الإسلام أساس حياتنا، وسرُّ قوتنا، وضمان بقائنا – 4-

 

إلى متى يَبقى هذا الأخذ والرد، والجذب والشد؟ وإلى متى تظلُّ الأمَّة الإسلاميَّة المترامية الأطراف صَريعة حيرة وبلبلة لا آخر لهما؟ وإلى متى يَحتدم الجدالُ النظري أو الدموي، حول القِيَم التي تنبعث عنها، والمثل التي تَهْفو إليها؟ 

أمسموح لليهود أن يُعالنوا بدينهم في إسرائيل؟ ويتجمَّعوا من أطراف الأرض القصيَّة حول مَواريثه الموهومة؟ ومحظور مثل ذلك على المسلمين وحدَهم؟ أمسموح للنصارى أن يرسموا صُلبانهم حول ألوف الأعلام، وأن يملأوا أفواههم بنسبهم الروحي في كل قطر؟ ومحظور ذلك على المسلمين وحدَهم؟ 

أحرامٌ على بلابله الدوح ** حلالٌ للطيرِ من كلِّ جنسِ! 

ثِقُوا أيها السادة: أنَّ كل جيل ينشأ مُزعزع العقيدة، غامض الأهداف هيهات أن يفلح، فكيف يَضيق المجال أمام المواريث الثقافيَّة لئلا تأخذ امتدادها الحق، ثم ترتقب أمَّة صالحة؟ أو نهضة ناجحة؟ إنَّ كل عمل يقوم على إقصاء الإسلام، واستبعاد وحيه والتجهُّم لهديه يَستحيل أن يُكلَّل إلا بالعار. 

ومن ثَمَّ فلن تنجحَ أبداً في بلاد الإسلام ثورة تدوس عقائدَه وشرائعه، وتهمل أوامرَه ونواهيه! 

إنَّ انتشار الإلحاد في بعض البلدان لا يدهشني! وإنَّما يدهشني بقاء الإسلام إلى اليوم مع الحروب المتصلة المبيدة، الجلي منها والخفي، التي تعرض لها هذا الدين، هذه الحروب التي سخَّرت كلَّ أداة للنيل منه والتزهيد فيه، والشغب عليه.! ولكن الأمر اليوم جد لا يتحمل الهزل، وحقٌّ لا يستسيغ الباطل!. 

إنَّ معركتنا مع الصهيونيَّة والصليبيَّة يَقترب يومها ساعة بعد أخرى! وإنَّ الريح ليحمل إلى أذني دقَّ طُبولها، وهو يقترب رويداً رويداً!. 

ويحضرني في تلك المناسبة صراخ شاعر جاهلي أرسل يستحثُّ قومه للتأهب والعمل. هذا الشاعر هو لقيط بن يعمر. كان كاتباً في ديوان كسرى، فعلم أنَّه يعبئ الجيش لاجتياح قبيلته، فبعث بنصائحه إلى قومه كي يأخذوا حذرهم. 

وكان لقيط يألم لأمورٍ شاعت بينهم، ولن يستطيعوا الدفاع ما بقيت فيهم. فاسمع إليه يُعنِّفهم على تفرُّق كلمتهم، مع أنَّ عدوهم مجتمع الشمل.! واسمع إليه يَلومهم على مَعيشة الطراوة والخفض، مع أنَّ فترات الكفاح تحتاج إلى الصلابة والتقشف. 

ثم تدبَّر إنكاره عليهم الاشتغال بالزراعة وحدَها، وعدم تجويدهم للصناعات التي يَفرضها حق الحياة.! وعشق المال! وهل الأمم الناهضة تشحُّ بنفقة في سبيل نَهْضتها؟ وتربص السوء بعضهم بالبعض الآخر؟ والانصراف عن الكفايات العظيمة المتمرسة بأحوال الحرب والسلم، الزاهدة في المنافع للآل والأقربين. 

إنَّ قصيدة لقيط بن يَعمر الجاهلي تضمَّنت من الصدق في النصح والصدق في الوصف ما جعلني لا أتردَّد في إهدائها إلى قومي في ذلك العصر. ولعلها تجد أذنا واعية. 

وعلى القارئ أن يتحمَّل بعضَ الغرابة في الألفاظ، فليس هذا بالثمن الباهظ.! لقد بدأ الشاعر يناجى داره، بقصة قبيلته واسمها عمرة. ويبدو أنها احتلت ـ أقامت ـ في أرض تدعى الجرع كان يطمع كسرى في اغتصابها، قال في مطلع هذه القصيدة: 

يَا دَارَ عَمْرَةَ مِنْ مُحْتَلِّهَا الْجَرَعَا  **  هَاجَتْ لِيَ الْهَمَّ وَالْأَحْزَانَ وَالْوَجَعَا

إلى أن قال:

بَلْ أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي عَلَى عَجَلٍ  **  نَحْوَ  الْجَزِيرَةِ  مُرْتَادًا  وَمُنْتَجِعَا

أَبْلِغْ  إِيَادًا  وَخَلِّلْ  فِي  سَرَاتِهُمُ  **  إِنِّي أَرَى الرَّأْيَ إِنْ لَمْ أُعْصَ قَدْ نَصَعَا

يَا لَهْفَ نَفْسِيَ أَنْ كَانَتْ أُمُورُكُمُ  **  شَتَّى وَأُحْكِمَ أَمْرُ النَّاسِ فَاجْتَمَعَا

أَلاَ  تَخَافُونَ  قَوْمًا  لاَ  أَبَا  لَكُمُ  **  أَمْسَوْا إِلَيْكُمْ كَأَمْثَالِ الدَّبَا  سُرُعَا

أَبْنَاءُ  قَوْمٍ  تَآوَوْكُمْ  عَلَى  حَنَقٍ  **  لاَ  يَشْعُرُونَ  أَضَرَّ  اللَّهُ  أَمْ  نَفَعَا

أَحْرَارُ  فَارِسَ  أَبْنَاءُ  الْمُلُوكِ  لَهُمْ  **  مِنَ الْجُمُوعِ جُمُوعٌ تَزْدَهِي الْقَلَعَا

فَهُمْ  سِرَاعٌ  إِلَيْكُمْ  بَيْنَ  مُلْتَقِطٍ  **  شَوْكًا وَآخَرَ يَجْنِي الصَّابَ وَالسَّلَعَا

لَوْ  أَنَّ  جَمْعَهُمُ  رَامُوا  بِهَدَّتِهِ  **  شُمَّ الشَّمَارِيخِ مِنْ ثَهْلاَنَ لانْصَدَعَا

فِي كُلِّ يَوْمٍ يَسُنُّونَ الحِرَابَ لَكُمْ  **  لاَ يَهْجَعُونَ إِذَا مَا  غَافِلٌ  هَجَعَا

خُزْرٌ   عُيُونُهُمُ   كَأَنَّ   لَحْظَهُمُ  **  حَرِيقُ نَارٍ تَرَى  مِنْهُ  السَّنَا  قِطَعَا

لاَ الْحَرْثُ يَشْغَلُهُمْ بَلْ لاَ يَرَوْنَ لَهُمْ  **  مِنْ دُونِ بَيْضَتِكُمْ رِيًّا  وَلاَ شِبَعَا

وَأَنْتُمُ تَحْرُثُونَ الْأَرْضَ عَنْ عَرَضٍ  **  فِي  كُلِّ  مُعْتَمَلٍ  تَبْغُونَ  مُزْدَرَعَا

وَتُلْحِقُونَ  حِيَالَ  الشَّوْلِ   آوِنَةً  **  وَتُنْتِجُونَ  بِذَاتِ  الْقَلْعَةِ   الرُّبُعَا

وَتَلْبَسُونَ  ثِيَابَ  الْأَمْنِ   ضَاحِيَةً  **  لاَ تَفْزَعُونَ وَهَذَا اللَّيْثُ قَدْ جَمَعَا

أَنْتُمْ  فَرِيقَانِ  هَذَا  لاَ  يَقُومُ  لَهُ  **  هَصْرُ اللُّيُوثِ وَهَذَا هَالِكٌ  صَقَعَا

وَقَدْ  أَظَلَّكُمُ  مِنْ  شَطْرِ  ثَغْرِكُمُ  **  هَوْلٌ  لَهُ  ظُلَمٌ  تَغْشَاكُمُ  قِطَعَا

مَا  لِي  أَرَاكُمْ  نِيَامًا  فِي  بُلَهْنِيَةٍ  **  وَقَدْ تَرَوْنَ شِهَابَ الْحَرْبِ قَدْ سَطَعَا

فَاشْفُوا غَلِيلِي بِرَأْيٍ مِنْكُمُ حَسَنٍ  **  يُضْحِي فُؤَادِي لَهُ رَيَّانَ  قَدْ  نَقَعَا

وَلاَ تَكُونُوا كَمَنْ قَدْ بَاتَ مُكْتَنِعًا  **  إِذَا  يُقَالُ  لَهُ  افْرُجْ  غَمَّةً  كَنَعَا

قُومُوا قِيَامًا عَلَى أَمْشَاطِ أَرْجُلِكُمْ  **  ثُمَّ افْزَعُوا قَدْ يَنَالُ الْأَمْرَ مَنْ فَزِعَا

صُونُوا خُيُولَكُمُ وَاجْلُوا سُيُوفَكُمُ  **  وَجَدِّدُوا  لِلْقِسِيِّ  النَّبْلَ  وَالشِّرَعَا

وَاشْرَوْا تِلاَدَكُمُ فِي حِرْزِ أَنْفُسِكُمْ  **  وَحِرْزِ نِسْوَتِكُمْ لاَ تَهْلِكُوا  هَلَعَا

وَلاَ يَدَعْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لِنَائِبَةٍ  **  كَمَا تَرَكْتُمْ  بِأَعْلَى  بِيشَةَ  النَّخَعَا

أَذْكُوا الْعُيُونَ وَرَاءَ السَّرْحِ وَاحْتَرِسُوا  **  حَتَّى تُرَى الْخَيْلُ مِنْ تَعْدَائِهَا رُجُعَا

فَإِنْ غُلِبْتُمْ عَلَى ضِنٍّ بِدَارِكُمُ  **  فَقَدْ  لَقِيتُمْ  بِأَمْرٍ  حَازِمٍ  فَزَعَا

لاَ تُلْهِكُمْ إِبِلٌ  لَيْسَتْ  لَكُمْ  إِبِلٌ  **  إِنَّ  الْعَدُوَّ  بِعَظْمٍ  مِنْكُمُ  قَرَعَا

هَيْهَاتَ لاَ مَالَ مِنْ زَرْعٍ وَلاَ إِبِلٍ  **  يُرْجَى لِغَابِرِكُمْ إِنْ أَنْفُكُمْ  جُدِعَا

لاَ  تُثْمِرُوا  الْمَالَ  لِلْأَعْدَاءِ  إنَّهُمُ  **  إِنْ يَظْفَرُوا يَحْتَوُوكُمْ وَالتِّلاَدَ  مَعَا

وَاللَّهِ مَا انْفَكَّتِ الْأَمْوَالُ مُذْ  أَبَدٍ  **  لِأَهْلِهَا  إِنْ  أُصِيبُوا  مَرَّةً   تَبَعَا

ياَ قَوْمِ إِنَّ لَكُمْ مِنْ إِرْثِ أَوَّلِكُمْ ** عِزًّا قَدْ أَشْفَقْتُ أَنْ يُودَى فَيَنْقَطِعَا

مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْكُمْ عِزُّ أَوَّلِكُمْ  **  إِنْ ضَاعَ آخِرُهُ أَوْ  ذَلَّ واتَّضَعَا

وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ دُنْيَا وَلَا طَمَعٌ  **  لَنْ  تَنْعَشُوا  بِزِمَاعٍ  ذَلِكَ الطَّمَعَا

يَا قَوْمِ بَيْضَتُكُمْ لاَ تُفْجَعُنَّ بِهَا  **  إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهَا الْأَزْلَمَ الْجَذِعَا

يَا قَوْمِ لاَ تَأْمَنُوا إِنْ كُنْتُمُ غُيُرًا  **  عَلَى نِسَائِكُمُ كِسْرَى وَمَا  جَمَعَا

هُوَ الْجَلاَءُ الَّذِي تَبْقَى مَذَلَّتُهُ  **  إِنْ طَارَ طَائِرُكُمْ يَوْمًا وَإِنْ وَقَعَا

هُوَ الْفَنَاءُ الَّذِي يَجْتَثُّ أَصْلَكُمُ  **  فَشَمِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا  لِلْحُرُوبِ  مَعَا

وَقَلِّدُوا   أَمْرَكُمْ   لِلَّهِ   دَرُّكُمُ  **  رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

لاَ مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ  **  وَلاَ إِذَا عَضَّ مَكُرُوهٌ بِهِ خَشَعَا

لاَ يَطْعَمُ النَّومَ إِلاَّ رَيْثَ يَبْعَثُهُ  **  هَمٌّ  يَكَادُ أَذَاهُ يَحْطِمُ الضِّلَعَا

مُسَهَّدَ النَّوْمِ تَعْنِيهِ أُمُورُكُمُ  **  يَؤُمُّ  مِنْهَا  إِلَى  الْأَعْدَاءِ  مُطَّلِعَا

مَا زَالَ يَحْلُبُ دَرَّ الدَّهْرِ أَشْطُرَهُ  **  يَكُونُ  مُتَّبِعًا يَوْمًا وَمُتَّبَعَا

وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ  **  عَنْكُمْ وَلاَ وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرِّفَعَا

حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ  **  مُسْتَحْكِمَ السِّنِّ لاَ قَمْحًا وَلاَ ضِرَعَا

كَمَالِكِ بْنِ قَنَانٍ أَوْ كَصَاحِبِهِ  **  زَيْدِ الْقَنَا يَوْمَ لاَقَى الْحَارِثَيْنِ  مَعَا

إِذْ عَابَهُ عَائِبٌ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ  **  دَمِّثْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مُضْطَجَعَا

فَسَاوَرُوهُ فَأَلْفَوْهُ أَخَا عِلَلٍ  **  فِي الْحَرْبِ يَحْتَبِلُ الرِّئْبَالَ وَالسَّبُعَا

مُسْتَنْجِدًا يَتَحَدَّى النَّاسَ كُلَّهُمُ  **  لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ أَحْسَابِهِمْ قَرَعَا

هَذَا كِتَابِي إِلَيْكُمْ وَالنَّذِيرُ لَكُمْ  **  فَمَنْ رَأَى مِثْلَ ذَا رَأْيًا وَمَنْ سَمِعَا

لَقَدْ بَذَلْتُ لَكُمْ نُصْحِي بِلاَ دَخَلٍ  **  فَاسْتَيْقِظُوا إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا

هذا كتابي إليكم، والنذير لكم  **  لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا. 

 

والغريب أنَّ هذا النذير لم يلقَ واعياً ولا مجيباً! وظلَّ القوم في مَرَحٍ وطَرَبٍ وذهول!  حتى صبَّحهم كسرى ذات يوم فاجتاح بَيْضتَهم، وقتل الرجالَ وسبى النساء.! وعَلِمَ بأمر القصيدة وصاحبها: فاستدعاه وقَطَعَ لسانه.. وذهبَ الصيح مع الريح.. ولكنها بقيت عبرة لقوم يَعلمون!. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر كتاب: (الإسلام والطاقات المعطَّلة).

الحلقة السابقة هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين