الإعراض عن هدي البشير النذير تعطيل للقرآن وهدم للدين

 

 

إنّ أخطر بدعة ضلال على الإطلاق ، التي تنذر حاملها ، والداعي إليها ، ومروّجها بخطر المروق من الدين بالكلّيّة : بدعة ادّعاء الأخذ بالقرآن الكريم وحده ، والاستغناء عن السنّة النبويّة .. لشبهات واهية ، وعلل هزيلة ، يعرف الردّ عليها أدنى طالب علم ، يؤثر الحقّ ، ولا يتّبع الهوى ، ولكنّ كثرة الناعقين بها اليوم يوجب علينا أن نردّ بالإجمال على مروّجيها ، كيلا يقع بعض أبناء المسلمين المغفّلين في شباكها .. 

 

وهذه البدعة قديمة متجدّدة ، أراد بها أعداء الدين هدم الإسلام ، ونقض أصوله ، والتشكيك بها ، فلا تكاد تخمد نار هذه البدعة مدّة حتّى تثار من جديد .. 

 

وقد عمل المستشرقون وأتباعهم على بثِّها وإشاعتها بمختلف الأسَاليب ، وتلقّفها عنهم بعض أبناء المسلمين ، بجهلهم ، أو بغلبة الهوى عليهم .. 

 

وقد حذّر منها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ الله ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلاَلاً اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ الله » . رواه الترمذيّ (10/ 173) ، والحاكم وغىره ، وقَالَ الترمذيّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ، وهو صحيح . 

 

قال الإمام الطحاويّ في شرح معاني الآثار (4/ 209) : « فَحَذَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَافِ أَمْرِهِ , كَمَا حَذَّرَ مِنْ خِلَافِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلْيَحْذَرْ أَنْ يُخَالِفَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ , مَا يَحِقُّ عَلَى مُخَالِفِ كِتَابِ اللهِ » .

هؤلاء خرجوا عن القرآن الكريم الذي يدّعون الأخذ به ، إذ إنّ القرآن يأمر بالأخذ بالسنّة النبويّة بصريح آياته البيّنات ، فيقول تعالى : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3 ــ 4] . 

وقد قرن الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته ، وعدّ التولّي عنها كفراً بدينه ، فقال تعالى : {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}[آل عمران:32] . ويقول سبحانه : {... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب}[الحشر:7] . 

 

وقال تعالى : {... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [النحل:44] . فالبيان النبويّ جزء من الوحي الإلهيّ ، والمهمّة الرساليّة ، التي بعث بها النبيّ صلى الله عليه وسلم . 

 

ويقول تعالى : {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] . 

ويقول أيضاً : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء:115] . 

 

ويقول أيضاً : {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِين}[النور:54] . 

 

ويقول أيضاً : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}[النساء:65] ، والآيات في هذا الباب كثيرة . 

 

كما خرج هؤلاء عن إجماع الأمّة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ، فإذا لم يلتزموا أمر القرآن الكريم ، ولم يؤمنوا بما آمن به الصحابة رضي الله عنهم ، فأيّ جدوى للحوار معهم .؟ وما الذي يقنعهم .؟ 

 

وأنّى لهؤلاء أن يَعملوا بأوامر القرآن ونواهيه إذا لم يأخُذوا بالسنّة النبويّة ، التي بيّنت ما في القرآن وفصّلته .؟! 

 

قال الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في الرِّسَالَةِ ، في بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : « قال تَعَالَى : {من يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله } ، وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا الله تَعَالَى في كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ ما كنا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا وَلَا كان يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ من العِبَادَاتِ ، وإذا كان الرَّسُولُ من الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ كانت طَاعَتُهُ على الحَقِيقَةِ طَاعَةً لله » . البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 237) . 

 

وقَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أيضاً : « وَفَرَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ وَسُنَنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ } ، وَذَكَرَ غَيْرَهَا مِنْ الآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مَعْنَاهَا » . 

قَالَ : « فَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الكِتَابَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَذَكَرَ الحِكْمَةَ ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ يَقُولُ : الحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قَالَ ( وَاللهُ أَعْلَمُ ) بِأَنَّ القُرْآنَ ذُكِرَ ، وَأَتْبَعَتْهُ الحِكْمَةُ ، وَذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ . فَلَمْ يَجُزْ ( وَاللهُ أَعْلَمُ ) أَنْ تُعَدَّ الحِكْمَةُ هَا هُنَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتَابِ الله ، وَأَنَّ الله افْتَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَتَّمَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِقَوْلٍ فَرْضٌ إلَّا لِكِتَابِ الله ، ثُمَّ سُنَّةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنَةً عَنْ الله مَا أَرَادَ دَلِيلًا عَلَى خَاصِّهِ وَعَامِّهِ ؛ ثُمَّ قَرَنَ الحِكْمَةَ بِكِتَابِهِ ، فَأَتْبَعَهَا إيَّاهُ ، وَلَمْ يَجْعَلْ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » . أحكام القرآن للإمام الشافعي (ص: 14) .

 

« وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَد كِتَابًا فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ ، فَطَاعَةُ الله وَرَسُولِهِ ، وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ الله وَرَسُولُهُ ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ الله وَرَسُولُهُ ، وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ الله وَرَسُولُهُ : وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ : الإِنْسِ وَالجِنِّ ، وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ : سِرًّا وَعَلَانِيَةً » . الخلاصة في أحكام الاجتهاد والتقليد فقط (2/ 102)

وقال الإمام الشاطبيّ في الموافقات (4/321) : « قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [النساء: 59] . والردّ إلى الله هو الردّ إلى الكتاب ، والردّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الردّ إلى سنّته بعد موته . و

 

وقال تعالى : {وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92] . وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله ؛ فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونهى عنه ، مما جاء به في سنّته .. » . وهذا على وجه العموم والإجمال .

 

ولا يتّسع المقام في هذه المقالة الموجزة في النقل أكثر من ذلك عن أئمّة العلماء ، فالمسألة من الوضوح بمكان ، ولا يكابر بها ذو شأن ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين