إعداد شريحة البناء في ثورة الكرامة السورية

 

تمر الثورات عموماً منذ قيامها بمراحل تتمثل أولها بمرحلة الهدم التي تعتمد على قلب النظام المتسلط على رقاب الناس والذي يحول بينهم وبين حريتهم, وهذه الفترة تكون هي الفترة الأعنف في تاريخ الثورة, وتشهد خلالها الثورات أحداثاً دامية وعنيفة نتيجة تمسك الطغاة والديكتاتوريين بكرسي الحكم, فيما لا يستهدف الثائرون في مرحلة الهدم الحاكم نفسه فقط, بل يسعون إلى إسقاط النظام من جذوره وأركانه, ذلك يشبه اقتلاع شتلةٍ خبيثةٍ من أرضٍ خصبة في سبيل زراعة غيرها.

 

لاشك أنها مرحلة صعبة تلك التي تتعلق بإسقاط النُظم الحاكمة المتجذرة في أرض البلد, إلا أنه سرعان ما تدخل الثورة في منعطف مرحلةٍ جديدة هي مرحلة التغيير, التي تستمر لمدة قصيرة يتم فيها وضع إدارة مؤقتة لشؤون الناس, حيث لا تسعى الثورات عموماً إلى استبدال نظامٍ بأخر, ولا إدارة بإدارة أخرى, بل تسعى إلى استهداف هيكلية المجتمع بأكمله وتهرول إلى إحداث تغييرات بنيويّة هدفها الأساسي تحسين حياة المجتمع بأكمله وفك الخناق عن رقبة الفرد لينطلق نحو مبتغاه ومراده في قدرته على التعبير والحركة والعمل والبناء.

 

لتأتي بعدها المرحلة الثالثة والتي تتمثل بإعادة تشكيل "الحلم الثوري" على مراد الجماهير الثائرة, في ضوء أهداف الثورة وبطاقةٍ وقودها الرئيس دماء من غادر في مرحلة الهدم التي أدت بالنتيجة إلى تفكك النظام الفاسد, ومن ثم انهياره.

 

مرحلة البناء: تكون هي المرحلة الدقيقة في حياة الجماهير وتطلعاتهم وقد تمتد لأكثرَ من جيل, إلا أنها تمضي واضحة الخطى اتجاه ماتريده الجماهير, واستشعاراً  لأهميتها وحساسيتها, ولكي لا تضيع جهود جيل المرحلة الأولى, تأتي ضرورة إيجاد كوادرَ متخصصة لمختلف تفاصيل تلك المرحلة, والتخصص يأتي من إعدادٍ جيّدٍ لجيلٍ جديد, مشحونٍ بالإرادة, ومملوءٍ بالعلم والنشاط.

 

وبطول فترة الثورة, وصعوبة أن يكمل جيلها الأول الطريق منفرداً,معتمداً على نفسه فقط, وفي سبيل اتصال شرائح المرحلة الأولى التي تتعلق بإسقاط النظام مع شريحة التغيير ومن ثم شريحة البناء, كان لابد من إيجاد آليات علمية للربط بين هذه الفئات التي تعمل في كل مرحلة ثورية, لكي تَنهل أجيالُ البناء من خبرات جيل المرحلة الأولى, ولكي تنقل أبرز الصور المُنتجة في مرحلة العمل الأولى إلى ذاكرتها, فتولد منها أفكاراً خلّاقة لبناء مجتمعٍ حرٍ ومنفتح, على مراد الشعب الثائر, الذي قدم من روحه ووقته وماله ماقدم.

 

ومن هنا تأتي المدارس والجامعات الحرة, ومراكز التثقيف والأبحاث والدراسات, لكي تكون جسراً للاتصال بين الفئة وأختها, لكي تصنع جيلاً جديداً مملوءاً بالعلم الحقيقي, العلمُ الذي أوصل الشعب الثائر إلى ضرورة التغيير وألهمهم الإيمان بالاستمرار, واليقين بالعمل, حتى إسقاط النُظم الفاسدة -ليس العلمُ الجامد بكل تأكيد-, ولا العلم المجرد الإستاتيكي, بل العلم الممزوج بمشاعر وعواطف ومواقف ولحظات تكوين ذاكرة الشعب وإعداده نحو المرحلة القادمة, ذلك يشبه إضافة متغير جديد لنموذج إحصائي أو رياضي تكون قوته في المعادلة مستقاة من القوة الجماهيرية المؤمنة بالتغيير وليس من عدد الجماهير التي شاركت فيه.

 

فما نفع العلوم المجردة الخالية من الإحساس والتضامن مع الشعوب المظلومة!, ومانفع الهندسة إن لم تبني ما هدمه الطغاة من نسج اجتماعية وأبنية فكرية بين شرائح المجتمع الواحد, بل مانفع الطب إن لم يداوي جراح الأطفال المعذبين الذين يتّمهم الظالمون في سبيل الاحتفاظ بكرسيهم ونفوذهم, ومانفع الاقتصاد إن لم يبني بلداً حراً من مختلف القيود ويتخلص من احتكار الطغمة الحاكمة ومن حولها, والتي تسلطت على لقمة عيش الناس كما تسلط الحاكم على رقابهم, حتى صارا (الحاكم والتاجر المتسلط) جزأين لا ينفصلا في بوتقةٍ نظميةٍ واحدة, استهدفتها شريحة الهدم تفكيكاً, ولابد من إعادة تكوينها على مراد الجماهير وتحقيقاً لأحلامهم.

 

ومن هنا يأتي دور جيل المرحلة الأولى في المشاركة بإعداد الجيل الثوري المتعلم المثقف, الذي سيبني بلداً حراً كريماً, فيبدأ من قواعده وأسسه لينطلق البلد فيما بعد إلى الإثمار خيراً على كل أبناءه, وسلاماً على جواره ومحيطه الدولي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين