الحكومة الإسلامية جمهورية نيابية دستورية (1)

نشرت بعض الصحف المصرية أنَّ لجنة الدستور تُعنى الآن بوضع النص الذي يعيِّن شكل الحكومة في مصر، وأنَّ أعضاءها من الإخوان المسلمين تقدَّموا بمشروع مادَّة في هذا الشأن، وأنَّ البحث يَكاد ينتهي إلى التوفيق.

لهذا رأيت أن أبيِّن ما قرَّره الإسلام في شكل الحكومة الإسلاميَّة، وفيما يجب أن يكون عليه نظام الحكم الإسلامي والله يُلهمنا الصواب:

كل دولة منظمة لابدَّ لها من تحديد علاقة القوة الحاكمة فيها بالأمَّة المحكومة لتستبين حقوق الحاكم وواجباته، وحقوق الأمَّة وواجباتها، وليمكن التوفيق بين سلطان الحاكم وحريَّات المحكوم، ومن اختلاف هذه العلاقات في الدول اختلفت أشكال حكوماتها، وتنوَّعت إلى حكومة ملكيَّة، وحكومة جمهوريَّة، وتنوعت الملكيَّة إلى دستوريَّة واستبداديَّة، وتنوعت الجمهوريَّة إلى نيابيَّة ورياسية، وعُني القانون الأساسي لكل دولة منظمة بالنص على شكل حكومتها، وتحديد علاقة الأمَّة بالرياسة العُليا الحاكمة فيها.

والإسلام سلك في هذا الشأن سبيلاً مُستقيماً صالحاً لأن تهتدي به كل أمَّة إسلامية إلى ما يحقِّق مصالحها وما يُلائم بيئتها، ذلك أنه لم يقرر في نص من نصوص قانونه الأساسي شكلاً معيناً يجب أن تكون عليه الحكومة الإسلامية، وإنما الذي نصت عليه آيات القرآن وصحاح السنة هو الأسس والدعائم التي يجب أن يقوم عليها نظام الحكم، تحقيقاً لمصالح الناس والعدل بينهم، وتأمينهم على حقوقهم وحُرماتهم، وتوفيقاً بين سلطان الحاكم وحقوق الأمة، وعلى كل دولة إسلامية أن تشكل نظام الحكم فيها بالشكل الذي يلائمها ما دام قائماً على هذه الأسس وفي حدودها، فالإسلام لم يعنَ بالشكل الذي يكون عليه نظام الحكم، وإنما عُني بالأسس التي يجب أن يقوم عليها هذا النظام، ودين الفطرة لا يُعنى بالصور والأشكال، وإنما يُعنى بالأسس والأهداف.

وأول دعامة قرَّرها الإسلام ليقومَ عليها نظام الحكم في الدولة الإسلاميَّة هي أن يكون الحكم دستورياً لا يَستبد به الرئيس الأعلى في الأمَّة، بل يكون الأمرُ شُورى بين أولي الأمر وبين الأمَّة، ويكون للأمة ممثلةً في أولي الحلِّ والعقد فيها شأن فيما تدبِّر به شؤونها، والدليل على هذا:

أولاً: قوله تعالى في سورة الشورى في وصف المؤمنين: [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] {الشُّورى:38}.

وَصَفَ المؤمنين بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وقرن هذا الوصف بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وساق وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة والسجايا اللازمة، ليدلَّ على أنَّ الشورى بين ولاة الأمر وممثلي الأمة هي من أسس الإسلام ومن مقتضياته كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأنَّ الاستبداد بحكم الأمة الإسلامية ليس من الإيمان، ولا من شأن المؤمنين، ومن المقرَّر أنَّ النصَّ بصيغة الخبر: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38} أدل على الإيجاب من النص بصيغة الطلب، لأنَّه يدل على أن التشاور هو شأن المؤمنين وشعار إيمانهم.

وثانياً: قوله تعالى في سورة آل عمران مُخاطباً رسولَه صلى الله عليه وسلم: [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159}.

أمرَ اللهُ تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يُشاور أمَّته في الأمر العام من شؤونها، والأمر المطلق يفيد الإيجاب، وقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استشار المسلمين قبل أن يخرج لغزوة أحد، وأنهم أشاروا عليه بأن يخرج لقتال أعدائهم، وكان من رأيه أن يبقى بالمدينة مُدافعاً، ولكنه نفَّذ ما أشاروا به وخرج، وانتهى الأمرُ بهزيمة المسلمين، فالله سبحانه قال لرسوله: [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159}. أي: لا يحملنَّك ما كان من نتائج المشاورة على أن تتركها، بل شاورهم في الأمر.

وهذا يدل على أنَّ الله سبحانه يريد أن تكون سياسة المسلمين بمشاورتهم، وأن لا يستبد بها فرد، ولا المعصوم صلى الله عليه وسلم، مهما كانت نتيجة المشاورة، فإنَّ أخطر خطر على الأمَّة أن يستقلَّ بتدبير شؤونها العامة فرد.

وثالثاً: قوله تعالى في سورة آل عمران: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.

قال الأستاذ الإمام: تفرض هذه الآية أن يكون في المسلمين أمة أي: جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منكر أنكر من الظلم.

وقرَّر أنَّ الحكومة الإسلاميَّة قائمة على الشورى، وأنَّ هذه الآية أول دليل على ذلك وأشار إلى الحديث: (لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهين عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعن بني إسرائيل).

فهذه الآيات تدلُّ في صراحة على أنَّ نظام الحكم في الإسلام دستوري لا استبدادي وعلى أنَّ الرئيس الأعلى في الحكومة الإسلاميَّة ليس له أن يستبدَّ بتدبير شؤون الأمة، وقد أيَّد هذا الأساس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمله وقوله.

ففي غزوة بدر لما نجا أبو سفيان بالعير عائداً إلى مكة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين قد يواجهون جيشاً للقتال وهم ما خرجوا للقتال، استشار المسلمين هل يستمر أو يعود إلى المدينة؟

ولما ساروا إلى بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، في المنزل الذي ينزل فيه هو وجنده وعدل عن رأيه.

ولما نصرهم الله تعالى ببدر استشار أصحابَه فيما يصنع في الأسرى.

وفي سنِّ الأذان في السنة الثانية للهجرة استشار أصحابه فيما يُعْلِمُ به المسلمين بوقت الصلاة، فأشار بعضُهم بإيقاد النار، وأشار بعضهم بغير هذا، وانتهى الأمر بسنِّ الأذان.

وفي غزوة أحُد عمل بمشورة المسلمين وعدل عن رأيه وخرج للقتال عملاً برأيهم.

وروي أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له يا رسول الله: (قد ينزل بنا الأمر لا نجد فيه نصاً في الكتاب ولم تمض منك فيه سنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اجمعوا له العالمين ولا تقضوا فيه برأي فرد).

فالرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الأمَّة الدنيوي العام الذي لم ينزل عليه فيه وحي كان لا يستقلُّ بالرأي، بل كان يستشير صحابته ويعمل بعد تبادل الشورى، وهذه الروح سرت منه صلى الله عليه وسلم إلى ولاته، فكان أمير الجند يستشير خيار جنده فيما يعرض له، وكذلك كل من ولي عملاً كان يستعين بآراء أولي الرأي ممن معه.

وكان أمر المسلمين شورى بالمعنى الحق الذي تدلُّ عليه كلمة شورى، وقد جاء في تفسير الأستاذ الإمام لقوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ] {آل عمران:104} بعد بيان مسهب ما نصه: (ومعنى الآية على هذا الوجه أنه يجب أن تكون سياسة المسلمين تابعة لهذه الأمة التي تقوم بفريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي بمكانة مجالس النوَّاب في الحكومة الدستوريَّة، وكأنَّ الآية تبين كيف يكون أمر المسلمين شورى بينهم.

وبعض الباحثين يورد في هذا المقام شبهات لابدَّ من الإشارة إليها، وبيان ما يزيلها:

الأولى: قالوا: إنَّ وصف المسلمين بأن أمرهم شورى بينهم، وأمر الرئيس الأعلى بأن يشاور الأمة في الأمر توجبان على الرئيس الأعلى أن يشاور، أي: أن يتبادل مع ممثلي الأمة الرأي، ولكن لا توجبان عليه أن يعمل برأيهم، فالشورى غير مُلزمة، ولا تحقق معنى الدستورية، وهو أن تكون الأمة ممثلة في نوابها مصدر السلطات فيها، وكلمتها هي العليا.

والجواب عن هذه الشبهة: أنَّ الله سبحانه أمر بالمشاورة ليهتدي الرئيس الأعلى برأي الجماعة في تدبير شؤون الأمة العامة، فإذا أغفل الرئيس الأعلى المشاورة، أو جعلها أمراً صورياً شكلياً فيتعرَّف آراء الأمة ولا يعمل بها، فعلى الأمة أن ترجعه عن هذا، وعليها أن تأطره على الحق أطراً، فالأمَّة التي فرض الله تعالى أن تكون في المسلمين بقوله: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:104} هي الضمان لتنفيذ واجب المشاورة وللعمل بها على وجهها، وكل التكاليف الشرعية الضامن لامتثالها ضمير المكلف، وتآمر المكلفين بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر.

الشبهة الثانية: قالوا: لو كانت الشورى دعامة لنظام الحكم في الإسلام لبيَّن القرآن أو السنة نظمها وقواعدها وكيف تكون.

والجواب عن هذا: أنَّ تفصيل النظم الشورية، والطرق التي تكون بها مما يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية، فمن العدل أن تُقرَّر الشورى، وأن يترك لكل أمة أن تضع نظمها التفصيلية بما يلائم حالها، فهي التي تقرر نظام انتخاب رجالها، والشروط اللازم توافرها فيهم وكيف يقومون بواجبهم حتى تكون الأمة لها الرأي فيما تُسَاس به، ولو وضع نظام تفصيلي لاتخذه المسلمون من دينهم والتزموه، وقد يكون مُراعى في وضعه حال المسلمين الاجتماعيَّة في فجر الإسلام، ومن الحرج مُراعاته في كل أمة في أي زمان أو مكان.

الشبهة الثالثة: قالوا: إنَّ الرئيس الأعلى في الحكومة الإسلامية من ابتداء عهد الأمويين كان مُستقلاً بتدبير شؤون الأمَّة، وما وُجدت الشورى ولا كان نظام الحكم دستورياً، وكان الحكم بقوة السيف وغلبة العصبة، لا بالشورى، ولا برأي الأمَّة، حتى روى بعض المؤرخين أنَّ عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى قال: (من قال لي اتق الله ضربت عنقه!) ورسخت السلطة الشخصيَّة في زمن العباسيين، وجرى على ذلك سائر ملوك المسلمين.. 

فسنن ملوك المسلمين في حكم الأمة الإسلامية يدل على أنَّ السلطة في الإسلام للفرد لا للأمة، وأن نظام الحكم في الإسلام استبدادي لا دستوري، وأنَّ الشورى في الإسلام مندوبة أو مباحة، لا فرض ولا واجب.

والجواب عن هذا: أنه لا يجوز لمسلم أن يهمل ما قرَّره القرآن من الأمر بالمشاورة، ومن أنَّ المؤمنين شأنهم المشاورة، وأن يهمل ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته من مُشاورة صحابته في الأمر العام الدنيوي الذي لم ينزل عليه فيه وحي، وأن يهمل ما تقضي به الحكمة والخطة القويمة من الاهتداء برأي الجماعة.. 

أقول: لا يجوز لمسلم أن يُهمل هذا متأثراً بأنَّ ملوك المسلمين استأثروا بالسلطان، وأغفلوا ما أمر الله تعالى به من المشاورة، ولا يصحُّ أن يوصم القانون لسبب أنَّ القضاة لا يطبقونه، ولا يصح أن يُحكم على أي نظام عادل بسبب أنه يُساء تنفيذه.

فالإسلام وضع لنظام الحكم أقوم الدعائم وأعدلها، وأولها أن يكون الحكم دستورياً.

فملوك المسلمين الذين لم يقيموا حكمهم على هذا الأساس خرجوا عن أمر الله تعالى، والعلماء الذين مالؤوهم وهوَّنوا أمر الشورى، وقالوا إنَّ الأمر للندب لا للحتم، لم يقوموا بواجب النصح وقول الحق، وهؤلاء وأولئك ليسوا حجَّة على الإسلام، ولا يعترض عملهم صريح القرآن، ولو حكمنا على الإسلام بما عليه عمل المسلمين الآن لشوهناه وذهبت عدالته وحكمته ورحمته، فالمسلمون الآن تفرَّقوا واختلفوا، والإسلام وحدة واعتصام، وتكافل وتضامن، والمسلمون الآن ضعفوا وذلوا وطمع فيهم أعداؤهم، والإسلام قوَّة وعزَّة ومهابة، والمسلمون الآن جحدوا تشريعهم وسدوا بابَ اجتهادهم، والإسلام حركة تشريعيَّة مُستمرة ومسايرة لتطورات الناس ومصالحهم المختلفة.. 

ويطول بي القول إذا وازنت بين ما قرَّره الإسلام وما عليه المسلمون.. 

وحسبي أن أقرِّر أنَّ الشورى أول دعامة من دعائم النظام الحكومي في الإسلام، وأن أبغض شيء إلى الإسلام هو الاستبداد بسلطان الحكم والسلطة الفرديَّة.

وسأبين إن شاء الله تعالى في العدد التالي سائر دعائم نظام الحكم في الإسلام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثاني، المجلد السابع، شوال 1372 يونية 1953 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين