التفسير العصري للقرآن

 

 

جلالُ القرآن وقدسيَّتُه، ومنزلته المنفردة في البلاغة والفصاحة، كل ذلك يَقتضي ممن تحدِّثُه نفسه بتفسير آياته أن يأخذَ لهذا الأمرِ أُهبته، وأن يعدَّ له عُدَّته وذلك يتطلب منه أموراً كثيرة لعلَّ من أهمها:

1 – علماً واسعاً بلغة العرب، وإحاطة شاملة بمختلف اللهجات العربية، وفقهاً واعياً لمفردات اللغة وتراكيبها.

ولذلك كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يتحرَّجون غاية التحرج من القول في التفسير، فقد روي أنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه سئل عن معنى كلمة (الأبِّ) في قوله تعالى: [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا] {عبس:31} فأمسك عن الجواب مخافةَ أن يكون لهذا اللفظ معنى لا يعرفه أبو بكر، وقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي.

ونقل أنس رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ هذه الآية يريد الآية السابقة ثم قال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده، وقال: هذا لعمر الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأب؟!  ثم قال: (اتبعوا ما بيَّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه).

وكان عبد الملك بن قريب المشهور بالأصمعي – وهو من كبار رواة اللغة – يأبى أن يفسِّرَ كلمة وردت في القرآن ويقول إذا سئل عن كلمة قرآنيَّة: هذه في القرآن.

وكل هذا احتياط وحذر منهم، وإن لم يمنع ذلك من القول في التفسير على أوسع نطاق، غير أنَّ هذا التحفُّظ من بعض الصحابة وكبار العلماء كان دائماً أمام أعين المفسرين، فكان الفذ منهم لا يشرع في تفسير القرآن حتى يشعر من نفسه القدرة عليه ومع ذلك يتوقَّى بكل جهده عَثَرات الرأي ومزلَّة القدم.

ولقد كنت قرأتُ منذ زمن طويل أنَّ (ابن الأنباري) رحمه الله تعالى كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد على ألفاظ القرآن، وهذا كان دأبُهم جزاهم الله عن كتابه خير الجزاء، فقد كان العالم منهم لا يكاد يُفسِّر معنى الكلمة حتى يتبع تفسيره بشاهد من كلام العرب، وأنَّ هذا المعنى لهذه الكلمة كان معروفاً عندهم.

وبسبيل من ذلك أن يكون من يتصدَّى للتفسير ذا خبرة واسعة، ودراية تامَّة بالأساليب البيانيَّة التي تَزخر بها اللغة العربية، فإنَّ ذلك يجنِّبُه الخبط على غير هدى ويأخذ بيده في طريق مأمون العَثَرات، ومن هنا قال الإمام عبد القادر الجرجاني إمام البلاغيين يَعيب على بعض المفسرين الذين عاصروه أو سبقوا عصره:

 (ومن عادة قوم ممن يَتعاطى التفسير بغير علم أن توهَّموا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنَّها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف.

وناهيك إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل؟

وهناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله العصمة والتوفيق ( ).

2 – حفظ القرآن الكريم، والإحاطة بطرقه في البيان ودراسة السنة النبوية ومعرفة ما تضمنته من بيان للقرآن وللأحكام الشرعية.

ذلك أنَّ القرآن الكريم يُفسِّر بعضُه بعضاً، ومن الخطأ أن يشرح مُفَسِّرٌ آيةً في معنى دون أن يكون على معرفة تامَّة بكل الآيات التي تضمَّنت هذا المعنى، أو أشارت إليه، والسنة النبوية بيَّنت كثيراً من آيات القرآن، وهذا مصداق قوله تعالى: [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44}.

3 – القدرة على حسن اختيار الآراء، والمعرفة بمصادر الأدلة حتى يكون ترجيح رأي على رأي سليماً ومقبولاً.

ولا حجرَ على أحدٍ أن يختار ما شاء، ما دامَ الدليل يدعمه، لكن الشيء الذي يبدو عجيباً أن يعمد باحث إلى اختيار الرأي الضعيف في كل مَسألة يعرض لها مُتجاهلاً ما وجَّهه العلماء السابقون له من نقد وتفنيد، ثم يكون العجبُ أشدَّ حين لا يُقيم على اختياره أيَّ دليل مقبول!.

وهذا الصنيع يَدلُّنا في الغالب على أحد أمرين:

1 – إما على فقدان الثقة بجمهرة العلماء السابقين الذين قَضَوا أعمارهم في مَعرفة لغة العرب، ومقاصد القرآن الكريم، واحتاطوا أشدَّ الاحتياط فيما دَوَّنوا من آراء.

2 – وإما على شهوة خاصَّة تحمل مثل هذا المعرض عن الصحيح من الآراء على أن يظهر بمظهر المخالف لما اتفقت عليه كلمة جمهرة العلماء والباحثين، ومن شيمة العلماء أن يعترفوا لغيرهم بالفضل، وأن يطلبوا الحقَّ حيث وجدوه، وألا يعرضوا عن الرأي المدعَّم بالأدلة ويَعتنقوا الرأي الذي لا يقوم عليه دليل، وأن تكون الحكمةُ ضالَّتَهم يبحثون عنها، ويجهدون في سبيل الوصول إليها.

وقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: والذي لا إله إلا هو، ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.

فما بالنا نرى أناساً ليسوا على علمٍ بكتاب الله، ولا يكادون يعرفون في آية واحدة فيمن نزلت وأين نزلت، وبين أيديهم كتب التفسير المنقول والمعقول تُسَوِّل لهم أنفسهم أن يُعرِضُوا عن كل ذلك، ويحبون أن يظهروا أمام القرَّاء بأنهم أعلم بكتاب الله من كل من سبقوهم؟.

من الممكن أن يضيف المفسِّر العالم إلى ما ذكر المتقدمون فَهْماً جديداً لآية من الآيات، ولكنَّ البعيدَ أن يُخطِّئَ جمهرَتَهم في فهم آية كَثُرَ الجدلُ والنقاشُ حولها، وكان ما تضمَّنته من المسائل الأصليَّة في الإسلام كمسألة الجنَّة والنار – مَثلاً – أو كمسألة الحلال والحرام.

ولست أريدُ بذلك أن أدعو إلى الوقوف عند كتب التفسير المعروفة، والتي كتبها أفاضل العلماء في القديم، ولا أن أصدَّ أحداً عن التطلع للتفسير، بل إني أريد أن أدعو كل مسلم تحفِّزُه هِمَّتُه إلى هذا العمل أن يتبيَّن أولاً: هل هو من رجاله؟ عليه أن يعرف مدى إلمامه بلغة العرب، ومدى فهمه لأسرارها وتَذَوُّقِه لأساليبها، ومدى معرفته بالسنة النبوية، وأن يضع أمامه – دائماً – قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) [أخرجه النسائي في (فضائل القرآن) ( 109/ 110 ) ، والترمذي (2951) ، وأحمد في (المسند) (2069 ، 2429 ، 2976 ، 3025) ، قال الترمذي: (هذا حديث حسن).].

كما أني لستُ أقصد بهذا الكلام إنساناً بعينه بل إنِّي – دون مُواربة – أقصد الجمَّ الغفير ممن فَسَّروا القرآن في عصرنا الحاضر حتى أولئك الذين يرفعون بعضَ الناس إلى مرتبة الاجتهاد، فإني عرفتُ بعضَهم وقرأت عن بعض آخر، فلم أجدْ عندَهم من عُدَد التفسير إلا معرفةً يسيرة بلغة العرب، تتضاءل أمام ما كان عليه أولئك المفسرون القُدَامى من أمثال الفخر الرازي والزمخشري وغيرهما، ووجدت عند بعضهم من الجرأة على كتاب الله ما ضلَّ به وأضلَّ.

وربما قيل: إنَّك هوَّلت في الأمر، وإنَّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، وإنَّه لا يحتاج في تفسيره إلى أكثر من الإلمام اليسير بلغة العرب، وأقول كما قال البوصيري: (ومن شدة الوضوح الخفاء). 

نعم، ألفاظ القرآن عربية واضحة، ولكن مقاصد القرآن تحتاج في الوصول إليها إلى دراسة واسعة لهذه الألفاظ، وإلى أفهام ثاقبة، وإلى ما قدَّمت الحديث عنه، ثم من الألفاظ ما وُضِعَ لأكثر من معنىً واحد، فكيف يُدرك المرادَ منه من لم يكن عارفاً بلغات العرب؟!.

بعد كلِّ هذا أرى من الواجب أن أعرض لأبحاث نشرَتْها بعضُ المجلات المصرية تناول فيها الكاتب تفسير بعض الآيات القرآنية، وذكر أنَّه يقوم بمحاولة لتفسير عصري للقرآن!.

وقد اختلفت الآراء عندما بدأ الكاتب ينشر هذه الأبحاث فقال قائلون: إنَّه يَنبغي السكوت عنها، وأنَّ من الضرر البالغ الردَّ عليها ومُناقشتها، ذلك أنَّها بعثت بعض آراء قديمة مَاتت، ولم يعدْ أحدٌ من المسلمين يَدين بها، وفي الجدل حولها ما يذكِّر المسلمين بها، وهم في غِنى عن بلبلة الأفكار، وزعزعة العقيدة.

وقال آخرون: هذا حقٌّ، ولكن بعض الناس ممن ضَؤُلت ثقافتهم الدينيَّة أخذوا يَدينون بها، بل بعضهم جعل يُبشِّر بها ويشيد بكاتبها فمن الواجب أن يُبيِّن للناس مدى صحَّة هذه الآراء ومدى ضعفها.

حقيقة قد أقيمت الأدلَّة الكثيرة في الماضي على بُطلانها، ولكن الكاتب لم يقتصرْ على بعض هذه الآراء بل جعلَ يُضيف إليها حواشي تُوهم الناس أنَّ لهذه الآراء نصيباً من الصحة.

قال هؤلاء: وربما كان في سكوت العلماء عنها ما يُؤكِّد صحتها.

وقد ملتُ إلى هذا الرأي فكتبتُ هذه الكلمات، وقبل أن أتناول ما سَطَّره الكاتب أود أن أقول: إنَّنا لا نحاول أن نحدَّ من حريَّة أحد ولا أن نسيءَ إلى أحد وإنَّما نُريد النصيحة للمسلمين، فأما الكاتب فأمره إلى ربِّه، فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يقول في محكم كتابه: [للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:284}. ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).

لقد وقفتُ طويلاً عند تفسير لقوله تعالى: [مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ] {محمد:15}. وعجبت لأمور:

أولها: أنَّ الكاتب حمل الآية بادئ بدء – على التشبيه، ولكنه لم يذكر لنا أين المشبَّه به؟ ويبدو أنَّه لم يَدُرْ بخَلَدِه أنَّ هنا مُشبَّهاً به!.

ودليلنا على أنَّه أراد التشبيه أنَّه نظر ما في الآية بما يقوله الرجلُ لطفله الذي يسأله عن اللذة الجنسيَّة، بعد أن يعجز عن توصيل المعنى إليه فيقرب إليه الأمر على سبيل ضرب المثل ويقول: إنها شيء مثل السكر.

إنَّ جمهرة المفسرين يقولون: أنَّ (المثل) هنا معناها الصفة، أي: صفة الجنَّة التي وُعد المتقون كذا وكذا.

وبعضهم حاول أن يُقدِّر في الآية تشبيهاً، وذكروا في ذلك وجهين:

الأول: عن الزَّجَّاج حيث قال: (مثل الجنة جنة تجري فيها أنهار، كما يقال: مثل زيد رجل طويل أسمر، فيذكر عين صفات زيد في رجل منكر لا يكون هو – في الحقيقة – إلا زيداً).

والثاني: عن الزمخشري فهو يرى أنَّ الممثَّل به مذكور، حيث قال: كمن هو خالد في النار، مُشبَّه به على طريقة الإنكار، وعبارته: (كأنَّه قيل: أمِثْل الجنَّة كمن هو خالد في النار؟! أي: كمثل جزاء من هو خالد في النار... هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار، ونظير قول القائل:

أَفرَحُ أنْ أُرْزَأَ الكِرامَ وأن = أُورثُ ذَوْداً شَصائِصاً نَبَلاَ

[معنى كلامه: أَأَفْرَح بصِغار الإِبل وقد رُزِئْت بكِبار الكِرام؟]

هو كلام مُنكر للفرح برزيئة الكرم، ووارثة الذود مع تعريه عن حرف الإنكار، ومثل الجنة صفة العجيبة الشأن، وهو مبتدأ وخبره كمن هو خالد.

وقد علَّق عالم من علماء أهل السنة عُرف بتتبعه لآراء الزمخشري وردِّها علَّق على هذا التفسير بقوله: قال أحمد – هو قاضي الإسكندرية المتوفى سنة 683هـ المعروف بابن المنَيِّر – (كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أرَ أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها).

أما الأمر الثاني: - وهو أمر لا يكاد العجبُ منه يَنقضي – فهو أنَّ الكاتب لم يَعْرض لأيِّ آيةٍ أخرى في القرآن جاء فيها وصف الجنة ونعيمها، بل اقتصر على هذه الآية التي جاءت فيها كلمة (مثل) ليصحَّ له أن يقول أنَّ المسألة مجرد ضرب مثل!. 

وكل نصيب الآيات الأخرى منه إشارة عابرة وإن كانت واضحة الدلالة، يقول فيها: 

(وكل ما جاء في الجنَّة والجحيم ألوان من ضرب الأمثال، وألوان من التقريب وألوان من الرمز)، وهو كلام ملقى على عَواهنه، لا يسنده أي دليل، ذلك أنَّ جميع العلماء مُتفقون على أنَّه إذا أمكن الكلامُ على الحقيقة لا يُعدَل عنها إلى المجاز، ومعروف كذلك أنَّ كل مجاز لابدَّ له من قرينة مَانعة من إرادة المعنى الحقيقي.

وفي القرآن الكريم عشرات الآيات في وصف الجنَّة والنار، وهي آيات صَريحة لا لَبْس فيها ولا غموض، وليست فيها آية قرينة تصرفها عن معانيها الحقيقية، نأخذ – مثلاً قوله تعالى - [وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73) ]. {الزُّخرف}.  وقوله سبحانه: [عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ(15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ(16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ(17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ(19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ(20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(21) وَحُورٌ عِينٌ(22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ(23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) ]. {الواقعة}..

وقوله تعالى في وصف النار: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ] {الحج:19-22}. وقوله سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ] {النساء:56}.

إلى آيات كثيرة تشبه هذه الآيات في وضوح الدلالة وصراحة العبارة، فما الذي يحملنا على أن نتعسَّف في تفسير اللغة، ونجعل من الواضح الجلي رمزاً وإيماءً، وندَّعي أن ذلك من قبيل ضرب المثل؟!، بل مجرد ضرب مثل، وليس في كل هذه الآيات إشارة واحدة من بعيد أو من قريب تسمح لنا بهذه الدعوى؟.

ولكن الكاتب قد أجاب عن هذا السؤال، فقال: (هذا أمر مستحيل؛ لأنَّ الجنَّة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا) فليست هذه – إذن – أوصافاً حرفية؛ لأن هذا مستحيل.

والعجيب من الكاتب: أليس في مقدور الله، أن يصف لنا الأمور الغيبية بكلماتنا هذه القاموسية؟ أكل غائب عنا عجز القرآن عن تصويره بكلماتنا؟ وإذا كان القرآن صوَّر لنا – فعلاً – هذه الغيبيات، بألفاظ واضحة نفهمها، فهل من مُقتضيات فلسفتنا أن نقول له إنك عجزت عن هذا التصوير، وإننا سنتبرع لك من عندنا فنفهم أنك تقصد الرمز والإيماء؟

إنني أترك لأي قارئ أن يحكم على هذا الصنيع وسيجد أن الكاتب قد ألغى دلالات اللغة الأصلية، وقد فتح باباً واسعاً للادعاء، ولحمل كل لفظ على ما يريد أن يفهم، ولو أبحنا ذلك لمجرد هذه الحجَّة لما استطعنا أن نؤمن بقضية غيبية على حقيقتها.

إنَّ في الجنة أنهاراً من لبن، وأنهاراً من عسل مصفى، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين، أليست هذه كلمات واضحة، وعبارات سليمة لا غموض فيها؟ أيكون في الإيمان بما تدلُّ عليه يَتنافى مع العقيدة الصحيحة للمسلم؟ أينقص من قدر ثواب المؤمنين أن يجدوا في الجنة هذه الأنهار؟!.

لا أظنُّ شيئاً من ذلك يطوف بخَلَد أحدٍ ممن يؤمن بالله ورسوله وبالحشر والجنَّة والنار، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أعدَّ لعبادة الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر – كما جاء في الحديث الصحيح – فإنَّ وراء هذه الأنهار، وهذه النعم الحسيَّة ذلك الذي أعدَّه الله، ولا تنافي بين ما بيَّنه الله تعالى في القرآن من ألوان النعيم وبين ما أعدَّه من نعم أخرى لم تخطرْ على قلب بشر.

والعجيبة الثالثة التي جرت على قلم الكاتب – ولست أظنُّ أنَّه ألقى إليها بالاً -: ما جاء في تعليقه على قول الله تعالى: [لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ] {الزُّمر:16}.

من قوله: (ها هو ذا يبيِّن حقيقة جديدة، فيقول أنَّه يورد الألفاظ للتخويف) ويكرر هذا في موضع آخر، فيقول عن الله سبحانه: (فقد حذَّرنا وخوَّفنا بالألفاظ المجلجلة)!.

وإذن فهي مجرد ألفاظ، لا حقائق وراءها، وهذا غاية ما نَعيب به إنساناً مثلنا أن يُهدِّدنا بالألفاظ التي لا يحقق شيئاً من مَعَانيها، والله سبحانه قد أنكر على المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:2-3} وليس يشفع للكاتب أن يقول بعد ذلك أنَّ التخويف ليس على غير أساس، فيكفي أن ينسب إلى الله سبحانه أنه يخوف بالألفاظ المجلجلة؟!.

ولماذا لا يخوفنا الله بما تدلُّ عليه هذه الألفاظ؟ وهو الأمر الطبيعي المعقول، ليكن ما يَلقاه الناس يومَ القيامة أشد هولاً مما تضمَّنته هذه الآية، ولكن ما جاء فيها أمر رهيب حقاً، وما وراءه من أنواع العذاب تَضمَّنَته آيات أخر.

والكاتب – فيما يبدو من كلامه – يؤمن بالحشر الجسماني، وإذا كان كذلك فلابد أن يكون المؤمنون في مكان والكافرون في مكان آخر، وبطبيعة الحال سيكون مكان المؤمنين مُريحاً، ومكان الكافرين مُتعباً، والقرآن الكريم قد وصف لنا المكانين، وعلينا أن نؤمن بهذه الأوصاف لأننا لو فهمناها على أنها رموز لحالات نفسية كان علينا أن نتصور صفات لهذه الأمكنة، ضرورة أنَّه لابدَّ لكل مكان من صفة، وحينئذ سنترك ما وصف به القرآن الأرض التي يحشر كل من الفريقين عليها، وتخيلنا لها أوصافاً من عندنا وليس وراء ذلك عبث.

ثم إنَّ الكاتب تبع بعض الكاتبين الآخرين في ادعاء أنَّ الله سبحانه لما كان يخاطب (البدوي البسيط) الذي كل أمنيته – وهو يَعيش في هجير الصحراء – أن يعثرَ على نبع ماء عَذْب، كان يعده جنات تجري من تحتها الأنهار.

كأنَّ القرآن الكريم لم ينزل إلا لهذا البدوي البسيط، وكأنَّ الماء لا قيمة له إلا عند من يعيشون في هجير الصحراء، وأخيراً كأن القرآن (يتملَّق) هؤلاء البدو ليؤمنوا بالرسالة الجديدة!.

إنَّ القرآن الكريم أُنزل على نبي عربي، ولكنه سيبقى خالداً يخاطب جميع الأمم وجميع الأجناس حتى الذين يَعيشون في جزر وسط الأنهار العذبة، وأنَّ الماء حياة كل شيء كما جاء في القرآن الكريم، فليست حاجة البدوي إليه بأمس من حاجة غيره، وإذا تصوَّرنا أنَّ البدوي سيكون شديد الحاجة للماء في الدار الآخرة فنحن لم نفقد هذا التصور بالنسبة لأي إنسان آخر.

والكاتب يعتبر الأنهار من العسل، والأنهار من الخمر (سذاجات)؛ لأنَّه يقول أنَّه فهمها كذلك في شبابه، ولكن حين كبر أدرك أنَّ المراد الرمز والإيماء، ومعنى ذلك أنَّ كل من يفهمها على أنها حقائق إنسان ساذج، وكفى بذلك ضياعاً.

ويتمسك الكاتب بقول الله تعالى في أهل النار: [لِكُلٍّ ضِعْفٌ] {الأعراف:38} مدعياً أنَّ ذلك من الأدلة على أن النار ليست هي النار إذ: (أن أمامنا اثنين يتعذَّب الواحد منهم ضعف الآخر، مع أنَّهما في نفس المكان، ومعنى هذا أنَّ العذاب في القلب وليس في المكان).

فالكاتب لا يَتصوَّر أن يكون اثنان في مكان واحد، ويتعذَّب أحدهما ضعف الآخر، مع أنَّه في نفس المكان يتصوَّر وقوع حوار بين أهل النار، ويقول: (وفي مثل نارنا لا يمكن أن يجري حوار بين اثنين يحترقان) وإذن فنار الآخرة غير نارنا، والكاتب يعترف بأنَّه سيكون فيها ما لا نتصوَّره في نارنا، فهل يبعد أن يتعذَّب اثنان عذابين مُختلفين في مكان واحد منها؟.

ثم من قال أنَّ الجميع في مكان واحد؟ وأنَّ النار دركات وليس من العسير أن يقع حوار بين قوم في دَرَكة، وآخرين في دركة أخرى، والقرآن الكريم يحدثنا أنَّه سيكون حوار بين أهل الجنة وأهل النار.

على أنَّنا نتصور – وبكل وضوح – أن يكون اثنان في مكان واحد، ويشعر أحدهما بالعذاب ضعف شعور الآخر به، كما نتصور حواراً يقع بين اثنين يُعذَّبان، يشكو أحدهما شدَّة العذاب فيجيبه الآخر بأنَّه هو الذي أسرف على نفسه في الدنيا، فاستحق هذا العذاب في الآخرة، وكيف ينكر مسلم هذا الحوار، والله سبحانه وتعالى يقول: [إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ] {ص:64}. 

نسأل الله سبحانه أن يجنبنا الزلل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر كتاب: (تيارات مُنحرفة في التفكير الديني المعاصر، ص: 85) ط. سنة 1395هـ .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين