الإسلام والإصلاح الاقتصادي

 

"لا يحرك النفوس ،ويثير الخواطر، ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية، تأخذ بخناق الجماهير، فتحول بينهم وبين الحصول علي ضروريات الحياة فضلا عن كمالياتها، ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف، ولا عضة أقوي من عضة الجوع والمسغبة، ولا حاجة أشد من حاجة القوت، وطالب القوت ما تعدي،.... "

كلمات قالها الإمام المجدد حسن البنا وهو يشرع في التحدث الي الأمة وحكامها حول نظرة الاسلام للإقتصاد وحلول مشاكله، تلك النظرة التي غيبت عن أبنائه عمدا حتي تظل الأمة أبد الدهر تابعة لغيرها ،محرومة من استقلالها، مجرفة من خيراتها، فراح الرجل وتلامذته يصيحون في الأمة ان الإسلام مادة وثروة أو كسب وغني كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء، وانه به حلول كل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن الحلول التي وضعها الانسان بنقصه وقصوره وهواه، ولم لا وقد جرب العالم منهج الله وسعد به قرونا حتي أتي عهد لم تجد الصدقة فيه من يأخذها، وعهد كان الخليفة فيه يناجي السحابة قائلا لها:"أمطري أني شئت فحيثما أمطرت فلسوف يأتيني خراجك¡¡¡ كان ذلك أيام ان أحسنت الأمة تعاملها مع كتاب الله وسنة رسوله، ويوم ان أقامت منهج الله كما يريد الله ، وما تسرب الضعف الي الدولة الإسلامية الا يوم ان ضعف دينها وأعرضت عن منهج ربها ، حتي نسي المسلمون ان العيب فيهم وليس في المنهج، فراحوا يستوردون مناهج وضعية لا تتسم أبدا مع عقيدتهم ولا هويتهم آملين ان تخرجهم من كبوتهم ، فجربوا الاشتراكية، والرأسمالية، فازدادوا بؤسا فوق بؤسهم وشقاءا فوق شقائهم شأنهم شأن العالم بأسره...... 

ولأن الثائرين يؤمنون بان الملك لله  "لله ما في السماوات والأرض ومن فيهن "   وان المال مال الله :"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"  ،وانهم خلفاء الله في أرضه "وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة "،  وان عمارة الارض من واجبات الاستخلاف:"هو الذي أنشأكم في الارض واستعمركم فيها "    وبعد ان رأوا ان "العالم كله حائر يضطرب ،وان كل ما فيه من النظم قد عحز عن علاجه، ولا علاج له الا الاسلام ". ..  فإنهم قد تحملوا المسئولية كاملة تجاه أمتهم وتجاه العالم وتقدموا باسم الله للإنقاذ حتي يسعد الجميع بنعم الله في ملك الله تحت راية دعوة الله التي يحملون مشعلها.. 

 

والإسلام في منهجه للاصلاح الاقتصادي عني أول ما عني بالفرد، فهو أساس الاصلاح، وهو مناط التغيير، وهو محور ذلك الكون، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل عليه كتبه، وأرسل إليه رسله، فأي لون من الإصلاح يتعدي إصلاح الإنسان هو بمثابة النقش علي الماء، ولذا بدأ الاسلام بإصلاح الفرد وتوجيهه وخلق الدافعية الذاتية عنده لتغيير حاله من الشقاء الي الرخاء، فحرص علي ان يغرس فيه تقديس قيمة العمل :"ما أكل أحد طعاما قط خير له من ان يأكل من عمل يده، وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده "رغم انه ملك، ورغم ان خزائن بلاده ملآنه، الا انه كان يحرص علي ان يأكل من عمل يده، تقديسا لقيمة العمل، وحارب البطالة، وحث بنيه علي الحرص علي العمل حتي ولو كان المتاح لا يناسب صاحبه من وجهة نظره فهذا خير له من البطالة وسؤال الناس "لئن يحتطب أحدكم حزمة علي ظهره خير له من ان يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه".....ثم يوجهه الي استكشاف امكاناته، والتعرف علي قدراته، ومغالبة ظروف حياته ليخلق لنفسه فرصة عمل ان عجز المجتمع عن توفيرها له ،وهذا نراه في قصة الشاب الذي أتي النبي صلي الله عليه وسلم يسأله، فيلاحظ النبي ان الشاب لا يعوزه قوة، وانما يعوزه الحيلة، فيشير إليه ليستكشف مقدراته وكيف يستغلها ويوجهها ليخلق لنفسه فرصة عمل، فيقول له هل تملك من شيء؟ فيأتيه الشاب بقعب وحلس هما كل ما يملك، فيبيعها له النبي صلى الله عليه وسلم بدينارين،ويأمره ان يشتري بأحدهما طعاما فينبذه الي أهله ،ويشتري بالآخر فأسا يأتي به الي النبي صلي الله عليه وسلم، فيشد فيه النبي العود بنفسه ثم يقول له :اذهب واحتطب وبع ولا أرينك الا بعد خمسة عشر يوما، وتنجح التجربة،ويرجع الشاب الي النبي ومعه بعض المال ودقيق وأدم، ثم تأتي الموعظة النظرية بعد العملية،فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا خير لك من ان تأتي المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، فان المسألة لا تصلح الا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع"

ويرشد الاسلام بنيه الي التوسط في المعيشة وعدم التبذير"ولا تجعل يدك مغلولة الي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا"..وجعل القصد في المعيشة من سمات الأنبياء وأخلاقهم التي يقتدي بها :"السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"....الاقتصاد في كل شيء حتي في الماء"لا تسرفوا بالماء ولو كنتم علي نهر جار" ...وفي الطعام:"إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذي ولا يتركها للشيطان".."وإذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتي يلعقها"

.ودعا بنيه الي المحافظة علي أصولهم وعدم بيعها أو التصرف فيها الا لضرورة :"من باع دارا أو عقارا ولم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيه"..

 

ثم فرض عليهم الزكاة كصدقة تؤخذ من أغنيائهم لترد علي فقرائهم:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " وكما قال (ص):"حصنوا أموالكم بالزكاة".....وجعل خمس الغنيمة لله ورسوله يستغلها الحاكم في كل أوجه الخير التي تعود علي الفقراء 

 

ثم حث الإسلام بنيه علي ان يستغلوا كل ما حولهم من نعم الله ليعيشوا عيشة كريمة بتصنيع احتياجاتهم منها:"والله جعل لكم من بيوتكم سكنا، وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الي حين *والله جعل لكم مما خلق ظلالا، وجعل لكم من الجبال أكنانا، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون"...بل وأمرهم بدقة التصنيع:"وألنا له الحدبد ان اعمل سابغات وقدر في السرد  واعملوا صالحا اني بما تعملون بصير" .....وكان صلي الله عليه وسلم يخصف نعله وبخيط ثوبه، وفهم العلماء الربانيون ذلك فاحترفوا بجانب علمهم حتي انتسب الكثيرون منهم الي مهنهم وحرفهم فكان الخصاص الذي يخص الجدران ويبيضها والقطعي الذي يبيع قطع الثياب والصواف والزيات والخزار والسمان وكلهم علماء ملؤوا الدنيا علما واحترفوا الصناعة والتجارة ¡¡¡ 

ثم. حث الإسلام بنيه علي وجوب الدفاع عن مقدراتهم والا يمكنوا منها ظالم :"من مات دون ماله فهو شهيد"

وهذا أحبتي غيص من فيض مما أفاض به الإسلام في هذا الشأن، وللراسخين في العلم باع كبير من الكتابة في هذا المجال، ولإخواننا من الساسة والاقتصاديين مشاريع عملاقة تستطيع ان تنتشل البلاد بل والعالم من ضيق الدنيا الي سعة الدنيا والآخرة حال المحرمون بينها وبين ان ننتفع بها لتظل يدهم علينا هي العليا لتلقي الينا الفتات من خيرات بلادنا ومقدراتنا التي اغتصبوها ونهبوها، ولعلكم الآن أدركتم لماذا يخافون هذا الدين، ولعلكم أيقنتم ان الإسلام هو الحل لكل مشاكلنا،ويقينا سيشرق فحر جديد يعز الله فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته وما ذلك علي الله بعزيز.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين