التدرج في التعليم

 

من المبادئ التي حرص عليه الإسلام في جميع المجالات- ومجالات التربية خاصَّة-، وجاءت بها السنَّة القوليَّة والعمليَّة: التَّدرُّج في التعليم.

 

وهذا واضح في جانب التكليف والتشريع. فقد كان التكليف في العهد المكي مقصوراً على أحكام العقيدة ومكارم الأخلاق، ثم فُرضت الصلاة قبيل الهجرة، وفرضت في أول الأمر ركعتين ثم أُقرَّت في السفر وزِيدَت في الحضر.

 

وفي المدينة فُرضت بقية الفرائض، كما حرمت الخمر والربا وغيرهما، كل ذلك بمنهج تدريجيٍّ حكيم يسهِّل على المكلَّفين امتثال الأمر واجتناب النهي في غير حرَج ولا إعنات.

 

وهكذا كان الرسول الكريم يعلم أصحابه: أن يأخُذوا بسنَّة "التدرُّج" التي هي سنَّة الله في الحياة والوجود كله.

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لمَّا بعث معاذا إلى اليمن قال:" إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادْعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإنْ هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ أطاعوك لذلك، فأعلمهم أنَّ الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم" ([1]).

 

 فقوله:" تأتي قومًا من أهل الكتاب" كالتوطئة للوصية، لتستجمع همّته عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة. فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبته الجُهَّال من عَبَدَة الأوثان[2].

 

ثم أمره أن يبدأ دعوته بأمر العقيدة، فيدعوهم إلى الشهادتين، لأنهما باب الدخول في الإسلام، وأصل الدين كله، ولا تقبل عبادة ولا عمل بغير الإقرار بهما والإذعان لهما.

 

فإنْ هم أطاعوا لذلك ورضوا بالله ربًا، وبمحمَّد رسولا، أعلمهم بالفريضة اليوميَّة والعبادة العمليَّة الأولى، التي هي الرباط الدائم بين الإنسان وربه، والفيصل الفارق بين المسلم والكافر، وهي الصلاة عمود الإسلام.

 

فإن هم عرفوا ذلك واستجابوا له، أعلمهم بالفريضة العملية الثانية - وهي شقيقة الصلاة في القرآن والسنة، والرباط الاجتماعي والاقتصادي بين المسلمين بعضهم وبعض- وهي الزكاة، قنطرة الإسلام.

 

وهكذا ينبغي أن تكون الدعوة ويكون التعليم.

 

والتدرج ذو شقَّين: شقٌّ يتعلق بالكمّ، وشقٌّ يتعلق بالكيف.

 

???و? ??ني : أنْ ?ُ?طي ا?????م ?ن ا???م ا???دارَ ا????مَ ?? ، و? ???ر ???ـ? ا??ـ??ذ، و?ُ??ِّ?ـ? ?ـ?? ?ط?ق ، ???وء ??، و???ِّ?? كلُّه، ??و ?ر?د أن ??ط?َ? ا????ر دفعة واحدة، فيضيع بذلك الكثير والقليل. والعلم متين كالدين[3]، فيجب أن يوغَل فيه برفق، فإنَّ المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرا أبقى.

 

وفي هذا أوصى الزهري تلميذه يونس بن زيد، فقال:" يَا يُونُسَ لا تُكَابِرْ العِلْمَ؛ فإِنَّ العلم أوْدِيَةٌ، فأَيُّهَا أَخَذْتَ فِيهِ قطَعَ بك قَبلَ أنْ تَبْلُغَهُ، ولَكِنْ خُذْهُ مَعَ الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإنَّ من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة! ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي "([4]).

 

والشيء الثاني في التدرُّج: هو ما يتعلق بالكيف والنوع. على أن يبدأ الأستاذ مع طلابه بالجَليِّ من العلم قبل الخَفيّ، والبسيط قبل المركّب، وبالخفيف قبل الثقيل، والجُزئيّ قبل الكلي، وبالعملي قبل النظريّ.

 

ومن الحكم المأثورة: الرَّبَّاني: الذي يُربِّي الناس بصغار العلم قبل كباره[5]. والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دقَّ منها. وقيل: يعلمهم جزئيَّاته قبل كليَّاته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدِّماته قبل مقاصده([6]). 

 

والمهم ألا يبدأ المعلم تلاميذَه بدقائق العلم، وعويص مسائله، فيغرقهم في بحر عميق لا يستطيعون النجاة منه. بل يبدؤهم بالأسهل والأيسر، لأنَّ الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبِّبَ إلى من يدخلُ فيه، وتلقّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً الازدياد منه، بخلاف ضدّه([7]).

 

وقد كان كثير من كبار العلماء يؤلفون كتبهم مُتدرِّجة وَفْق مراتب الترقِّي في الطلب. فالغزالي- مثلا- يؤلف في فقه الشافعية: الوجيز، ثم الوسيط، ثم المبسوط. وابنُ قدامة يؤلف في فقه الحنابلة على الترتيب التَّصاعدي: العمدة، ثم المقنع، ثم الكافي، ثم المغني.

 

وهكذا كانوا يكتبون لكلِّ مرحلة في الطلب ما يليق بها، فالمبتدئ غير المتوسط غير المنتهي.

 

وكذلك ينبغي أن تُراعى مراحل العمر. فيُعطي للصبي غير ما يُعطى للمراهق، غير ما يُعطى للناضج.

 

وهذا ما يحرص عليه رجال التربية اليوم في وضع المناهج، وفي تأليف الكتب.

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

 

 

([1]) رواه الجماعة: رواه البخاري في المظالم (2448)، ومسلم في الإيمان (19)، كما رواه أحمد (2071)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783)، أربعتهم في الزكاة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] - فتح الباري لابن حجر (3/358).

[3] - إشارة إلى حديث: " إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق " رواه عبد الله بن أحمد وجادة (13052) وقال مخرجوه: حسن بشواهده ، والضياء في المختارة (2115) وحسن إسناده، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (216): رجاله موثقون، إلا أن خلف بن مهران لم يدرك أنس بن مالك رضي الله عنه. 

([4]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم، (652).

[5] ) - البخاري (1/24).

([6]) فتح الباري لابن حجر (1/162).

([7]) المصدر السابق (1/163).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين