إعجاز القرآن

 

 

جرت سُنَّة الله تعالى في تأييده رسلَه بالمعجزات أن يؤيِّد كلَّ رسولٍ من رسله بالمعجزة التي تُناسب من أُرسل إليهم، وتكون في بيئته أبلغ دلالة على صدقه وأشد إفحاماً لمن كذَّبوا به.

فموسى عليه صلاة الله وسلامه أيَّده الله تعالى بعصاه السحريَّة؛ لأنَّه بُعث إلى فرعون وقومه في زمن كثر فيه السحرة ومهروا في سحرهم، ولهذا وصفهم الله بقوله: [سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ] {الأعراف:116} [فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ(41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ(42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ(44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ(47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)]. {الشعراء}. 

وهكذا أعجزهم الله تعالى في أظهر مَظَاهر قوتهم، وهزمهم في الميدان الذي باهوا فيه بعددهم وأسلحتهم، وقام هذا دليلاً على أنَّ موسى مؤيَّد من الله سبحانه، وصادق في دعواه أنه رسول الله.

وعيسى عليه صلاة الله وسلامه أيَّده الله بمعجزات طِبِّيَّة، لأنَّه بُعث في زمن مهر فيه الأطباء وحسبوا أنَّهم بلغوا في طبهم الغاية، فجاءهم عيسى بآيات من ربِّهم في إحياء الموتى، وفي علاج من لا علاج له من المرضى: [وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران:49} 

ومحمد صلى الله عليه وسلم أيَّده الله تعالى بمعجزة القرآن؛ لأنَّه بُعث في بيئة عربية في زمن كان العرب فيه يزعمون أنَّهم استووا على عَرْش البلاغة والفصاحة، وملكوا فنون القول، وأوتوا الحكمة وفصل الخطاب، وقد قال النعمان بن المنذر بين يدي كسرى في وصفهم (وأما حكمة ألسنتهم فإنَّ الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم، مع معرفتهم بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لغيرهم)، وكانت أسواقهم ميادين للخطباء والشعراء وضرب الأمثال.

فالله سبحانه بحكمته البالغة أيَّد محمداً بالقرآن ليفحمهم في أعزِّ مَيادينهم، ويقنعهم بما لا سبيل لهم إلى الجدال فيه، ويُقيم لهم برهاناً هم أقدر الناس على إدراكه والإذعان له.

فالقرآن الكريم هو البرهان على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعواه أنَّه رسول من الله، وهو المعجزة الخالدة التي تبقى على مَرِّ السنين دلالته، وتتجلى بالبحث وإنعام النظر وجوه إعجازه.

وأنا أبيِّن في مقالي حقيقة الإعجاز، ثم أبيِّن وجوه إعجاز القرآن، ومن الله تعالى أستمدُّ المعونة:

حقيقة الإعجاز:

الإعجاز: هو إثبات العجز وإظهاره، وإعجاز القرآن للناس أي: إثبات عجزهم عن أن يأتوا بمثله.

ولا يتحقَّق الإعجاز إلا إذا توافرت أمور ثلاثة:

الأول: أن تتحدَّى من تريد إثبات عجزه، أي: أن تطلب منه أن يَأتي بمثل ما جئت به، وتصارحه بأنَّه لا يستطيع ولن يستطيع.

والثاني: أن تتوافر عند من تتحدَّاه جميع الدواعي التي تحمله على أن يستجيبَ لدعوتك، ويبطل تحديك، ويأتي بمثل ما جئت به.

والثالث: أن تَنتفي عنه الموانع الحسيَّة والمعنويَّة التي تمنعه أن يَستجيب لك.

فإذا نظمت قصيدة في أي موضوع سياسي أو اجتماعي، وادَّعيت أنَّ هذه القصيدة لا يَستطيع شاعر من شعراء عصرك أن يَأتي بمثلها، وتحدَّيت شعراء عصرك، أي: صارحتهم بأنَّ هذه القصيدة فوق قدرتهم وأنَّهم لو عارضوها لن يَأتوا بمثلها، وهم مع شِدَّة حرصهم على إبطال دعواك، وانتفاء ما يَمنعهم من مُعارضتك لم يتقدَّموا لمعارضتك، ولم يأتوا بشعر في موضوعك – فلا ريب أنَّك أظهرتَ عجزهم، وحملتهم إن كانوا غير مُكابرين على أن يقروا بدعواك، لأنك تحديتهم وتوافرت دواعيهم لإبطال دعواك وانتفت موانعهم.

والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بهذا القرآن، وقال: إنه وحي إليَّ من الله: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ] {الأنعام:93}. 

وقال إنَّ هذا الوحي من الله تعالى إليَّ تصديق إلهي لي في دعواي أني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كنتم في ريب من أنَّه من عند الله وزعمتم أنَّه من قول البشر، فها أنتم من أقدر البشر على القول والبيان، فأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله. 

وتحدَّاهم بعبارات واخزة، وأساليب تثير الحميَّة وتستفزُّ القريحة، وأقسم أنَّهم لا يستطيعون ولن يأتوا بمثله، ولن يَفعلوا، ولن يَستجيبوا!

قال تعالى: [قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] {الإسراء:88}. 

وقال عزَّ شأنه: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ] {هود:14}. 

وقال: [وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] {البقرة:23-24}.

فالله سبحانه على لسان رسوله تحدَّى الناسَ بالقرآن بصور شتى من صور التحدي، فطالبهم أن يأتوا بمثله، أو بعشرِ سور مثله، أو بسورة من مثله، وأكَّد لهم بالقسم أنهم لن يَستطيعوا ولن يفعلوا ولو اجتمعوا إنساً وجناً وتعاونوا بكل الوسائل.

والعرب الذين تحدَّاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن توافرت لهم كل الدواعي التي تستفزُّ عزيمتهم للمعارضة، وتَستنهض هِمَمهم للإتيان بمثله لو كان مقدوراً لهم، لأنَّ محمداً عاب آلهتهم، وسفَّه عقولهم، وجاءهم بغير ما وجدوا عليهم آباءهم، فما أشدَّ حرصهم على أن يُبطلوا دعواه أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أشدَّ حرصهم على أن يَدْحضوا الحجَّة التي احتجَّ بها ويأتوا بقرآن من قول البشر!

وقد انتفت موانعهم الحسيَّة والمعنويَّة من أن يَأتوا بمثله، فالقرآن بلسانهم العربي، وألفاظُه مُكوَّنة من حروفهم الهجائيَّة التي يكوِّنون منها ألفاظهم، وأساليبُه على منهاج أساليبهم، وفيهم ملوك البلاغة والفصاحة، وفرسان السباق في الشعر والخطابة وسائر فنون القول، وفيهم أهل الحكمة والأمثال والتجارب، وبينهم الكهان والرهبان وأهل الكتاب، وقد دعاهم القرآن في تحديه أن يَستعينوا بمن شاءوا ليكملوا ما نقصهم ويتموا عِدَّتهم.

فلا ريب في أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدَّى بالقرآن بأبلغ عبارات التحدي وأشدها وخزاً للضمائر وحفزا للهِمَم، ولا ريب في أنَّ من تحدَّاهم توافر لديهم كل ما يقتضيهم أن يُنازلوا هذا المتحدِّي لهم، وأن يأتوا بمثل ما جاء به، ولا ريب في أنَّهم انتفى عنهم ما يَمْنعهم من هذه المعارضة من جميع النواحي اللفظيَّة والمعنويَّة والزمنيَّة؛ لأنَّ القرآن بلغهم وفيهم أهل العلم والكتاب، وقد أنزل مُفرَّقاً في سنين عديدة.

ولا ريب في أنَّهم مع هذا كله لم يحاولوا أن يعارضوه ولم يأتوا بمثله، ولو جاءوا بمثله لنصروا كهنتهم، وأبطلوا حجَّة من سَفَّه عقولهم، وكَفَوا أنفسَهم ويلات الحرب والقتال في عِدَّة سنين، فالتجاؤهم إلى المحاربة بدل المعارضة، وإلى التآمر على قَتْل الرسول صلى الله عليه وسلم بدل التآمر على الإتيان بمثل قرآنه – اعترافٌ منهم بالعجز عن مُعارضته، وتسليم منهم بأن هذا فوق قدرة البشر، وبرهان على أنَّه من عند الله.

وما هي وجوه إعجازِ القرآن؟ نجيبُ إن شاء الله عن هذا السؤال في عددٍ تالٍ.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد السادس، المجلد الثالث، صفر 1369 نوفمبر 1949).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين