله بن محمد الباهلي: (جاء رجلٌ إلى سفيان الثوري، فقال: يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير؟ وكان في يد سفيان خمسونَ ديناراً فقال: اسكت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك، أي: لجعلونا في أيديهم كالمناديل يتمسَّحون بها، ويَقْضُون بها مَآربهم، وقال أبو نعيم، قال سفيان: (لولا بضاعتنا لتلاعب بنا هؤلاء -يعني الحكَّام والأمراء- ).
ومع كل ذلك فما كان سفيانُ صاحبَ ثراءٍ عَريض، بل وما كان يتمنَّى أن يكون صاحبَ ثراء عريض، كلا، لقد وهبَ نفسَه للعلم، ووهبها للعلم لوجه الله سبحانه وتعالى، وما كان هدفُه من المال إلا حفظَ ماءِ وجهِه، ولم تكن رسالتُه جمعَ المال، وإنَّما كانت رسالته إذاعة التراثِ النبوي، تراثِ محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا علماً، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
لقد اقتصرَ سفيانُ من المال على الحدِّ الذي لابد منه لحياة لا تتطلب ترفاً ولا مُتعة، فما كان تَرَفُه إلا في العلم والعبادة، ولما ماتَ رضي الله عنه خَلَّف – كما يقول يوسف بن أسباط – مائتي دينار كانت عند رجل يتبضَّع له بها، وهذا المبلغ هو كل ما خَلَّفه سفيان.
والذي نريدُ أن نقوله بعد كلِّ ذلك: هو أنَّ سفيان كان يسيرُ على النَّسَق الإسلامي المستقيم فيما يتعلَّق بالعلماء: خلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النسق هو أن لا يَسيروا في ركابِ الملوك والأمراء من أجل الرزق، وإنما يتكسَّبون رزقهم ويحفظونَ ماءَ وجههم، ويعتزون بالله، وينشرون رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث موصول إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر، السنة الحادية والأربعون، رجب 1389 - الجزء 5
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول