إسرائيل والأسرى المصريون -3-

 

كتيبة (شاكيد)

فما كتيبة (شاكيد)؟

هى كتيبة إسرائيلية أنشئت قبل العدوان الثلاثى عام (1956م) لحراسة الحدود الإسرائيلية مع مصر ومنع الفدائيين من التسلل عبرها لتنفيذ عمليات فدائية داخل إسرائيل.. وفى عام (1955م) أُلحْقِت بقيادة المنطقة الجنوبية واعتُبِرت من قوات النخبة فى الجيش الإسرائيلى.. وكانت تضم بين أفرادها خبراء فى الأسلحة والمتفجرات وعدداً من القناصة وعدداً من قصاصي الأثر لتتبع آثار الفدائيين الذين ينجحون فى التسلل إلى الأراضى الإسرائيلية.. ولم يكن أعضاء هذه الوحدة يرتدون الزى العسكرى وإنما كانوا يؤدون عملهم بالملابس المدنية حتى لا يتعرف عليهم الفدائيون.. وقد شاركت كتيبة (شاكيد) فى حرب (1967م) بعد أن تم تزويدها بطائرتين مروحيتين وطائرة مقاتلة.. وعندما قامت الحرب كُلِّفت وحدة (شاكيد) بمواجهة رجال الصاعقة المصريين فى صحراء سيناء.. وبعد توقف القتال صدرت لها التعليمات بمطاردة وحدة مصرية كانت فى قطاع غزة وانسحبت عبر أراضى سيناء فى اتجاه قناة السويس وأكدت الأوامر وجوب العثور عليها وقتل أفرادها.. وبالفعل قامت الوحدة بتنفيذ ذلك التكليف.. وتم رصد ومطاردة وقتل جميع أفراد الوحدة المكونة من 250 ضابطاً وجندياً مصرياً كما جاء فى الفيلم.

وفى عام (1974م) وبعد الانتصار الكاسح للمصريين على إسرائيل فى عام (1973م) قررت القيادة الإسرائيلية تقليص حجم الكتيبة ثم قامت بحلها نهائياً وبشكل كامل فى عام (1979م).

ولكن ما أسباب بث التليفزيون الإسرائيلى لهذا الفيلم فى ذلك الوقت بالرغم من أنه يمثل حرجاً شديداً للقيادة المصرية؟

هناك ثلاثة أسباب لذلك هى على النحو التالى:

1- تستشعر إسرائيل انطلاقاً من سياستها الثابتة بتدمير الروح المعنوية للعدو أن القيادة المصرية الحالية قيادة عاجزة وفى أضعف حالاتها وأنها فقدت نهائياً وبالفعل أى إمكانية أو رغبة فى الحرب وقتال الإسرائليين وذلك حين قررت أن خيارها الوحيد فى التعامل مع إسرائيل هو خيار السلام.. وأن هذه القيادة - كما ترى إسرائيل- لا تستطيع أن تقامر بإغضاب إسرائيل أو أمريكا باتخاذ أى موقف ضد اليهود مثل طلب التحقيق في تلك الجريمة وذلك رغبة منها فى تحقيق مصالح خاصة بها يعرفها اليهود جيداً ويقامرون عليها.. كذلك فإن إسرائيل تعتقد أن المجتمع المصرى فى هذه الفترة منكشف بالكامل ويمكن تحطيم روحه المعنوية وإذلال كرامته وتأكيد الهزيمة فى داخله بمثل هذه الأفلام الوثائقية التى تذكره بقسوة وجبروت جيش الدفاع الإسرائيلى كما يزعمون.. ويلاحظ أن هذا الأسلوب الخبيث فى تحطيم الروح المعنوية للعدو قد تم استخدامه ضد المصريين والعرب عقب حرب (1967م).. فقد نشرت كبريات الصحف الأمريكية والغربية العشرات والمئات من الصور للجنود المصريين التائهين والضائعين فى صحراء سيناء تحت وطأة الهزيمة والجوع والعطش وغياب القيادة.. وفى هذه الصور بدا الجندى المصرى ضعيفاً منهاراً متهالكاً يجر أقدامه جراً على رمال الصحراء الملتهبة والطائرات المروحية الإسرائيلية تطارده وتصطاده كما تصطاد الطرائد.. كل تلك الصور أريد من نشرها تحطيم الروح العنوية ونشر روح الهزيمة فى قلوب المصريين والعرب جميعاً، وإفقادهم الأمل فى كسب أى مواجهة عسكرية مع إسرائيل فى المستقبل.

2- كانت هناك أسباب تتعلق بالصراع السياسى داخل إسرائيل وذلك بكشف الدور الدموى والإرهابى للمجرم (بنيامين بن اليعازر) وزير البنية التحتية فى حكومة (أولمرت) والمتطلع إلى المنافسة على زعامة حزب العمل.

3- محاولة القيادة الإسرائيلية أن ترفع من الروح المعنوية داخل إسرائيل بعد أن تحطمت فى حرب يوليو (2006م) على أيدى مقاتلى (حزب الله) فى جنوب لبنان الذين أذلوا كبرياء العسكرية الإسرائيلية ومرغوا أنفها فى التراب واستطاعوا ضرب قلب إسرائيل بالصواريخ فأصابت كل من بداخلها بالفزع والرعب والهلع، وأظهرت جيش الدفاع الإسرائيلى بصورة بائسة ومزرية وهو الذى كان يدعى بأنه الجيش الذى لا يقهر.

فما وقائع ذلك الفيلم الوثائقى؟ وما الاعترافات التى جاءت به وتُعَدُّ دليل إدانة صارخاً على ارتكاب الجريمة التى عرضها؟

تحدث فى الفيلم عدد كبير من الجنود الذين خدموا فى صفوف الكتيبة وكشفوا عن عمليات القتل التى قاموا بها عام (1967م) بدم بارد.. وأكد الكثير من هؤلاء الجنود أنهم قتلوا الجنود المصريين الأسرى بشهوة الانتقام وتطبيقا لتعليمات عسكرية من قادتهم بالقتل الفورى للأسرى.

ومن جانبه روى (بنيامين بن اليعازر) مجرم الحرب الإسرائيلى الذى كان قائداً للوحدة وشارك فى عمليات الملاحقة والقتل كيف تمت عملية المطاردة بمروحية كانت تنزل على الأرض فينطلق منها الجنود الإسرائيليون ليطلقوا الرصاص ويقتلوا الجنود المصريين المطاردين بالرغم من أنهم كانوا متهالكين وبلا سلاح وغير قادرين على مجرد السير أو الفرار بعد أن انهكهم الجوع والعطش.

وقال المجرم متفاخراً إن بعض الجنود المصريين كانوا يدفنون أنفسهم فى الرمال للاختباء من الإسرائيليين ولكن جنود الوحدة كانوا يكتشفونهم ويقتلونهم.

وقد تخللت أحداث الفيلم مقاطع وثائقية مصورة تظهر إطلاق النار على الجنود المصريين رغم أنهم كانوا بلا سلاح أو رافعى الأيدى أو منبطحين على الأرض.

اعترافات السفاحين

وهل اعترف آخرون غير المجرم (بنيامين بن اليعازر) بجرائم قتل أخرى للأسرى المصريين العزل؟

نعم وذلك على النحو التالى:

1- المجرم (آرييه بيرو) : قائد الكتيبة (890) مظلات.. كتب فى صحيفتى (جيروزاليم بوست) و(معاريف) الإسرائيليتين: كان ذبح هؤلاء واجبا مقدساً لأن المصريين- كما يقول المجرم- أبناء عاهرات..

ثم يكمل المجرم فى وقاحة وتبجح فيقول إنه قتل الأسرى المصريين الذين تمكن من الوصول إليهم فى عام (1956م) حيث قام بإعدام 49 من العمال المدنيين العاملين فى أحد المحاجر قرب ممر (متلا) كانوا يلبسون الجلابيب البيضاء.. وقد خص بالذكر قصة أحد العمال الذى تمكن من الهرب ولكنه كان مصابا بالرصاص فى صدره وقدمه فعاد بعد ساعة زاحفاً على بطنه يطلب شربة ماء فما كان من المجرم كما يقول إلا أن أطلق عليه الرصاص فقتله ليلحقه بزملائه.. ثم يكمل المجرم كلامه قائلا: لست نادماً على ما فعلت ولا أشعر بوخز الضمير بل أنا فخور بما صنعت.. وصدق الله عز وجل إذ يقول: (ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:75].

وقد اعترف المجرم أنه وجد مئات الأسرى يموتون عطشاً فكان يأمر جنوده بسكب الماء على الرمال وعندما يندفع الأسرى لالتقاط بعض قطرات الماء كان يطلق الرصاص على رءوسهم.

كما اعترف أيضاً أنه فى معركة العريش فى عام (1967م) قتل مئات الأسرى المصريين بعد أن أمرهم بشرب بول جنوده ثم أدخلهم نفقاً تم حفره تحت الأرض وأمر بإنزالهم فيه ثم هال عليهم الرمال فدفنهم وهم على قيد الحياة.

2- المجرم (شاؤول زيف): كان عمره فى عام (1967م) سبعة عشر عاماً وكان يعمل مع القائد (آريية بيرو).. يروى تفاصيل مذبحة أخرى للكتيبة ذاتها فى (رأس سدر) أسفرت عن قتل عدد كبير من العمال والمهندسين المدنيين بشركة بترول.. يقول المجرم: بعد أن تمركزت الكتيبة على جانبى الطريق الأسفلت المتجه إلى جنوب سيناء ظهرت فجأة شاحنة مصرية ممتلئة إلى أقصاها بالأفراد المدنيين.. وعندما رأونا أصابهم الذهول فقذفتها بقذيفة من مدفعى فانفجرت انفجاراً مدوياً وتناثرت أشلاء المصريين على مساحة شاسعة وأغرقت الدماء كل شيء حولها.. كان المنظر بشعاً وفظيعاً فتراجعت إلى الخلف مذعوراً.. ولكن القائد (بيرو) أمرنا بالانقضاض والإجهاز على كل من تبقى على قيد الحياة.. وبالفعل أمسك الجنود الإسرائيليون بأسلحتهم وأخذوا يطلقون النار بشكل عشوائى وهستيرى.. ولم يتحرك واحد من المصريين فقد تمزقت أجسادهم وتناثرت أشلاؤهم جميعاً.. أما سائق السيارة فقد انفصلت رأسه عن جسده مع القذيفة الأولى.

3- المجرم (أندريه وولف): مساعد القائد (رافائيل إيتان) وزير الزراعة الأسبق في حرب عام (1956م).

يؤكد (وولف) أن (إتيان) لم يكن يرحم أى ضابط أو جندى مصرى تائه فى الصحراء خلال الحرب وكان يأمر بتصفيته على الفور حتى العمال المساكين الذين أوقعهم حظهم العاثر بين يديه لم يرحم واحداً منهم.

ويروى (وولف) قصة بعض العمال المصريين ممن وجدهم الإسرائيليون تائهين فى الصحراء واكتشفوا أنهم بؤساء للغاية ولا يعرفون أى شىء عن الصراع الدائر فى سيناء وأن كل همهم كان ينصب فى أمر واحد هو الانتهاء من عملهم من أجل الحصول على بعض المرتبات الهزيلة والعودة بها إلى أسرهم وأهاليهم.. وبالرغم من ذلك أعطى القائد (إيتان) أوامره بقتلهم جميعاً ودفنهم فى الصحراء.. ويضيف (وولف) أنه لا يستطيع حتى الآن أن ينسى منظر العمال وهم يتوسلون إليه كى لا يقتلهم حتى أن واحداً منهم كان فى يده صورة لعائلته أخذ يقبلها وينظر إلى السماء وهو يبتسم فى شرود.. والغريب أن عينيه ظلتا محدقتين فى السماء حتى بعد موته.

4- المجرم (عاموس نئمان): مقدم احتياط بالجيش الإسرائيلى عام (1967م) يقول: لقد طاردنا المصريين وقتلناهم بلا أى قواعد ومن استطاع الهرب فقد أفلت بمعجزة.. إننا نكرههم جميعاً.. لقد كنت سعيداً بمذبحة (شرم الشيخ) التى قتلت فيها 169 جندياً مصرياً أسيراً.. لقد زرت منطقة (شرم الشيخ) عام (1976م) وتمكنت من التعرف على الهياكل العظمية لبعض الأسرى الذين قتلتهم بين بعض الصخور على امتداد الطريق الرئيسى.. إن وجود هذه الهياكل العظمية فى مكانها سيظل كالشعار الأحمر يذكر المصريين بما فعلناه بهم دائماً.

5- المجرم (إيهود باراك): رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق ووزير الدفاع الحالى.. يقول: إنه أمر 1200 أسير مصرى بخلع ملابسهم والنوم على رمال الصحراء عرايا تحت الشمس الحارقة ثم أمر جنوده فداسوا على رءوسهم وصدورهم بأحذيتهم ثم قتلوهم.

6- (ميخائيل بازوهو): عضو فى الكنيست عن حزب العمال.. اعترف فى حديث إذاعى لراديو إسرائيل أنه شاهد اثنين من طباخى الجيش الإسرائيلى يذبحان ثلاثة جنود مصريين فى وضح النهار بعد أن قيدوا أيديهما وأرجلهما وألقياهما فى الأرض ثم ذبحاهما من أعناقهما كما تذبح الخراف.

 

ولم يكن كل هؤلاء القتلة يفعلون ذلك إلا اتباعاً لمنهج مؤسس الحركة الصهيونية (تيودور هرتزل) بأن فلسطين وحائط المبكى لا يؤخذان بالدمع والعويل وإنما بالدماء والجماجم..

وهناك الكثير والكثير من القتلة والسفاحين الإسرائيليين الذين ارتكبوا المذابح تلو الأخرى.. والملاحظة الجديرة بالذكر أن معظم هؤلاء القتلة وعلى قدر إجرامهم ودمويتهم وهمجية تاريخهم العسكرى يصلون إلى أعلى المناصب ويتبوأون مراكز القيادة فى الدولة الإسرائيلية.

المصدر : مجلة التبيان ـ العدد السادس والأربعين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين