الأسرة الإبراهيمية ومناسك الحج

    كلما جاءت أشهر الحج انطلقت أفئدة المؤمنين يحدوها الشوق باتجاه بيت الله العتيق وكأنها تترجم دعوة خليل الله إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] وهذا الشوق والحب لهذا المكان خاص بأهل الإيمان والتوحيد ، جاء في سنن سعيد بن منصور قال: لو كان قال: أفئدةَ الناسِ؛ لازدحمتْ عليه فارسُ والرُّومُ»[1]

   فلماذا يريد الحق سبحانه وتعالى من عباده المسلمين أن يحجوا بيته الحرام، لماذا يريدنا أن نتوجه إلى تلك البقعة المباركة التي ليس فيها أي مظهر من مظاهر جمال السياحة المعتادة؛ بل هي بقعة وصفها خليل الرحمن إبراهيم بقوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] 

    لو نظرنا إلى مناسك الحج والعمرة نظرة فاحصة متأنية لوجدناها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك الأسرة الكريمة المباركة أسرة خليل الرحمن إبراهيم التي امتثلت أمر الله دون أي اعتراض ضجروضحت بكل ماعندها في سبيل إرضاء مولاها، لنجد أن المسيرة ابتدأت حينما أودع إبراهيم زوجته وولده الرضيع في ذلك الواد السحيق امتثالاً لأمر الله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون} [إبراهيم: 37] وفي الحديث:  «ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الموضع، ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون[2]

     نفد ماعندها من زاد وماء وتعالت صرخات الطفل الرضيع تتردد أصداؤه في ذلك الوادي ،فماذا عساها تفعل في مكان انقطعت فيه مقومات الحياة ،ولنكمل مع رسول الله وهو يحدثنا عن هذه العترة المباركة (وجعلت أم  إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلذلك سعى الناس بينهما")

   أجل من هنا كان السعي بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر الله ونسكاً من المناسك وركناً من الأركان التي لا تكتمل عبادة الحج إلا بها لنتعلم كيف أن الله خلّد حركة هذه السيدة لأن حركتها جاءت استجابة لسنن الله في الأخذ بالأسباب بعد أن وثقت بالله، فالأخذ بالأسباب عبادة من العبادات كما أن التوكل على الله ايضاً قربة وعبادة من العبادات.

{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيم} [البقرة: 158] 

  هل ضيعها الله التي وثقت به؟! يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمعت، فسمعت أيضا، ثم قالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا بالملك عند موضع زمزم يبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه هكذا وتقول بيدها، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تغور بقدر ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لم تغرف من الماء، كانت زمزم عينا معينا")

   فماء زمزم هو ثمرة الثقة بالله والتوكل عليه نعم إنه ماء زمزم هذا الماء الذي يحب أن يتضلع منه المؤمنون لأنه ماء مبارك ،قال مجاهد: إن شربته تريد الشفاء شفاك الله، وإن شربته تريد أن تقطع ظمأك قطعه الله، وإن شربته تريد أن يشبعك أشبعك الله، وهى هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل.

وقال وهب بن منبه: تجدها في كتاب الله. يعنى: زمزم شراب الأبرار، وطعام طعم، وشفاء من سقم، ولا تُنْزَحُ ولا تُذَمُّ، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء، وأخرجت منه داء»[3] كوفئت به هذه الأسرة المباركة بعد صبر وثقة وجهاد فهو المنحة الإلهية بعد المحنة السننية.

  انتهى الاختبار الأول وجاء الاختبار الآخر وكان أشد من الأول إنها الرؤيا التي رآها إبراهيم في منامه وقد خالط حبّ ولده اسماعيل شغاف قلبه ولكن الله يغارعلى قلوب أولياءه وأحبابه فيريدها له خالصة لقد اشتد عود اسماعيل وصار يسعى في خدمة البيت وإذ بإبراهيم يقول لولده وفلذة كبده: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102].

إنها الأسرة التي تربت على الانصياع لأوامر الله ، إنه صراع حقيقي مع الفطرة والنفس والشيطان الذي حاول أن يثنيه عن التنفيذ فما كان من إبراهيم إلا أن حصبه بالحجارة لتكون سنة رمي الجمار لنتعلم من ابراهيم كيف نسير على الطريق وأن نجاهد الشيطان الذي لايكل ولايمل في سبيل إغواء البشرية، اصطحب ولده ليذبحه ولم تكن العملية عملية تمثيل ومسرحية: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيم (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين(105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِين (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} [الصافات: 103-107] فكانت شعيرة الأضحية التي يتقرب بها المسلمون في عيد الأضحى..

 فعلاقة المسلمين بالمناسك ليست هي علاقة بالحجارة، طواف حول بيت بني بالأحجار وتقبيل لحجر والتزام لحجر ورمي لحجر وسعي بين جبيلين من الحجارة، وصلاة عند مقام ابراهيم الحجر الذي أراد من خلاله أن يبالغ في تعظيم شعائر الله، إنها المناسك التي تذكر الطائفين والساعين بتضحية هذه الأسرة المباركة وسعيها الحثيث من أجل أن تصل إلى مرضاة الله تعالى حتى استحق خليل الرحمن وسام التكريم من رب العالمين: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ضحى بكل شيْ ضحى بنفسه للنيران وضحى بماله للضيفان وضحى بزوجه للوديان وضحى بولده للقربان فاستحق مقام الخلة ليكون خليل الرحمن ،فجاء التكريم بعد البذل في الله والحب في الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [البقرة: 127] .

ثم جاء التكريم الآخر: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}. [الحج: 27] 

من أجل أن يخلد الله ذكر هذه الأسرة المباركة وأن لاينقطع أجرها مادام هناك طواف وسعي ورمي ونحر وزمزم، لذلك استحقت هذه الأسرة المباركة الثناء والسلام والتبريكات من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وذلك في كل صلاة فلقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه «أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد[4].

 



[1] ـ «سنن سعيد بن منصور - تكملة التفسير 6 - 8 ط الألوكة» (6/ 14):

[2] ـ«مصنف عبد الرزاق» (5/ 307 ط التأصيل الثانية)

[3] ـ«شرح صحيح البخارى لابن بطال» (4/ 316)

[4] ـ «صحيح البخاري - ط السلطانية» (4/ 146)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين