الحكومة الإسلامية جمهورية نيابية دستورية -2-

 

بيَّنتُ في مقالي بالعدد الماضي أنَّ الإسلام لم ينصَّ في آيةٍ من القرآن ولا في حديث صحيح من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم على شكل معيَّن يجب أن يكون عليه نظام الحكم الإسلامي، وأنه اكتفى في هذا الشأن بتقرير الأصول والدعائم التي يجب أن يَعتمد عليها نظام الحكم، ليتسنَّى لكلِّ أمة في أي عهد وفي أية بيئة أن تقرِّر شكل النظام الذي يُلائمها ويتفق وأحوالها، ما دام قائماً على هذه القواعد والدعائم، فالعبرة في نظرِ الإسلام بأسس الحكم لا بشكله.

وبيَّنت أنَّ أول دعامة قرَّر الإسلامُ أن يقومَ عليها نظامُ الحكم أن يكون أمرُ الأمَّة شُورى بين حُكَّامها وبين ممثليها من أولي الحلِّ والعقد فيها، وأنَّ أبغض شيء إلى الإسلام أن يستبدَّ الحاكم بتدبير شؤون الأمَّة العامَّة، وبيَّنت ما استندت إليه في هذا من آي القرآن وسُنن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأبيِّن في هذا المقال أنَّ الذي يتفق وما قرَّره الإسلام في شأن الحكم هو النظام الجمهوري لا الملكي، والنظام الجمهوري في الحكم أساس أن تكون الرياسة العليا في الحكومة لمن تنتخبه الأمَّة من أكفأ رجالها غير مقيدة بأفراد أسرة معينة، أو بذوي نسب خاص، فلا تكون الرياسة العليا حقاً لأفراد معينين أو لأسرة معينة، ولا تكون بالوراثة خلفاً عن سلف، وإذا كان الرئيس الأعلى له وحده اختيار وزرائه وإليه وحدَه مرجع الثقة بهم فالجمهورية رياسية، وإذا كان مرجع الثقة بوزرائه إلى ممثلي الأمة فالجمهورية برلمانية.

ومن أنعمَ النظر في كتاب الله تعالى وفي الصحاح من سنن رسوله يتبيَّن أنه لا يوجد نص في القرآن ولا في السنة على أن يكون أمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرد معين أو لأفراد أسرة معينة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف على المسلمين فرداً معيناً، ولا واحداً من أسرة معينة، فسكوت النصوص عن التصريح أو الإشارة إلى من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عن استخلاف أحد دليلان على أنَّ أمر المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس حقاً لمعيَّن، وإنما هو موكول إلى الأمَّة تختار له من تشاء من أكفأ رجالها، وهذا هو النظام الجمهوري.

ولما اجتمع المسلمون في سَقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لانتخاب من يخلفه في تولي أمر المسلمين دعا بعضُ الأنصار إلى مُبايعة سعدِ بنِ عُبادة زعيم الخزرج، ودعا بعضُ الأنصار إلى أن يكون من المهاجرين أمير ومن الأنصار أمير، ودعا أبو بكر إلى مُبايعة قرشي، لأنه إذا بويع أوسي نفسته عليهم الخزرج، وإذا بويع خزرجي نفسته عليهم الأوس، والعرب لا تَدين إلا لقريش بالرياسة.

وهذه الآراء التي تبودلت في سقيفة بني ساعدة دليل على أنَّ المسلمين يَدينون بأنَّ انتخاب الرئيس الأعلى حق لهم وأنهم يَنتخبون الأصلح أيَّاً كان، وهذا هو النظام الجمهوري.

وقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فضلَ لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) وقال لبني هاشم: (يا بني هاشم لا يجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب).

فهذه الآيات والأحاديث صريحة في أنَّ الفضل بالتقوى والعمل والبلاء، لا بالنسب، وأنَّ الاختيار لمهامِّ الأمور يجب أن يكون للأكفأ الأصلح أيَّاً كان نسبه، وهذا هو النظام الجمهوري.

وقد روى بعض الرواة أنَّه توجد أحاديث تدلُّ على أن الرياسة العليا في المسلمين حق لأفراد أسرة معينة وهي قريش، منها حديث: (الأئمة من قريش) وحديث: (قدِّمُوا قريشاً ولا تتقدموها) وحديث: (لا يزالُ أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش).

وهذه الأحاديث موضع بحث ونظر من وجوه عِدَّة:

أولها: أنَّها تُعارض الآيات الصريحة والأحاديث المتضافرة التي دلَّت على أنَّ الإسلام لا يعتدُّ بالأنساب، وإنما يعتدُّ بالأعمال، وتعارض ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته من المساواة بين صحابته وعدم التفريق بينهم إلا بالعمل والبلاء، فبلال الحبشي من خير أصحابه، وسلمان الفارسي من أفضل قُوَّاده، وما ميَّز والياً بولاية، ولا اختار عاملاً لعمل بناءً على أنَّه قرشي أو هاشمي.

وثانيها: أنه لو كان حديث من هذه الأحاديث صحيحاً لاشتهر واستفاض، لأنه مُرتبط بأهم أمر من أمور المسلمين وهو الرياسة العليا في الدولة، وما خفي على من كان في سقيفة بني ساعدة من الأنصار والمهاجرين، وأبو بكر رضي الله عنه لما حاجَّ الأنصار لم يقم الحجة عليهم بنص من الدين، وإنما أقامَ الحجَّة عليهم بوجه من النظر الصحيح إذ قال: (إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج، وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس، ولا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش). ولفظ الأئمة ولفظ اثنا عشر تشعران بأنَّ هذه الأحاديث وليدة انقسام المسلمين إلى سنيين وشيعة، واعتزاز الشيعة بأنهم الإمامية والاثنا عشرية.

وثالثها: أنَّ القرشيَّة إذا كانت مقصودة لذاتها فهي غير معقولة في معناها ولا حكمة لها، لأنَّ الرياسة العُليا في الدولة تعتمد على توافر العدالة والعلم والرأي وسلامة القوى العقليَّة والحسيَّة، لا على النسب وحراسة الدين، وسياسة الدنيا تكون من الأكفاء القادرين أيَّاً كان نسبهم.

وإذا كانت القرشيَّة مقصودة لما كان لقريش من المنعة والقوة والعصبية، وأنَّ العرب لا تنفس عليهم ولا تدين إلا لهم، فمعنى هذا أنَّه شرط زمني غير مطرد، ولهذا قال ابن خلدون في مقدمته: (فإذا ثبت أنَّ اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغَلب، وعلمنا أنَّ الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أنَّ ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية، فاشترطنا في القائم بأمر المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية عالية، ليستتبعوا من سواهم وتجمع الكلمة على حسن الحماية. 

فالحقُّ الذي تدلُّ عليه الدلائل الواضحة، أنَّ الرياسة العُليا في الدولة الإسلامية ليست حقاً لأفراد أسرة معينة، لا قريش ولا غيرها، وإنما هي لمن يختاره ممثلو الأمة من أولي الحلِّ والعقد فيها، فمن اختاره ممثلو الأمة من الأكْفَاء القادرين وبايعوه بهذه الرياسة تولى أمر الدولة الإسلامية بهذه المبايعة، وهذا الاختيار أيَّاً كان نسبه، وهذا هو النظام الجمهوري.

وقد ذكر بعض العلماء أنَّ الرياسة العُليا كما تكون حقاً لمن بايعه أولو الحل والعقد، تكون حقاً لمن استخلفه سلفه، وهذا قول خاطئ، لأنَّ الاستخلاف ليس إلا ترشيحاً من السلف للخلف، والمستخلف إن لم يبايعه ممثلو الأمَّة لا تكون له الرياسة، فالعمدة على بيعة أهل الحلِّ والعقد لا على ترشيح السلف واستخلافه، ولو أنَّ المسلمين رأوا بعد وفاة أبي بكر أن يبايعوا غيرَ عمر بن الخطاب لبايعوه، وما كان عهد أبي بكر حجَّة عليهم، وكذلك لو بايع المسلمون واحداً غير الستة الذين جعل عمر رضي الله عنه إلى الستة حجَّة عليهم، والاستخلاف من السلف للخلف ليس إلا مجرد ترشيح لمن يخلفه، والأمة بعد ذلك صاحبة القول الفصل ممثلة في أولي الحل والعقد فيها، وإذا كانت البيعة قد جعلها بعض الخلفاء صورية وكان منهم من يتم المبايعة لخلفه في حياته، وكان منهم من يتمها إكراهاً عليها في صورة مُبايعة اختياريَّة، فهذا عبثٌ بتنفيذ النظام، وهو لا يقدح في النظام نفسه، وإنما يقدح في العابثين.

وقد قرَّر علماء الإسلام أنَّ الرئيس الأعلى في الدولة الإسلامية كما أنه يستمد سلطانه وولايته من الأمَّة في بدء رياسته يعتمد في بقاء سلطانه على ثقتهم به وقيامه بواجبات رياسته، وقرَّروا أنَّ الأمة ممثلة في وليها لهم عزل الرئيس الأعلى إذا توافرت الأسباب الموجبة لعزله، وعلَّلوا هذا بأنَّ من يملك التولية ليستقيم الأمر يملك العزل حين اعوجاجه.

وهذا الذي قرَّروه صريح في أنَّ الأمة إليها المرجع في اختيار الرئيس الأعلى وفي بقائه، وصريح في أنَّ الرئيس الأعلى مسؤول أمام الأمة، وبقاؤه في رياسته مُرتبط بثقة الأمة به، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له بعد أن بويع بالخلافة: (أيها الناس قد وُليت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدفت فقَوِّموني) وقال في خاتمتها: (أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) وعمر رضي الله عنه بعد أن بُويع بالخلافة قال في خطبة له: (من رأى منك اعوجاجاً فليقومه) فقال له أعرابي: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفناً.

ومما قدمته يتبين أنَّ الرياسة العُليا في الدولة الإسلامية ليست حقاً لفرد أو أسرة معيَّنة، وإنما هي حق لمن تختاره الأمة من رجالها، وأنَّ اختيار الرئيس الأعلى لا يكون باستخلاف، ولا بولاية عهد، ولا بالتوارث، وإنما هو بمبايعة أهل الحل والعقد مبايعة اختيارية حقيقية لا صورية، وأنَّ ممثلي الأمة عليهم أن يكونوا عيوناً ساهرة على الرئيس الأعلى فيها لكفالة قيامه بواجباته في الحدود التي حدَّها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا لا يختلف عن النظام الجمهوري المعروف الآن إلا في شيء واحد، وهو أنَّ التشريع في النظام الجمهوري الحاضر غير مُقيَّد بتشريع إلهي، وأما في الحكومة الإسلامية فتشريع القوانين والنظم فيها مقيَّد بأن لا يخالف ما شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل الوقائع والحوادث التي شرع الله تعالى لها أحكاماً في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فالدولة مقيدة فيها بما شرعه الله تعالى وليس لها أن تخرج عنه، وأما ما لم يشرع فيه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم حكماً فللدولة بواسطة أولي الأمر فيها أن تشرع فيه ما يحقق مصالحها مُستضيئة في تشريعها بنور ما شرعه الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فالدولة الإسلامية لها دستور إلهي قرَّر دعائم الحكم وأصول الأحكام، وعلى الدولة أن تبني نظام حكمها على الدعائم التي قرَّرها هذا الدستور، وأن نشرع قوانينها ونظمها على أصول الأحكام التي شرعها هذا الدستور، وإذا كان الإسلامُ قد أوجب أن يكون أمر المسلمين العام شورى بين حُكَّامهم وبينهم، وأوجب أن يكون هذا الرئيس الأعلى في الحكومة الإسلامية بانتخاب ممثلي الأمة ومبايعتهم، وأوجب أن يكون هذا الرئيس الأعلى مسؤولاً أمام الأمة ولهم حق عزله إن اعوجَّ ولم يطع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم بواجبه.

أقول: إذا كان الإسلام قد قرَّر هذا وأوجبه فهو يوجب أن يكون في الدولة الإسلاميَّة جماعة من أولي الحل والعقد فيها يمثلون الأمَّة، وينوبون عنها، ويستشيرهم الرئيس الأعلى في الأمور العامَّة، ويتبادل معهم الرأي والنظر في تدبير شؤون الأمة، ويختارون للرياسة العُليا من يرون فيه الكفاءة والكفاية، ويُراقبون سياسة الأمة ونظم حكمها، وهذه الجماعة هي التي قصدها الله سبحانه بقوله: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}. وليست وظيفة هذه الأمة قاصرة على دعوة الأفراد بعضهم بعضاً إلى الخير وتآمر الأفراد بالمعروف وتناهيهم عن المنكر، إنَّ لله تعالى حكمة في أن أمر بأن تكون في المسلمين أمة، أي: جماعة لها قوتها، ولها شأنها تستطيع بقوتها وشأنها أن تؤدي وظيفة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في قوة مستمدة من قوتها، وفي صفة مستمدة من شأنها وصفتها فلا تخشى في الحق أية قوة، ولا يذهب صوتها صيحة في واد، إنَّ أول وظيفة لهذه الأمة أن ترتبط بحكمها وحكامها، فأهم ميدان للدعوة على الخير ميدان السياسة العامَّة للأمَّة وتدبير شؤونها وتحقيق مصالحها، وأول ميدان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ميدان العدل والظلم في سياسة الأمة، ولا معروف أعرف من العدل، ولا منكر أنكر من الظلم.

ولو أنصف المسلمون ونفَّذوا نظم الإسلام روحها ومعقولها لاختاروا في كل عهد من بيئتهم من أولي الحلِّ والعقد فيهم، ليشرفوا على حكامها، وليكونوا مرجعاً لهم في تشريعهم، وليكونوا دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وناصحين للراعي والرعية. 

قال الأستاذ الإمام عليه رحمة الله تعالى: (إنَّ الإسلام أوجب النصح والشورى، والنصح والشورى لا يتمان إلا بقيام فئة خاصة من الناس تشاور وتناصح، إذ ليس في وسع جمهور الأمَّة القيام بهما، وإذا كان الواجب المفروض على الحكام والمحكومين لا يتم إلا بوجود هذه الفئة، كان تخصص فريق من الأمة لهذا العمل واجباً، عملاً بالأصل المتفق عليه: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، المجلد السابع، ذو القعدة 1372، يوليو 1953).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين