الحديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليس مرهونا بيوم مولده.

 

كلما طلع علينا هلال شهر ربيع الأول من كل عام كتب الكاتبون وتحدث المتحدثون  وهتف الهاتفون باسم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير الورى ونور الهدى ورائد المجتمع الإنساني إلى الخير والفلاح ففي مثل هذا الشهر العظيم كان الحدث العظيم كان ميلاد النبي الأعظم والرسول الأكرم الذي ختم الله به كلمات المرسلين وأحيا به سننهم، وجمع فيه فضائلهم، وجعل رسالته خالدة لايأتيها نسخ ولاتبديل. 

في ربيع الأنور كان ميلاد معلم البشرية ومنقذ الإنسانية، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الإيمان، ومن عبادة العبيد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن جور الأديان والحكام إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

كان ميلاد البشير الذي بعث الأمل في قلوب البائسين، والهادي الذي قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط ومعترك الأمواج إلى بر الأمان والسلام إلى شاطئ الله رب العالمين.

في ربيع ولد النبي الأمي الذي يجده اليهود والنصارى مذكورا في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. 

وبخصوص المناسبة الكريمة ينبغي  أن نقول: إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس حديثا مرهونا بمناسبة مولده أو بدء دعوته وما ينبغي لنا أن نحدد يوما أو شهرا فقط في العام نتحدث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ماغاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن غاب عنا بجسده الشريف وبدنه الطاهر فهو معنا بشرعه الحكيم الذي أوحاه إليه رب العالمين. معنا بهديه وسنته . معنا برسالته التي ختم الله بها الرسالات وبدينه الذي ختم الله به الأديان والذي لايرتض المولى عز وجل من العباد دينا سواه  ((إن الدين عند الله الإسلام ))((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) .

معنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالميراث العظيم الذي أورثنا إياه، وأوصانا أن نتمسك به ونعض عليه بالنواجذ  ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي)).

حديثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث عن نشأته. كيف كانت؟ وعن المجتمع الذي كان فيه كيف كان يعيش ويحيا؟ وعن دعوته العظيمة وكيف أثرت في هذا المجتمع وغيره من المجتمعات الإنسانية وغيرت مجرى التاريخ؟. 

ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أثبت كثير من المؤرخين في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل فكانت ولادته بشير خير، ومطلع هداية، ومشرق نور ولاعجب فهو دعوة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام  ((ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ))، وهو بشارة عيسى عليه السلام : ((ومبشرا برسول يأت من بعدي اسمه احمد)).

ولد صلى الله عليه وسلم كريم المنبت، طاهر العرق، طيب المنزع، شريف الأصل، تنقل في الأصلاب الفاضلة والأرحام الطاهرة حتى كانت الساعة الفاصلة في تاريخ الوجود ساعة ميلاده الشريف.  ومعلوم أن كرم الأصل له أحسن الأثر في سلوك المرء وخلقه وفي قوله وفعله ولذا قال صلى الله عليه وسلم : ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار )).

 ولد صلى الله عليه وسلم في بيت هادئ من بيوت مكة المكرمة لاجلبة فيه ولاضوضاء وليس به مظهر من مظاهر الترف والثراء، بيت لم تعرفه أبصار مكة وأسماعها إلا  مسكنا مصونا وحرما طيبا للفضيلة والحياة الجادة الكريمة .

وضعته أمه آمنة بنت وهب سيدة أرملة مات زوجها وهي حامل بجنينها فخرج وليدها العظيم إلى الدنيا يتيما محروما من حنان الأبوة ثم لم تلبث أمه قليلا حتى لحقت بأبيه فحرم أيضا من حنان الأمومة، ولكن عناية كبرى تلقته، ويدا رحيمة من عالم الغيب حاطته فهيئ الله عزوجل له جده عبد المطلب الذي هفا إليه في حنان دافق وشوق بالغ حينما بشروه به فكان أحب أحفاده إليه فهو ابن ابنه عبد الله الذي افتداه عبدالمطلب بمائة من الإبل .

مات جده ومحمد صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره فيسر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمه إلى عياله وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا فبارك الله لأبي طالب في ماله وعياله ببركة محمد صلى الله عليه وسلم. 

وبعدما شبّ وترعرع هذا الإنسان اليتيم عمل بما اشتغل به الأنبياء من قبله وهو رعي الغنم، وما من نبي إلا وقد رعى الغنم لحكمة أرادها الله عزوجل، وليعتاد بذلك حسن الرعاية وتصريف الأمور فيما يكون راعيا له في المستقبل. إنه سيقود الأمم ويرعى الشعوب، سيحييها من موات، ويجمعها من شتات، ويردها بعد شرود، ويؤلف بينها بعد عداوة وبغضاء.

هذا جانب عن مولده ونشأته صلى الله عليه وسلم أما عن المجتمع الذي ولد فيه ونشأ  فلا يخفى أمره على من  يتصفحون  السيرة ويقرأون التاريخ.

لقد كانت قافلة الحياة بأسرها  جائرة السبيل، حائرة الدليل . كان العالم كله يرزح تحت نير الظلم والطغيان والذل والاستعباد .

تتقاسم الدنيا دولتان باغيتان :دولة الروم في الغرب، ودولة الفرس في الشرق ولم يبق من أنوار الشرائع السماوية إلا أشعة حيرى وومضات خافتة يحتضر شعاعها الشاحب. وكان عرب الجزيرة أشتاتا لاتجمع بينهم عقيدة صحيحة ولاتؤلف بينهم كلمة جامعة ينغمسون في عماء وجهل وضلال، تتقاسمهم الأهواء وتتنازعهم المشاحنات، عقولهم كليلة، ونفوسهم مريضة، تهفو إلى كل حمأة دنسة من الرذائل ، ونزوات الجسد، يرتكبون المنكرات والموبقات من الظلم ووأد البنات يشيع فيهم الميسر الباغي والخمر المعربدة، والشهوات الفواجر، والفوضى والبغضاءالتي تقطع مابين القلوب من روابط، وتجعل أيامهم أتون حرب لا يخبو أواره، ولا يخمد لهيبه. كانت أدمغتهم خاوية إلا من الخرافة ، وقلوبهم فارغة إلا من الحقد والعداوة ، كانوا بتلك الأدمغة الفاسدة وهذه القلوب الفارغة يهوون في ذل فاجع ساجدين لأصنام بالت عليها كلابهم ووطئتها أقدامهم.

 كان المجتمع العربي قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم صورة مصغرة للعالم فإن العالم كان كل شئ فيه في غير محله وفي غير وضعه الصحيح. كما قال الله عز وجل  ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس )) فهذا أتم وصف ، وأصدق بيان عن حال العرب والعالم قبل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام. 

استدار الزمان، وبلغ اليتيم مبلغ الرجال ، وعمل بالتجارة، واشتهر بالصدق والأمانة وحسن المعاملة ، ولما بلغ الخامسة والعشرين تزوج من سيدة قومها الشريفة المصون  خديجة رضي الله عنها والتي غمرته بحبها وحنانها، وواسته بنفسها ومالها ، ورزقه الله منها الولد.

 ولما بلغ الأربعين وإذا به يصطفيه ربه لحمل رسالته، ويختاره لهداية خلقه فينشر في الدنيا إصلاحا وخيرا لم تسمع البشرية بمثله من قبل ولم يسبقه إليه أحد من القادة والمصلحين فضلا عن الأنبياء والمرسلين فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم قوة غيرت مجرى التاريخ، وقومت سير الدنيا،  ومكنت لقافلة الحياة أن تشق طريقها الصحيح إلى الوجود.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالغيث الذي تقاطر على نبات ذوى فرد إليه الحياة، وكان الضوء للضالين الحيارى، بصرهم طريق النجاة فبلغ دعوة الحق إلى الخلق ونشر رسالة الرحمة في العالمين ،وأهلّ به على الوجود نور يفيض بالهداية وأشرق به الأمل للإنسانية في وحدة ومحبة وإخاء.

 جاء صلى الله عليه وسلم برسالته إلى الناس، وكانوا ضعفاء، فقواهم الله به، وكانوا فقراء فأغناهم الله، وكانوا أذلة فأعزهم الله، ومتفرقين فوحدهم وجمعهم، وجهلاء سفهاء فعلمهم وأدبهم ،وتحمل في سبيل ذلك مالم يتحمله بشر، وأوذي في سبيل ربه فثبت وصبر حتى أعزه الله ونصره ومكن لدينه، وقامت به دولة الحق والعدل.

  ترى من كان يدري أن هذا الإنسان الذي نشأ يتيما سينهض بأمة كانت كأنها ميتة ويكوّن فيها النواة الطيبة لجيل جديد يحمل اللواء ويشيد البناء !

من كان يظن أن هذا الإنسان ستقف وفود العرب  أمامه إكبارا ومهابة وإجلالا فلم يتعال عليهم ولم يأخذه الغرور والزهو  بل كان يخاطب الناس قائلا:  ((أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق )).

وليس هدفنا حينما نكتب أونتحدث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ونذكر بتاريخه وسيرته العطرة أن نسترجع تاريخا حبيبا فحسب وإنما الهدف أن نأخذ عظة  هادية وعبرة شافية تكون لنا وللناس نبراسانهتدي في مراحل حياتنا كلها فنتعلم من طفولته صلى الله عليه وسلم، ونعلم أطفالنا كيف كان يعيش ويحيا الحبيب المصطفى وهو الطفل اليتيم في أدبه واتزانه وحسن تصرفه فقد كانت طفولته خير طفولة، وكان له عقل الرجال رغم أن قومه كانوا في جاهلية، لكنه كان صلى الله عليه وسلم محفوظا بحفظ الله ، مرعيا برعايته ،ونتعلم منه في شبابه وفي رجولته الكاملة، وبطولته الملهمة الفادية، وفي قوة بأسه وثباته، وفي صبره المرير على الكفاح الطويل والنضال الدائم ،وينبغي كذلك أن نتأسى به في حبه وإخلاصه وطاعته  لربه ورفقه بأصحابه وتفانيه في تبليغ دعوته ونشره للخير فإن آفاق الوجود ماأشرقت إلا بتعاليمه وسلوكه فلقد ربى رجالا شجعانا وفتيانا أبطالا كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار لايرهبون الموت في سبيل ربهم والدفاع عن دينهم.

ولذا فإن خير مانحيي به ذكرى نبينا صلى الله عليه وسلم أن نذكر ماتحلى به من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، نذكر ثباته الفريد وعزمه الأكيد حينما تآلبت عليه قوى الشر والبغي والعدوان لتنال من تصميمه وعزيمته بالوعد والوعيد  فلم يبال بهم وما اغتر بوعدهم ولا اهتز لوعيدهم، ووقف كالطود الشامخ يعلن بثبات وقوة: ((والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يظهره الله أو أهلك من دونه )).

نتذكر صفحه وعفوه عن أعدائه الذين بالغوا في أذيته وناصبوه أشد العداء وأحرجوا صدره وقتلوا أصحابه، وأخرجوه من وطنه الحبيب إلى قلبه فلما تمكن منهم يوم الفتح قال: ((ماتظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)). 

نتذكر سخاءه وعطاءه وحنوه الرائع. فقد كان يعطي عطاء من لايخشى الفقر وقد لايجد ما يعطيه فيأذن لسائله بالإقتراض وعليه صلى الله عليه وسلم الوفاء إنه نموذج عجيب  ومقام رفيع  في التكافل الاجتماعي يفوق مقام الأب من بنيه والأخ من أخيه إنه رسول رب العالمين الذي وصفه ربه بقوله:  ((وإنك لعلى خلق عظيم )) فلم يترك بذلك مدحة لمادح، والذي قال فيه: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم  )).

والحديث عن الرسول الأعظم والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لاينتهي لأنه في الحقيقة حديث عن الإسلام نفسه حيث كان صلوات الله عليه تطبيقا عمليا لهذا الدين، كان إسلاما يمشي على الأرض في قوله وفعله، في حكمه وقيادته وسلوكه وسائر أموره.

 ولعلنا في مقال لاحق نذكر بعض الدروس والعبر في حياة النبي الرباني، والرسول المعلم صلى الله عليه وسلم .

اللهم وفقنا لاتباع هديه وسنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين