التجديد الديني

 

 

لا يكادُ يمرُّ يوم دون أن يسجِّل الراصد للتيارات الفكريَّة في أيامنا هذه تياراً مُنحرفاً في التفكير الديني.

فقد كثرت وسائل الإعلام، واتسع مجالها، من صحف ومجلات، وإذاعة مسموعة، وأخرى مُشاهدة منظورة، وسينما ومسرح، وأندية ثقافية... إلى أنماط أخرى تتيح للناس أن يُعبِّروا عن آرائهم.

وقد يكون من الخير أن يتذاكر الناس شؤون دينهم، وأن يعبِّر كل ذي رأي عن رأيه، فإنَّ الحقيقة بنت البحث – كما يقال – وأنَّ المذاكرة تعين على العلم – كما يقال أيضاً -.

لكن الذي لا يُبشِّر بخير، أن يقول كل من أراد ما أراد دون أن يرجع إلى فقه في موضوعه، ودون أن يتعمَّق الدراسة ليمحص رأيه، وأن يقتحم الكاتب كل موضوع دون أن يكون من أهله، فإنَّ أضرار هذا التقحُّم كثيرة، وأولها يعود على الكاتب نفسه؛ لأنَّه يظهره في ثوب الجاهل المتعالم، أو الأجنبي المتطفِّل.

ولعلك أيها القارئ لاحظت أن كثيرين ممن يتكلمون في الإصلاح الديني تنقصهم الدراسة الواعية، ويتملَّكهم الغرور المتعالي، وتسيطر على أقلامهم وعقولهم (اللامُبالاة) فيهرِفُون بما لا يَعرفون، ويَعْتسفون في مجاهل ليست لهم أية خبرة بشعابها ووديانها، وقديماً قال العرب: (قتل أرضاً عالمُها، وقتلت أرضٌ جاهِلَها). [يُضرب مَثَلا في فضل ذي العلم والخبرة، فهو الذي يضبط الأمر بعلمه، أما الجاهل فيغلبه الأمر].

هل سمعت (حلاق القرية) في ساحة الحي حيث يجلس مُتعالياً مُتطاولاً وحوله أهله وعشيرته مُتحلِّقون، يحاضرُ في أدقِّ شؤون الطب، ويشخص أكثر الأمراض تعقيداً، ويصف لها من الأدوية ما كانت تصفه العجائز منذ قرون؟!

إذا كنت رأيت هذا المشهد الرائع العجيب، أو سمعت به، فاعلم أنَّه مَثَل واضح صادق لبعض أصحابنا الذين يحاضرون أو يكتبون أو يذيعون آراء يزعمون أنَّها لتجديد الدين، أو لتفسيره، أو لحلِّ مَشاكل الناس من الناحية الدينيَّة، وهم فيما يبدو لم يقرؤوا كتاباً واحداً في أصول التشريع، أو على الأقل لم يفهموا هذا الكتاب إذا كانت كبرياؤهم سمحت لهم فحاولوا أن يمروا بصفحاته مرور العُجالى المجهَدِين.

ولعل أخطر هذه الآراء تلك التي يذيعها أناس يملكون حقَّ النشر والطي فهم في الوقت الذي يعلنون فيه أنَّهم يُقدِّسُون حريَّة الرأي، ويُقدِّرون قيمة الكلمة لا تسعفهم الشجاعة النفسيَّة أن ينشروا كلمة واحدة تعاسرهم الحساب، أو تبين لهم مدى الخطأ الذي يقعون فيه، في الوقت الذي يُذيعون فيه كل كلمة مُنحرفة ما دامت تسير في الطريق الذي يَسيرون فيه، وتهدف إلى الغاية التي يقصدونها.

ولسنا نطلب من الدولة أن تضرب على أيدي هؤلاء، ولا من المسؤولين الحقيقيين عن أجهزة الإعلام أن يطهروها ممن يقولون بغير علم، ويجترئون على الحقائق بغير اكتراث، ويعتدون على مُقدَّساتنا لغير صالح أمتنا، لسنا نطلب شيئاً من ذلك، ولكنا نطلب منهم أن تكون لهم رقابة على سير هذه الأجهزة حتى يدركوا أنَّ اتجاهات خاصة تسيطر على بعضها، ولا أثر لاتجاهات أخرى تحدُّ من غلواء تلك الاتجاهات، وتُقلِّل من خطرها على عقائد الناس، وعلى أخلاقهم.

لقد كان منذ سنوات كاتب كان حواريوه يصفونه بأنَّه من أعمدة الفكر في هذا العصر، وكان يكتب (يوميَّاته) في صحيفة يومية، وكثيراً ما تناول قضايا دينيَّة وحشد لها من المنحرفين وطلاب الشهرة من يؤيد آراءه ويحطب في حباله، وكان أكثر ما يتبجَّح به حرية الرأي، ولست أذكر أنَّه سمح مرَّة واحدة لكلمة حق أن تُنشر في (يومياته) على الرغم من الكلمات الجادة الواضحة الحجَّة، البيِّنَة المحجَّة التي أرسلت له.

ذكرت كل ذلك حين رأيتني في الأيام الأخيرة أطلع كل يوم على عجيبة في مُهاجمة الدين، أو في تحريف نصوصه أو في تفسير قواعده وأصوله، على طريقة (حلاق قريتنا) العالم بالطب والجراحة، وهو لا يعرف إلا الحجامة والكي بالنار ونزع الأضراس (بكمَّاشته العتيدة).

وآخر ما قرأت من هذا مَقَالات في (التجديد الديني) لأحد الكُتَّاب المعروفين، آثر بها مجلة معينة.

وعلى الرغم من معرفتي القديمة لهذا الكاتب فقد تابعت قراءة هذه المقالات على أمل أن أجدَ فيها جديداً يَنفع أمَّتنا، وينفع المسلمين في وقتهم الحاضر، ولكن وجدتني بعد أن أتمَّ الكاتب مَقَالاته أذكر هذه القصة القصيرة: (لقي رجل صديقاً له فسأله: الحسن والحسين بنتا معاوية ابن أبي طالب، فقال له صاحبه: والله، ما أدري أي أخطائك أصلح؟)

وقد مسَّت هذه المقالات أصولاً وفروعاً في التشريع الإسلامي مَسّاً عَنيفاً.

وسأترك للمُتعمِّقين في دراسة الفقه والأصول الرد على ما أثاره من مسائل جزئية، وأراجعه في القضايا الكبرى التي أثارها، والتي أظنُّ أنها لا تخفى على من له إلمام ما بالتشريع الإسلامي، وسيتبين من هذه المراجعة أنَّ الكاتب لم يكن يَعتقد ما يقول.

1 – ابتدأ الكاتب فوضع (أصلاً) ليبني عليه كل ما أتى به بعد، ذلك الأصل هو أنَّ التشريعات الدينيَّة عناصر ثابتة خالدة لا تتأثَّر بزمان أو بمكان وعناصر أخرى غير ثابتة.

ومثَّل للأولى بالمعتقدات الدينيَّة الخاصَّة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي التي وصَّى الله بها جميع الأنبياء – كما ورد في هذه الآية التي ساقها الكاتب في هذا الموضع – [شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] {الشُّورى:13}. واعتمد – هنا – على تفسير الرازي لهذه الآية، وخلص إلى العناصر غير الثابتة ورأى أنَّها (التكاليف والأحكام) فهي – كما يقول – خاضعة للتغيير والتبديل.

وهكذا في غفلة من العقل وذهول من المنطق، وفي جُرأة على الحق حكم الكاتب على (التكاليف والأحكام) في شريعتنا الإسلامية الثابتة الخالدة بأنَّها غير ثابتة ولا خالدة.

فالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، ينالها التغيير والتبديل أصولاً وفروعاً في رأي الكاتب.

وإذا كانت الصلاة – مثلاً – تختلفُ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عن شريعة إبراهيم، ونوح، فينبغي – كما يزعم الكاتب – أن تختلف في القرن العشرين عنها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وهكذا يقال في كل التكاليف.

ولا أعتقد أنَّ هذا جهل من الكاتب فهذا لا يكاد يجهل الحق فيه مسلم ولا غير مسلم، فبقي أن يرجع القارئ إلى حدسه وتخمينه ليعرف ما الذي حمل كاتباً له صيته أن يُثبت مثل هذا الكلام.

ونمضي مع الكاتب فنراه يصرُّ على هذا الذي ارتآه، ولكنه بدأ يَتراجع شيئاً فشيئاً، فيرى أنَّ نصوص الشرائع السماويَّة نصوص مُقدَّسة ولا يمكن أن تكون محلَّ تغيير، ولكنه في الوقت نفسه يرى أنَّ آيات الأحكام أو بعضها يمكن أن تتأثَّر بفعل الزمن، هكذا (آيات) فهو لم يقل: الأحكام التي استنبطها الفقهاء من بعض الآيات، وإنما قال (الآيات) كأنه يرى أنَّ بعض النصوص المقدَّسة يمكن أن يتأثر بفعل الزمن.

ويضرب في عمياء مُظْلمة، في خَبْط وخَلْط، راجعاً مرَّة إلى ابن خلدون وأخرى إلى ابن قيم الجوزية، وثالث إلى بعض الآيات ليصل أخيراً في إعياء وإجهاد إلى أحد الفقهاء الذي يرى أنَّ مُخالفة الأحكام المأخوذة من النصوص الدينيَّة تجوِّز الضرورة، وذلك إذا زالت علَّة الحكم الشرعي؟ أو تغيَّر العرف والعادة، ويعلن هنا عن قاعدة ذهبية رآها في بعض الكتب دون أن يتعمَّق في دراستها وينسبها إلى (الفقهاء المسلمين) هكذا بصيغة التعميم، وهي: (إنَّ الحكم الشرعي المبنيَّ على علَّة يَدور مع عِلَّته وجوداً وعَدَماً).

وأنا أترك شرح هذه القاعدة، وبيان ما فيها لمن يناقشونه من فقهائنا أو أحيله على أي كتاب من كتب أصول الفقه ليتفهَّم هذه القاعدة جيداً.

ويذكر هنا – مثلاً – وهو – كما يقول – تعطيل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض النصوص القرآنيَّة الخاصَّة بالمؤلَّفة قلوبهم، وأحيله على أحد الشيوخ ليشرح له صنيع عمر؛ فإنَّ مثل هذا الكاتب لا يحتاج فقط إلى كتاب يقرأ فيه، وإنما يحتاج إلى مُعلم يُرشده.

ومن هذا القبيل ما نسب إلى الإمام أبي يوسف في جرأة غريبة وتعميم عجيب من جواز ترك النص واتباع العادة!.

2 – وينسب إلى الفقهاء أنَّهم يقولون: إنَّ الإجماع إنما يكون حين لا يوجد نص من كتاب، أو سنة صحيحة، ومعنى ذلك – عنده – أنَّ الحكم الشرعي الذي يجيء عن طريق الإجماع يكون حكماً شرعياً مُستحدثاً.

وهذه غلطة سببها أنَّ الكاتب لم يحاول أن يطلع حتى ولا على (تعريف) الإجماع.. 

ويستطرد الكاتب فيبني على أصله هذا أنَّ طبيعة الإجماع هي بعينها طبيعة التشريعات الدينية، أي: أنَّها وضع القوانين والقواعد المنظِّمة للعلاقات بين الناس، وإن كانت القوانين المدنيَّة – فيما يرى – أدق، وأكمل تنظيماً.

وما دام سبيل الإجماع، والتشريعات المدنيَّة واحداً فلماذا لا نعتبر التشريعات المدنيَّة الحديثة الخاصة بالمعاملات، والصادرة عن الهيئات التشريعيَّة الحديثة من قبيل الإجماع؟! إنه يعتبرها كذلك، ولا عبرة في هذا الموقف بمخالفتها لإجماع سابق، ولو كان هذا الإجماع إجماعاً للصحابة رضي الله عنهم كما قال.

ونقول له:

أولاً: اعلم – وفَّقك الله – أنَّ الإجماع لا بدَّ أن يَعتمد على نصٍّ، من كتاب أو سنَّة (فإذا لم يكن في نازلة كتاب ولا سنة، وأتى فيها السلف بفتوى، ولم يعلم عن أحدٍ منهم خلاف في تلك الفتوى، فإنَّ جمهور الفقهاء يرى ذلك حجَّة في الدين وذلك أنَّ اجتماعهم لا يكون عن رأي، إذ الرأي إذا كان تفرق فيه.

وذلك – في الحقيقة – راجع إلى العمل بالسنَّة، واعتبار ما كان من عدم الخلاف دليلاً على وجود سنَّة رجعت إليها تلك الفتوى، وهذا قليل الوجود جداً، فيما اجتهد فيه العلماء) ( ).

وأظن أنَّ هذا الكلام واضح لا يحتاج إلى شرح، فالإجماع ليس عن رأي محض، وإنما هو مُستمدٌّ من النصوص.

والاتفاق على فتوى دون أن يُعلم مصدرها من الكتاب والسنة قليل جداً.

ولعل من هذا القبيل تقسيم الكاتب الأحكام الشرعية إلى ما كان عن آية قرآنية، أو سنة مُتواترة، وما كان عن رأي الفقهاء، كأنَّ الفقهاء يقولون من عند أنفسهم دون أن يكون لآرائهم مُستند من كتاب أو سنة!، إذ من المعلوم أنَّ المتواتر من الأحاديث قليل، وأنَّ الأحكام الشرعية المأخوذة عن الأحاديث غير المتواترة كثيرة، وكأنَّ الكاتب يُريد ألا يثق في هذه الأحكام، وهو – في هذا – يجهل لُباب علم الأصول.

ونقول له ثانياً: إنَّ الإجماع في كل مَسألة لا يعتبر إلا إذا كان من (المتخصصين) في هذا العلم، وليست أحكام الدين بأقلَّ حرمة من قضايا الهندسة والطب والجغرافيا، فإذا كنا لا نقبل من أعلام الهندسة أن يُفتونا في أدقِّ الشؤون الطبيَّة ولا في أوضحها فكيف نقبل من رجال لم يتخصَّصوا في الدراسات الدينيَّة أن يفتونا في شؤون ديننا، وأن نعتبر إجماعهم مُلزماً لنا، بل ناسخاً لإجماع الصحابة.

كيف نقبل من لجنة فيها كوهين ومرقص والمستشرق فلان من أعداء الإسلام أن يكون حكمهم مُلزماً لنا في شريعتنا بل مُعطِّلاً للحكم الذي أجمع عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إنني مرَّة أخرى أجهل الغايةَ الحقيقيَّة التي يجري الكاتب خلفها ليدركها بمثل هذا الهراء.

3 – وقريب من الإجماع اجتهاد المجتهدين، والكاتب يرى فيه ما رآه في الإجماع أنَّه يرى أنَّ الاجتهاد مُنفصل عن الكتاب والسنة، ويجعل هذا الاجتهاد قسيماً لهما، فمصادر التشريع عنده ثلاثة: الكتاب، والسنة، والاجتهاد – ونسي هنا الإجماع – ثم إنَّ أقوال المجتهدين غير مُلزمة لنا؛ لأنَّ لنا من الحق مثل ما لهم.

ولو أنَّ الكاتب مالَ على طالب أزهري صغير، وسأله أن يُعرِّف له الاجتهاد لقال له: إنَّه استفادة المكلف الحكم من كلام الوحي هكذا (كلام الوحي) ولو ظفر بطالب آخر لعرَّف له الاجتهاد تعريفاً آخر فقال له: هو بذل أقصى الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط من الأدلَّة الشرعية.

وربما أسعده الحظّ فلقي عالماً أزهرياً يقول له: إنَّ الاجتهاد هو الفقه: وأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العمليَّة المكتسبة من أدلتها التفصيليَّة، وإذن فليست أقوال الوحي هي الأحكام وإنما هي (أدلَّة الأحكام) والعالم إذا وجَّه همَّه، وبذل جُهده، واستخرج حُكماً من هذه الأدلَّة سُمِّي (مجتهداً).

فالاجتهاد – أيُّها السيد الجليل – ليس مُنفصلاً عن الكتاب والسنة، وإنَّما هو مُعتمد عليهما، آخذ منهما.

ويخبط الكاتبُ – كعادته – في مَوضوع الاجتهاد، فيرى أنَّ شُروطه مُعْجِزة وأنَّه الآن أيسر منه فيما مضى للتقدُّم العلمي والرقي الفكري الذَيْن يساعدان على المضي في الاجتهاد دون خشية من الانحراف أو الخطأ ولتعدد الدراسات الذي يجعل ثقافة من يريد أن يجتهد أدق وأعمق من ثقافات السابقين.

ولا غرو، فما دام يريد أن يقول في الدين كل (من هبَّ) وكل ( من دبَّ) فشروط الاجتهاد مُعجزة، وما دام يرى أنَّ من حقِّ الفلاح في الحقل والصانع في المصنع، والصحفي في مَكتبه، ما دام يرى أنَّ من حق كل هؤلاء أن يجتهدوا فلا بأس؛ لأنَّهم أعمق ثقافة من السابقين، ولا علينا أن يجتهد في الدين من لا يحفظ آيةً من كتاب الله، ولا من لا يعرف معنى السنة، ولا من لم يدرس شيئاً في سيرة الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، لا عَلينا من ذلك ما دام قد قرأ (كارل ماركس) وتعاليم (لينين) ووجودية (سارتر) أليس هؤلاء أدق وأعمق ثقافة من السابقين؟!.

4 – ويبدو أنَّ الكاتب (عجن ما عجن) ليصل إلى الرأي في المعاملات الحديثة فهو يُطالعنا – أولاً – بأنَّ السنة العمليَّة كانت تدور أكثر ما تدور حول العبادات، أما المُعاملات فكانت عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

لقد ذكَّرني هذا الكلام بموقف أبي حنيفة رضي الله عنه من ذلك الرجل الذي احترمه ثم تبيَّن له. قالوا: إنَّ أبا حنيفة كان يدرس في المسجد، وبينما هو جالس دخل رجلٌ له هيئة وشارة حسنة، وكان أبو حنيفة مَادّاً رجله لعلَّ ذلك من وجع، فلما رأى الرجل ضمَّها، ثم قال أبو حنيفة: إذا أدبرَ النهار من هنا وأقبل الليل من هنا أفطر الصائم، فقال الرجل: يا هذا، إذا أدبرَ النهار من هنا، وأقبل الليل من هنا ولا تزالُ الشمسُ طالعةً، فماذا نصنع؟!، فقال الإمام: إذن أبو حنيفة يمدُّ رِجْله.

هل يصدق أحدٌ لو لم يكن إمضاء الكاتب مُذيَّلاً لمقاله أنَّ مثله يقول هذا الكلام!.

المعاملات، ليست في كتاب، ولا سنَّة، المعاملات فصَّل فيها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، ومن عجب أنَّ الكاتب ذكر أنَّ كلام النبي هذا جاء في حادثة أبر النخل. [أي: تلقيح النخل وإصلاحه].

فأولاً: من المعاملات البيوع، والرَّهْنُ والحَجْر، والشُّفعة والوكالة، والحوالة والكفالة، وكثير غير هذه، ولو قرأ الكاتب كتاباً صغيراً في الفقه الإسلامي لوجد في أول كل باب من هذه الأبواب: دليل مشروعيَّته الكتاب والسنة.

وثانياً: من قال، ومن يعقل أنَّ (أبر النخل) من المعاملات؟!

إنَّ الكاتب في سبيل هدفه يغفل عن أوضح الأمور، وأبينها، وهذا ليس شأن من يدعو إلى (التجديد الديني) إلا إذا كان الدين عندنا أهون من كلمة تكتب في صحيفة.

ومن هذا الخَبْط – أيضاً – قول الكاتب: إنَّ الرجوع إلى السنة النظريَّة وبخاصَّة في باب المعاملات كان قليلاً، يوم أن كانت تجمع وتدون، كأنَّ الفقهاء لم يكونوا يَرجعون إلى هذه السنة إلا حين يجدونها في كتاب.

ومرَّة أخرى أقول للكاتب: ارجع إلى كتاب من كتب الفقه لتعرف أنَّ السنة كانت مصدراً مهماً لكل التشريعات ومنها المعاملات.

ويخطو الكاتب خطوة أخرى في شأن المعاملات فيرى: أنَّ ما وافق مَصلحتنا قلنا به، وما لم يوافق أعرضنا عنه.

فالأساس في ميدان المعاملات – كما يقول – هو رعاية حاجات الناس، والمصلحة العامة.

وهذا كلام سبقه به أحد الكُتَّاب، ورددنا عليه في حينه، ونريد أن نوجز له القول هنا، فنقول: إنَّ معنى هذا أنَّ المصلحة هي التي توجه النصوص وتُفسِّر الآيات، وليس الشرع هو الذي يُنظِّم هذه المصلحة، ويبين ما هو مصلحة في الحقيقة، وما ليس مصلحة، أنَّنا حين نخضع التشريع للمصلحة، نختلف اختلافاً كبيراً؛ لأنَّ بعض ما يراه الرأسماليون مصلحة، لا يراه الشيوعيون... وهكذا.

ثم يخطو الخطوة الأخيرة – ولعلها الهدف الأصيل – فيرى أنَّ جميع مَشْروعاتنا المستحدثة لا تحتاج إلى فَتْوى من رجال الدين إذ من المسَلَّم به أن الكتاب والسنة لم يتعرَّضا لها؛ لأنها لم تكن موجودة.

ما شاء الله، هل يعتقد الكاتب هذا الكلام حقاً؟ ألا يعرف الكاتب أنَّ كثيراً من مَشروعاتنا كان في كل زمان ومكان؟ ألا يعرف الكاتب أنَّ في التشريع الإسلامي قواعد كلية، يرجع إليها للحكم في المسائل الجزئية؟!.

إنَّ الكاتبَ نفسه يَعْمَى فيذكر أنَّ من القواعد أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، وما دامت مُعاملاتنا الحديثة لم تكن مَوجودة فلم يرد فيها نص بالتحريم فهي مُباحة.

أليس ذلك رجوع إلى قاعدة من قواعد التشريع؟ يؤكدها من ينكر أن يكون للتشريع الإسلامي رأي في هذه المستحدثات، وليس بين الإثبات والإنكار فاصل يجعله ينسى على أنَّ القياس أصل من أصول الأحكام، ومعناه أن تقاس الجزئية المستحدثة على جزئية قديمة تُشبهها.

5 – ويلح الكاتب في رأي أبي يوسف فيما يتعلق بحكم العادة، فينسب إليه مرة أخرى القول بأنَّ الحكم الشرعي المبني على العادة يعطل إذا تغيرت العادة ولا ضير في مخالفة النصوص.

وأنا لا أناقش الكاتب في مدى صحة نسبة هذا القول إلى الإمام أبي يوسف مع ترجيحي أنَّه لا يكاد يصدق أنَّ عالماً من علماء المسلمين يعطل الشريعة لحكم العادة، ولكني أناقشه في المثال الذي أراد أن يطبق الحكم فيه بناءً على هذا القول: قال الكاتب: إنَّه ليس من حقنا اليوم أن نقتل الجندي المقاتل، أو نسترقه، وليس من حقنا أن نسبي النساء والأطفال ونسترقهم، وليس للجندي نصيب في الغنائم، وليذهب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً فله سَلَبُه) أدراج الرياح!.

لماذا؟ لأنَّ قوانين الحرب قد تغيَّرت كما تغيرت العادات، وكل ذلك قد عَطَّل نصوص الشرع الشريف الخاصَّة بالغنائم، ولا ضير في ذلك ولا ضرر.

وهذا – أولاً – اجتهاد من الكاتب، وهو ليس أهلاً لهذا الاجتهاد؛ لأنَّه فيما أعرف، وفيما يبدو من مقالاته لم يدرس أية دراسة جادَّة كتب التشريع الإسلامي.

وثانياً: أنَّ الحكم على شرعنا بالقوانين الدولية رفع لهذه القوانين فوق نصوص الشرع، ولا يرضى بذلك مسلم!.

وثالثاً: على الكاتب أن يقرأ (باب الجهاد والسِّيَر) في كُتُب الفقه ليعرف أنَّه لا ضير في أن نسترقَّ الجندي المقاتل لنا إذ توفرت الشروط التي كان يُسترقُّ بها الجندي في حروب الإسلام، وأن أخذ القاتل سَلَب القتيل لا يمنعه مانع، ولا يعترض على هذا بأنا لا نستطيع اليوم أن نتبيَّنَ من قتل القتيل فهذه ليست صورة مُستحدثة، وإنما كانت في العهود الإسلامية الأولى، وكان لها حكمها الإسلامي.

ورابعاً: من قال إن بلاد الإسلام تطبق فيها هذه الأحكام حتى ترضى أو لا ترضى.

إنَّ الكاتب يستخدم الأساليب الخطابيَّة في أدقِّ الشؤون الدينيَّة، إنَّه يريد أن يُعطِّل نصوصَ الشرع الشريف كما يقول لأننا لا نسمح بتطبيق هذه النصوص علينا.

أبهذه السهولة – يا صاحبَ الفن القصصي - تقضي على آيات بَيِّنات محكمات في كتابنا المقدس؟! أهذا هو التجديد الديني؟!

لقد هزلت حتى بدا من هزالها = كُلاها، وحتى سَامها كلُّ مُفْلسِ

6 – وأخيراً: وقد قلت إني لا أريد أن أُراجع الكاتب في شيء من التفاصيل أحبُّ أن أقف معه وقفة قصيرة في دعوته التي ختم بها مقالاته.

لقد توجه إلى رجال الدين، وإلى علماء الأزهر الشريف أن يطبقوا أحكام الشرع الشريف فيعلنوا تنازلهم عن أراضيهم التي تحت أيديهم؛ لأنَّ مصر فُتحت عنوة، والأرض المفتوحة عنوة ملك للدولة، كما تفيد نصوص الشرع فيما يرى الكاتب.

ولست أريد أن أبين تفاهة هذا الكلام، وما يحمل من سوء قصد وإنما أريد أن أوجه نظره إلى أمور:

الأول: أنَّه في كل ما سبق من مقالاته يرى أنَّ المعتبر هو نص القرآن والحديث المتواتر، وما عدا ذلك فأقوال فقهاء، لنا أن نأخذ بها ولنا أن نلغيها.

فأين وجد في القرآن أو في الحديث المتواتر أنَّ الأرض التي فتحت عنوة ملك للدولة؟!

الثاني: هل يعرف الكاتب الرقعة التي كانت مزروعة في مصر أيام فتح العرب لها؟

الثالث: أنَّ أرض مصر مملوكة لأهلها فللإمام إذا فتح بلداً عنوة أن يقرَّ أهلها عليها، وقد أقرَّ عمر رضي الله عنه أهل مصر على ما يملكون فثبت لهم التصرف فيها بكل أنواعه.

إنَّ بعض العارفين يقدِّر هذه الرقعة بعُشر المساحة المزروعة الآن، أما التسعة الأعشار الباقية فهي مما أصلحها الناس أو أصلحتها الدولة وباعتها للناس، والنص الشرعي يقول: (من أحيا مواتاً فهو له).

أليس قول الكاتب هذا مما يؤكد لنا أنَّ من الضروري لمن يكتب في مسألة أن يحيط بجميع ما قيل فيها؟ وإلا كان قوله رداً عليه، ودليلاً على أنَّه يقول فيما لا يعرف.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

 

المصدر: من كتاب: (تيارات مُنحرفة في التفكير الديني، ص 28). 

يُنظر أيضا: مجلة الأزهر العدد 36 جمادى الثاني 1384 الجزء 4. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين