أين الله؟

[1]

من قواطع المعقول والمنقول: تَنزُّه الله تعالى عن الاحتياج إلى غيره؛ لأنه سبحانه القائل: (والله هو الغني الحميد)، ولأنه القائل: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ؛ ولأن رسوله القائل: (كان الله ولا شيء معه).

والمكان شيء؛ واعتقاد أنه تعالى في مكان = يلزم عنه الاحتياج، والاحتياج نقص، ويلزم عنه التغير في ذات الله حيث حدث في ذاته مالم يكن قبل خلق المكان؛ فحين خلق المكان تمكن فيه، وهو تغير في الذات، والتغير حدوث، فيكون متصفا بالحوادث، فيترتب عليه أن يكون حادثا.

ولو كان التمكن في المكان كمال لترتب عليه أنه تعالى كان ناقصا فتم كماله بالكون في مكان.. وكل هذه لوازم باطلة؛ لذا قرر جمهور علماء المسلمين -إلا من شذ- بتنزه الله عن المكان.

عبر عن هؤلاء الجمهور من السلف والخلف الإمام الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته المجمع عليها حين قال: (( وتعالى -ربنا- عن الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ))، وقد شذ عن طريق الجادة من نسب لله جهة هي العلو، على معنى كونه تعالى في جهة الـ"فوق"، بمعنى أن من هو فوق الجبل أقرب إلى الله تعالى ممن تحته!

وجمهور السلف والخلف يثبتون لله تعالى العلو، لكنه علو الرتبة والمكانة لا علو المكان، فمن فوق الجبل ومن تحته بالنسبة لله سواء!

والسادة الحنابلة القائلون بصفة العلو = كلامهم فيها يؤول إلى مجرد إثبات الألفاظ تعظيما للوحي، ويؤول إلى ما قاله الجمهور من أن المراد به علو المكانة لا المكان، أو على أقل تقدير إثبات صفة العلو مع تنزيه الله عن التشبيه وتفويض المعنى، فيوافقون بهذا أهل السنة الأشاعرة والماتريدية!

[2]

سؤال العامي: أين الله؟.. مشروع لا شك في هذا، كما أن سؤال الملحد: هل الله موجود، هل الجنة حق.. مشروع لا شك، وكما أن سؤال الكتابي: هل محمد رسول، هل القرآن كلام الله.. مشروع لا شك فيه.

لكل صاحب شبهة أن يسأل، وله الحرية في التعبير عن رأيه بلا حرج، لكن الأمر كما يقول الشيخ محمد الغزالي السقا رحمه الله ما معناه: لصاحب الشبهة الحرية في أن يعبر عن رأيه، لكنها حرية إخراج الشبهة للقضاء عليها!

شبهة تقال لمرة واحدة ليجاب عنها ولتزول بدعته. أما أن يُجعل قول العامي ديدنا نردده، او مسألة يتم التنظير لها؛ أو قضية ننافح عنها = فلا حرية في هذا، كما لا حرية في القتل.. قتل الأرواح بالإضلال، أو قتل الأنفس بالسيف!

 نعم السؤال بـ"أين الله" ممكن؛ وقد نطق باللفظ سيدنا رسول الله ؛ لكنه أيضا هو الذي علمنا التنزيه في غير آية، وجاءنا بما يدل على نفي المكان عن الله في غير آية؛ فلم نجعل القرآن "عضين" فنؤمن ببعضه ونكفر ببعضه!

 وإن من الغش للمسلمين أن نقرهم أو نقر فريقا منهم على ترداد جواز السؤال بـ "أين الله" مع علمنا بان هذا الفريق لا يتورع عن نسبة المكان لله بالمعنى المنهي عنه.. بالمعنى المبتدع.

إن تغير الزمان يوجب البيان، فإن كانوا قديما يقرون السؤال بـ"الأين"، فمع اختلاف الأحوال والتباس الأمور = لا يجب الإقرار به إلا مع بيان، كمن أسلم بعد تأليه المسيح، لا نكتفي منه بالشهادة إلا مصحوبة بكون عيسى رسول لا إله؛ فلا يقال حيئنذ إن رسول الله لم يفعل ذلك واكتفى بالشهادة!

من بدع العصر: الاستنباط من فهوم العوام، والحق أن العامي لا يُسْتَنْبَطُ من قوله تشريع أو حكم فضلا عن اعتقاد، وسكوت النبي عنها حين أشارت لم يكن لإقرار المكان لله، بل لأن هذا مبلغ علمها وعقلها، ولأن الإشارة دليل على مفارقتها لعبادة الأوثان؛ لأن السماء منها يتنزل الأمر ومنها ينزل الوحي؛ لذا سألها بعد هذا السؤال مباشرة: "ومن أنا؟".

من حكمة الدعوة الحاصلة من رسول الله في مخاطبة الجارية أن خاطبها بما تعقل، مع الإشفاق عليها، لكونها خرساء أو أعجمية أو أمية، أو ستتعلم، واكتفى النبي منها بمفارقة الأصنام بالإشارة لعلو الإله الحق عن آلهة الأرض؛ أما مد هذا الخط لآخره بجعل فهوم العوام وتشوشات عقولهم مصدرا للفهم السديد للشرع الشريف، وفهم نصوصه، وتوجيه محكمه ومتشابهه = فلم يقل به عالم معتبر!

القصد أننا أمام بدعة "الاعتداد بأفهام العوام" ضمن بدع كثيرة يراد بها تحريف الإسلام، بالاحتكام للعامة، باسم الفطرة، غافلين عن أن الفطرة يراد بها الفرد الكامل، أو الفطرة غير المشوشة كفطرة الإمام الشافعي والسيدة زينب أو السيدة نفيسة؛ كما نص الباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم.

 

[3]

المخالف في هذه المسألة يتأول قوله تعالى (في السماء) بـ"على السماء"، ويؤول الاستواء على العرش، بـ العلو عليه.

والمخالف في هذه المسألة يؤول قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) فهو لا يقول: إن الله معنا حقيقة بل يقول: معنا بعلمه.

والمخالف يؤول قوله تعالى: (وهو الله في السماء والأرض)، فهو لا يقول الله في الأرض.

والمخالف يؤول قوله تعالى: (وحيثما تولوا فثم وجه الله)، ويؤول قوله (كل شيء هالك إلا وجهه)، كما يؤول قول رسوله : (مرضت فلم تعدني)، ويؤول (إن الله لا يمل)؛ فلا يحمل هذه النصوص على ظاهرها.

فالمخالف مؤول مع إنكاره التأويل على غيره.. بل المخالف مؤول في عين مسألته التي ينافح عنها، كما اتضح هنا، فضلا عن تأويله في غيرها من آيات القرآن لو تتبعناها لظهر تناقض المخالف، ومزايدته على غيره!

ليس في إثارة هذه القضايا سوى إشغال المسلمين بما لا ينفعهم، والعالم الحكيم البصير بالدعوة إن اعتقد أن العامي من سؤاله: أين الله؟ يعتقد إثبات المكان لله تعالى؛ وجب شرعا على المجيب أن يوضح له تنزيه الله عن المكان وتنزيه الله عن القعود وتنويهه أن يكون محاطا بالسماء، ولا يقال حينئذ: النبي أقر السؤال. لأن هذا إغفال للسياق وحال السائل وحال الزمان، وظهور هذه البدعة وهذا التحريف لدين الله تعالى يستدعي مراعاة هذا في التعلم والتعليم

مهمة العالم ليست تقعيد التشوشات الفكرية للعامة ؛ بل مهمة العالم إيضاح المشكلات ورفع الالتباس وتعليم العلم وفك الاشتباك؛ لأن هذا واجبه؛ فإن النصارى لما اعتقدوا إقرار القرآن لألوهية عيسى في قول الله تعالى (فنفخنا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) وتسميته (كلمة الله) = لم يسكت ولم يكتف بذكر الحق، ولم يقرهم على هذا الفهم، بل أوضح بأبين كلام عبودية المسيح وأمه لله، وكَفَّر من اعتقد خلاف ذلك؛ هذا مع صحة الكلمة في نفسها، فالمسيح كلمة الله؛ أي خُلق بكلمة الله، وخُلق من روح الله، أي بأمره، كما قال في آدم (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي من قدرة الله وبأمر الله.

لم يقل القرآن: "هو كلمة الله، فالعبارة صحيحة، ومنكرها راد لكلام الله". بل إن وجد الالتباس = وجب الإيضاح والبيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز!

 

[4]

فالجواب المختصر الذي ينبغي تعليمه للناس باللفظ أو المعنى أن نقول: "الله موجود، منزه عن المكان؛ لأن المكان خلق من خلق الله، والله لا يحتاج إلى شيء من خلقه"، وقوله تعالى: (أأمنتم من في السماء)، وإشارة الجارية؛ لا يفهمان بمعزل عن بقية النصوص، فهذا فعل أهل الزيغ : تقطيع النصوص، والتركيز على المتشابه، وعدم رده للمحكم؛ كما قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)؛ فذكر المحكمات نجاة، والوقوف على المتشابهات: خلل عقلي ونفسي!

والمحكمات الواضحات في قضايا الصفات جميعا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)، وقوله تعالى (ولا يحيطون به علما)، وقوله تعالى (قل هو الله أحد)، وقوله تعالى: (وهو الغني الحميد). وفهم آيات الصفات لا سيما الخبرية بمعزل عن هذا لا يصدر إلا عن ضال مضل، متشبه بفعل أهل الضلال (الذين جعلوا القرآن عضين) أي مجزءا، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض!

ومختصر المختصر أن تقول: "الله موجود بلا مكان"؛ لأن هذا القول هو عصارة مجموع النصوص المثبتة لله تعالى التعالي عن خلقه والغنى عما سواه، وخلاصة الوقوف فيها على حد المحكمات؛ "ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير"، كما يقول الطحاوي، رحمه الله!

والله الهادي!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين