إتلاف أموال الناس في نظر الإسلام

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ الله» [أخرجه البخاري].

قال البخاري رضي الله عنه، في صحيحه في ترجمته للباب: 

إلا أن يكون معروفاً بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفعل أبي بكر حين تصدَّق بماله، وكذلك آثر الأنصارُ المهاجرين، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموالَ الناس بعلة الصدقة. اهـ. 

رأى الإسلام أنَّ المال عَصَبُ الحياة وسرها، وأنَّه مبعث سعادتها وشقائها، وأنه فتنة الدنيا ومحك الأخلاق، فوقف بإزاء المال وقفات عجيبة لم يقفها دين قبله، وقفة الدين الوسط العدل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

فقد كان الناس قبل ظهور الإسلام قسمين: قسم تقضي عليه تقاليدُه بالماديَّة المحضة، فلا همَّ له إلا حظوظ الحياة وملاذّها كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانيَّة الخالصة وترك الدنيا وما فيها من نعيم وخيرات، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنيي الهند وأصحاب الرياضات.

أما الأمَّة الإسلامية فقد جمع الله تعالى لها في دينها الحقّين: حقَّ الروح، وحقَّ الجسد. 

فهو دين روحاني مادي: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]. ولم يكن ذلك خاصّاً بالرسل، بل من عموم الإسلام أن خاطب المسلمين جميعاً بما خاطب به الرسل، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]، فهو دين الإنسانية الكاملة، والحياة الشاملة.

لذلك لم يترك باباً من أبواب التشريع المالي إلا سلكه، فصوَّر أخلاق الأغنياء خيرها وشرها، وأنذرهم في أنفسهم، وحذَّرهم عاقبة أعمالهم في أولادهم بعد مماتهم: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9].

وحثَّ على الإنفاق بأساليب مختلفة، وفي مُناسبات مُتعددة، وبيَّن طرق الكسب حلالها ومشروعها، وحرَّم على الإنسان أن يأخذ مال أخيه ظلماً وعدواناً، فقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ} [البقرة:188]. 

ويدخل في هذا الباب: التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخر بعضهم بعضاً في عمل لا يعطيه عليه أجراً، أو ينقصه من الأجر المسمَّى أو أجر المثل، ويدخل فيه سائر صور التعدي والغش والاحتيال، كما يقع من السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس إذ يُزيِّنون للناس السلع الرديئة، والبضائع البائرة، ويسولون لهم فيورِّطونهم، وكل من باع أو اشترى مُستعيناً بإيهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صِحَّة فهو آكل لماله بالباطل.

ثم توجَّه الإسلام إلى الفقراء ليطمئنَ نفوسَهم ويسكِّن قلوبهم، فأخبرهم أنَّ الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وهو الذي يغني ويفقر، بيده الخير، و عنده مفاتح الرزق، ولا ينزله إلا بقدر معلوم، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}[الحجر:21].

فليس من حقِّ الفقراء أن يحقدوا على الأغنياء أرزاقهم، ولا أن يضمروا لهم سوء نياتهم: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات:58]. {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشُّورى:27]. 

فما على الفقراء إلا أن يطلبوا المال من طريقه، وأن يتوسلوا إليه بالطاعة، وأن يتخلَّقوا بالقناعة والرضا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم والمعاصي، فإنَّ العبدَ ليذنب الذنب فيُحرم به رزقاً قد كان هيئ له) ثم تلا قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ...}[القلم:19].

والحديث الذي معنا يريد منه عليه الصلاة والسلام أنَّه حرام على الإنسان أن يأخذ المال يقترضه بنية أن يتلفه ولا يردَّه، فدعا عليه صلى الله عليه وآله وسلم زجراً له، فلا يجوز لأحد أن يأخذ قرضاً إلا أن تكون له ذمة وضمان تفي بدينه على كل حال، وإلا دخل تحت هذه الدعوة التي جاءت في دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه، لأنه يكون في هذه الحالة قد غرَّر بأخيه المسلم لكونه أخذ ماله، وهو ليس له من أين يعطيه، فإنَّ المعطي يقول في نفسه لولا ما يعلم هو من نفسه أن له ما يؤدي به ما يأخذه مني ما طلبه؛ لأنَّ أخوة الإسلام تقتضي أن لا خِلابة ولا غَبْن ولا خِيَانة.

ولا يخرج من هذا الذنب إلا بأن يُبيِّن للمقترض منه ويقول له: ليس لي ضمان على ما آخذ منك هذا المال، وإنما تسلفه لي، فإن فتح الله سبحانه عليَّ بشيء أعطيتُك إياه وإلا لا لوم عليَّ، فإن رضي في هذه الحالة وأعطاه على ذلك الوجه فلا يكون قد غرَّر به، فلا يدخل تحت هذا الدعاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).

فمن أخذ ديناً وتصدق به ولا يجد ما يقضي به الدين فقد دخل في هذا الوعيد.

ثم استثنى الحديث أنواعاً لا تدخل تحت هذا الدعاء والزجر، وهو من كان معروفاً بالصبر فيتصدق مع عدم الغنى أو مع الحاجة فيؤثر غيره على نفسه بما معه ولو كان به خصاصة وحاجة، كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بماله كله، كما جاء في حديث مرفوع أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه سمعت عمر رضي الله عنه يقول: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، فجئت بنصف مالي، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله).

ولذا قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دَين عليه وكان صبوراً على الإضافة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضاً فهو جائز، فإن فقد شيء من هذه الشروط كره.

وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، كما ورد في حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم شيء، وكانت الأنصار أهل الأرض والعقال، فقاسمهم الأنصار رضي الله عنهم أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة).

والأنصار والمهاجرون إذا كانت لهم ضرورة ويرون غيرهم في ضرورة ينظرون أولاً في حق أخيهم المسلم، ويحملون أنفسهم على الصبر، كما فعل بعضهم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهنَّ شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله)، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العَشاء فنوميهم وتعالَي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد عجب الله عزَّ وجل من فلان وفلانةّ! فأنزل الله عزَّ وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].

ومثله ما ذُكر عن علي رضي الله عنه أنه دخل والأولاد يبكون من الجوع، فقال ما شأنهم؟ فأخبرته رضي الله عنها بأنه من الجوع وليس عندهم شيء، فخرج فاقترض ديناراً ليشتري به لهم ما يأكلون، فهو راجع به وإذا بأحد قرابته فسأله عن حاله فأخبره أن عياله على جوع شديد وأنه ليس عنده شيء، فدفع له الدينار كله ودخل بيته، وليس عنده شيء، وهذا عشية النهار. ثم خرج يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدنا منه في الصلاة، فلما فرغت الصلاة التفت عليه السلام إليه، وقال له: يا علي هلا عشّيتني الليلة؟ فتفكر في نفسه أنْ ما عنده شيء، فقال له: نعم، ثقة بالله تعالى ثم ببركته صلى الله عليه وآله وسلم، فأتى معه إلى منزل عليّ، فدخل عليٌّ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معه، ثم قال النبي: يا بنية ألا تعشينا! فالتفت علي فإذا في البيت ثريد مغطى يبخر، فقُدم لهم، فقال له: يا علي هذا بالدينار الذي أعطيته فلاناً! وحمد عليه السلام على ما جعل في أهل بيته مما يشبه مريم عليها السلام حين قيل لها: {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [آل عمران:37].

أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إضاعة المال فليس له أن يضيِّع أموال الناس بعلَّة الصدقة).

فهذا تأكيد لما تقدم، لأنه إذا منَع صلى الله عليه وآله وسلم إضاعة مال الغير عموماً، فليس لك أنت أن تخصص عموم لفظه صلى الله عليه وآله وسلم بأن تقول: إنما استلفتُ من أجل أني أتصدق بما استلفت، وليس هذا من باب إضاعة المال، بل هي إضاعة محضة حتى تُعْلِم من تقترض منه فتقول له: أتسلف منك هذا المال على أن أتصدَّق به عن نفسي فإن فتح الله عليَّ رددتُ إليك مالك، وإلا فلا تبعة لك عليّ، فإن رضي فحسن، وإلَّا فلا.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام)، العدد الأول، من السنة الثامنة، 1373=1954

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين