الاجتهاد في الأحكام الشرعية -1-

 

1 – متى سُدَّ باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأوجب على كل مسلم أن يقلِّد واحداً من الأئمَّة الأربعة؟

2- وما الدليل الشرعي الذي بُني عليه سدُّ باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية وإيجاب التقليد فيها؟

3 – وكيف تعرف الأحكام الشرعية بعد سدِّ باب الاجتهاد لما يحدث من المعاملات وأنواع الشركات والعقود والتصرفات التي ما كانت لها نظائر في عهود الأئمة السابقين؟

 

هذه هي الأسئلة الثلاث التي أستمدُّ من الله تعالى المعونة والتوفيق، وأبين في هذا المقال الجواب عنها:

اعلم أيها القارئ الكريم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو وحدَه في حياته مرجع المسلمين في تعريفهم الأحكام الشرعية لما يحدث لهم من الوقائع، فكانوا يستقضونه في خصوماتهم، ويَستفتونه في شؤون عِباداتهم ومُعاملاتهم، وزواجهم وطلاقهم وإرثهم، وكل ما يحدث لهم، وهو صلى الله عليه وسلم يَقْضي في خصوماتهم ويُفتي في استفتاءاتهم تارة بوحي من الله تعالى يوحى إليه، وتارة باجتهاده، والمسلمون يُنفِّذون ما يَقضي به، ويعملون بما أفتى به، فكان المسلمون كلهم تبعاً له، وعاملين بأحكامه، فإن شئت فقل: ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتهدون ومقلدون، وإنما كانوا كلهم تابعين لإمام معصوم، ولهذا اتفقت كلمة العلماء على أنَّ متابعة المعصوم الذي قوله حجَّة لا تسمى تقليداً، وعرَّفوا التقليد بأنه: العمل بقول من ليس قوله حجَّة بغير دليل.

فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه المسلمين بالنسبة للأحكام الشرعية أمران:

أحدهما: أنَّ كثيرين من عامَّة المسلمين لم يكونوا من أهل القراءة والعلم الذي يَقتدرون به على أن يرجعوا بأنفسهم إلى آيات الأحكام وسنن الأحكام ليعرفوا منها الأحكام الشرعية لما يقع لهم من الحوادث، بل كانوا لابدَّ لهم ممن يستفتونه ويسألونه.

ثانيهما: أنَّه حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقائع كثيرة ما كانت لها نظائر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما دلَّت الآيات والسنن على أحكامها، فلابد لهذه الوقائع ممن يَستنبطون أحكامها.

لهذين السببين رأى جماعةٌ من علماء الصحابة الذين لازموا الرسولَ صلى الله عليه وسلم، ودرسوا القرآن، ورووا السنن، وفقهوا روحَ التشريع الإسلامي ومبادئه، أنَّ عليهم واجباً تشريعياً هو أن يُبيِّنوا لعامَّة المسلمين ما يَسألون عنه من الأحكام الشرعية، ويهدونهم إلى ما تدلُّ عليه الآيات والسنن، ويَستنبطون الأحكام فيما لم تدلَّ على حكمه آية ولا سنة، وكان عامة المسلمين يسألون أهل الفتيا من الصحابة، ويعملون بفتاويهم فيما فيه نص وفيما لا نصَّ فيه.

وكان المسلمون في عهد الصحابة منهم خاصة يجتهدون ويفتون، ومنهم عامة يستفتون ويتابعون، وما كان المستفتي من عامتهم واجباً عليه أن يستفتي واحداً معيناً من خاصتهم، وما كان المستفتي صحابياً ملزماً أن يتبع فتواه بعينها، بل كان له أن يستفتي غيره ويَتبعه.

ومن أشهر من تصدَّوا للإفتاء والاجتهاد من الصحابة في المدينة الخلفاء الراشدون، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وفي مكة عبد الله بن عباس، وفي الكوفة علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، وفي البصرة أنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وفي الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وفي مصر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقد عدَّ ابن القيم عدداً من عُرِفوا بالإفتاء من الصحابة نيفاً وثلاثين ومائة، ما بين رجل وامرأة.

فلما انقضى عهد الصحابة بانقضاء القرن الهجري الأول بالتقريب، وبدأ عهد التابعين وتابعيهم، رأى جماعة من التابعين وتابعيهم أن يخلفوا أساتذتهم من الصحابة في القيام بالواجب التشريعي في الأمَّة، وهو التصدي للاجتهاد وإفتاء المستفتين من عامة المسلمين فخلف المفتين من الصحابة في أمصار المسلمين مُفتون من التابعين وتابعيهم ومن أشهرهم:

في المدينة سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسائر فقهاء المدينة السبعة، ثم الزهري ويحيى بن سعيد، و في مكة عكرمة ومجاهد وعطاء ثم سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد مفتي الحرم، وفي الكوفة علقمة وشريح، ثم إبراهيم النخعي، وفي البصرة الحسن البصري، وفي مصر يزيد بن حبيب.

وبهذا مَضَى القرنان الهجريان، الأول والثاني، وحلقات الاجتهاد والإفتاء متصلة، وكل طبقة من المفتين المجتهدين تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم، وبهذا الاجتهاد المتصل ساير التشريع الإسلامي تطورات المسلمين ووفى بحاجاتهم، واتسع لكل ما اتسعت له الدولة الإسلامية في عصر العباسيين من أرجاء، وأجناس، ومصالح، وحاجات، ونظم ومعاملات، وما ضاق بحاجة ولا قصَّر عن مصلحة، وما احتاجت الدولة الإسلامية إلى قوانين من غير شريعتها، ولا إلى مُشرِّعين من غير أبنائها. 

ولهذا اتفقت كلمة العلماء على أنَّ الاجتهاد بالنسبة إلى الأمَّة واجب كفائي إذا قام به بعض أفراد الأمَّة أدَّوا حاجتها ولا إثم على الأمَّة، وإن لم يقم به أحد في الأمة أثمت الأمة كلها، فهو من الواجبات الكفائيَّة في الأمَّة، كالطب، وفِرَق الإسعاف، وكل ما لا تَستغني عنه الأمَّة بوصفها أمَّة.

وأما بالنسبة للأفراد فهو واجب عيني على من كان من أهله إذا وقعت الحادثة له نفسه، أو وقعت لغيره واستفتي هو فيها، ولم يُوجد غيره يُفْتي فيها، وواجب كفائي على من كان من أهله إذا استفتي ولم يَتعيَّن هو للإفتاء، بل هو غيره من أهل الاجتهاد والإفتاء.

ولكن طرأت في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل الرابع عوامل أدَّت إلى قعود المسلمين عن القيام بهذا الواجب والتزامهم بمتابعة السالفين من المجتهدين، ذلك أنَّه لما ازدهر التشريع والاجتهاد في القرنين الثاني والثالث، وظهرت عدَّة من الأئمة المجتهدين مثل: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وداود الظاهري وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد، واشتهرت مذاهبهم بين المسلمين، التفَّ المسلمون حول هؤلاء الأئمَّة ومذاهبهم، ونبتت فكرة التشيع لمذهب المتبوع، فوجَّه العلماء من أتباع كل مذهب جهودهم لتأييد مذهب متبوعهم وتفسير أقواله وتخريج عِلَلها وتطبيقها، وتنافس العلماء في هذا، وصارت أقوال الأئمَّة المجتهدين هي مصادر التشريع، وأصبح الرجوع إلى القرآن والسنة إنَّما هو لالتماس ما يؤيِّد المذهب.

وبهذا بدأت فكرة التقليد والتقصير في واجب الاجتهاد، وساعد على هذا أنَّ الوازع الديني دبَّ فيه الضعف والانحلال، فادَّعى الاجتهاد في الأحكام الشرعيَّة من لم يستأهل له، وبعض من هم أهله غلبت عليه الأهواء فمالأوا ذوي السلطان باجتهاداتهم، واتسعت مسافة الاختلاف في الأحكام. 

لهذا كله اضطرَّ بعض العلماء إلى القول بسدِّ باب الاجتهاد المطلق، وبوجوب تقليد إمام من المجتهدين السابقين، سدَّاً للذريعة إلى الفساد والعبث بالتشريع.

ولا يُعرف بالضبط متى سُدَّ باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأوُجِبَ تقليد إمام من المجتهدين السابقين، وإنما الذي يُعرف أنَّه في القرن الرابع الهجري سادت فكرة القول بسدِّ باب الاجتهاد، وعكف المسلمون خاصَّتهم وعامَّتهم على مُتابعة المجتهدين السابقين، وشاع أنَّ آخر من عرف بالاجتهاد المطلق محمد بن جرير الطبري، وقد توفي سنة 310 للهجرة، ونُقل عن الإمام القفَّال المتوفى سنة 417هـ، وعن الغزالي المتوفى سنة 505هـ ، والرافعي المتوفى سنة 622هـ، القول بأنَّه خلا العصر من الاجتهاد المطلق والمجتهدين. 

وعبارة الغزالي: (ومن ليس له رتبة الاجتهاد وهو حكم أهل العصر، إنما يفتي فيما يسأل عنه ناقلاً عن صاحب مذهبه، فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يجزْ له أن يتركه، وليس له الفتوى بغيره، وما يُشكل عليه يلزمه أن يقول لعلَّ عند صاحب مذهبي جواباً عن هذا، فإني لستُ مُشتغلاً بالاجتهاد في أصول الشرع).

وعبارة الرافعي: (والخَلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم). 

وصرَّح صاحب الخلاصة من الحنفية بأنَّ: (القاضي إذا اجتهد وحكم باجتهاده فهو آثم، لأنَّه لا يوجد في العصر أهل للاجتهاد).

ومن هذا يتبيَّن أنَّ التاريخ الذي ابتدأ منه سدُّ باب الاجتهاد وإيجاب التقليد لا يُعرف بالضبط، وأنَّ الدليل الذي بُني عليه سدُّ باب الاجتهاد وإيجاب التقليد ليس آية في كتاب الله تعالى ولا حديثاً من سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما استندَ العلماءُ القائلون به إلى قاعدة سدِّ الذرائع إلى الفساد واتِّقاء الأضرار لمَّا تجرأ على الاجتهاد المطلق من لم يبلغ رتبته، واتخذ الاجتهاد سبيلاً للأهواء، وصار مَثَار الاختلاف والانقسام.

ولكن وجد في كل عصر من عصور المسلمين من اعترض على هذا القول، وصرَّح بأنَّ الاجتهاد المطلق واجب كفاية على الأمة الإسلامية في كل عصر، والحكم بتحريمه على من هو أهله حكمٌ لا يَستند إلى دليل شرعي، والحكم بأن كل العصور خلت ممن يبلغ رتبة الاجتهاد حَجْرٌ على فَضْل الله تعالى.

قال العزُّ بن عبد السلام -رحمه الله تعالى وهو من علماء القرن السابع الهجري-: (قد اختلفوا متى انسدَّ باب الاجتهاد على أقوال ما أنزل الله بها من سلطان، قيل: بعد مائتين من الهجرة، وقيل: بعد الشافعي، وقيل: بعد الأوزاعي وسفيان، وعند هؤلاء أنَّ الأرض قد خلت من قائم بحجَّة الله ينظر في الكتاب والسنة ويأخذ الأحكام، وأن لا يُفتي أحد بما فيهما إلا بعد عرضه على قول مُقلده، فإن وافقه حَكَم وأفتى، وإلا ردَّه، وهذه أقوال فاسدة، فإنَّه إن وقعت حادثة غير منصوص عليها أو فيها خلاف بين السلف فلابد فيها من الاجتهاد من كتاب أو سُنَّة، وما يقول سوى هذا إلا صاحب هذيان).

وقال الإمام الشوكاني، وهو من علماء القرن الحادي عشر الهجري: (إنَّ قول القائلين بخلوِّ العصر من المجتهدين مما يَقْضى بالعجب، لأنَّه إن كانوا قالوا ذلك باعتبار مُعَاصريهم فليس ذلك حجَّة على كل المسلمين في كل عصر، وإن كانوا قالوا ذلك باعتبار أنَّ الله تعالى رفع ما تفضَّل به على السابقين من كمال العقل وقوة الفهم، فهذه دعوى على الله تعالى باطلة، وإن كانوا قالوا ذلك باعتبار أنَّ السابقين تيسَّر لهم من العلم ووسائل الاجتهاد ما لم يتيسرْ لمن بعهدهم فهذه دعوى تخالف الواقع، فإنَّ العلم ووسائل الاجتهاد والبحث في القرآن والسنة ومذاهب الأئمة أصبحت أيسر للمتأخِّرين).

والحق أنَّ الموضوع له خطره، وأنَّ فتح باب الاجتهاد المطلق على مِصْراعيه أدَّى إلى فوضى تشريعية خطيرة، وإلى جُرأة أهل الأهواء على العبث بالأحكام الشرعيَّة، ومجاوزة الحدود التي حدَّها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى افتراق المسلمين واختلاف قوانينهم اختلافاً شديداً لا تنتظم معه مُعَاملات ولا عقود ولا تصرفات، وأنَّ سدَّ باب الاجتهاد المطلق لا يستند إلى آية أو حديث، وقد أدَّى إلى جمود التشريع الإسلامي ووقوفه عن مُسايرة الأزمان والتطورات، فإنَّ نصوص القرآن الكريم والسنة محدودة ومُتناهية، وقد شرعت لما وقع وما تصوروا وقوعه من الحوادث، ووقائع المسلمين غير مُتناهية، وقد حدثت في العصور المتعاقبة أنواع من الشركات والعقود والتأمينات لم يحكم فيها النصوص ولم تتناولها الأئمة بالاجتهاد، فإذا لم يوجد في كل عصر من يَرجع إلى القرآن والسنة وما فيهما من أحكام شرعية ومبادئ تشريعية، ويرجع إلى مذاهب الأئمة ليبين للمسلمين حكم الشريعة في عقود شركات التأمين، وبيع الكنتراتات، وأوراق اليانصيب، وشركات المساهمة وغيرها مما هو جارٍ في عصرنا، فكيف يلزم المسلم باتِّباع أحكام لا يجد من يُعرِّفه بها؟

والرأي السديد هو ما فيه توفيق هاتين الوجهتين، واتِّقاء لضرر فوضى الاجتهاد بفتح بابه على مِصْراعيه، ولضرر جمود التشريع ووقوفه عن مُسايرة التطوُّرات بسدِّ بابه على الإطلاق وذلك بأن يسدَّ باب الاجتهاد للأفراد، ويفتح بابه للجماعة التشريعيَّة التي تختار أفرادها من خيرة رجال العلم والدين والقانون والاقتصاد، لتختار هذه الجماعة من مذاهب المسلمين ما هو أوفق لحاجات المسلمين وأوفى بتحقيق مصالحهم، ولتستنبط أحكام الوقائع والمعاملات التي حدثت ولم تتناولها النصوص، وتطبق في استنباطها مبادئ الشرع العامَّة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).

إذا وُجدت هذه الجماعة التشريعيَّة في الأمَّة اتقت فوضى التشريع وجموده، وقامت بالواجب الكفائي فيها، وأمِنت من أن تسيطرَ عليها قوانين من غير دينها، ومن أن تلجأ حكوماتها أو أفرادها إلى تشريع أجنبي أو مُشرِّع أجنبي، وأما علاج فوضى الاجتهاد بسدِّ بابه على الإطلاق فهو علاج الداء بالداء، واتقاء الضرر بالضرر.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثامن، المجلد الرابع، ربيع 2/ 1370 يناير 1951 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين