الحكومة الإسلامية جمهورية نيابية دستورية (3)

 

(موازنة بين المبادئ الدستوريَّة في الإسلام وفي القوانين الحاضرة)

 

بيَّنتُ في المقالين بالعددين السابقين أنَّ الإسلام لم يقرِّر شكلاً مُعيناً يجب أن يكون عليه نظام الحكومة الإسلاميَّة، وإنَّما قرَّر الأُسس الثابتة التي يجب أن يُبنى عليها نظام الحكم، والمنهاج القويم الذي يجب أن يسير عليه، والمثل الأعلى الذي يجب أن يستهدفه، وترَكَ لكل أمَّة إسلاميَّة أن يقيم أولوا الأمر فيها على هذه الأسس نظام الحكم الذي يُلائم حالهم ويحقق مصالحهم، ويُقيم العدل فيهم، لأنَّ شكل النظام مما يختلف باختلاف الأحوال والبيئات.

ولكن أكثر الحكومات الإسلاميَّة ما اهتدت بهذا الهدي السديد، ولا عملت على تحقيق هذه الحكمة البالغة، ولا اختارت من أفراد الأمَّة أهلِ الحل والعقد الذين ينظرون في شؤونها، ويعملون لتحقيق مصالحها الاجتماعيَّة وطوارئها الدنيويَّة، ويسايرون الأزمان والأحوال في نظمها الدستوريَّة وغير الدستوريَّة.

وبهذا التقصير والإهمال كانت الحكومات الإسلاميَّة إما حكومة ملكيَّة استبداديَّة ليست فيها شورى ولا مسؤولية وهي في كل شؤونها قاعدة عن مُسايرة الأمم الراقية، تحسب التأخر تديناً والجمود محافظة، وإما حكومة تقليديَّة تحسب أنَّ الرقي في غير النظم الإسلاميَّة، وأنَّ وسيلة النهوض أن تأخذ عن الدول الأجنبيَّة، وبهذا صارت عالةً على غيرها في قانونها الأساسي، وفي قوانينها الفرعية.

وهذه الحكومات صوَّرت النظرة الإسلاميَّة بصورة مشوَّهة، وجعلت كثيرين ممن لا يعرفون حقيقة الإسلام يظنُّون أنَّ المبادئ الدستوريَّة العادلة هي وليدة القوانين الأساسية الحاضرة، وأنَّ الإسلام لم يقرِّر هذه المبادئ.

لهذا أحببتُ أن أورد في هذا المقال أهم ما وصلت إليه القوانين الدستورية الحاضرة من المبادئ، وأوازن بينها وبين ما قرَّره الإسلام بشأنها.

-1-

من أرقى المبادئ الدستوريَّة في القوانين الحاضرة – الأمَّة مصدر السلطات في الدولة – 

والمراد بهذا: أنَّ الأمَّة بواسطة نُوَّابها تضع قوانين الدولة، فهي مصدر التشريع، وهذه القوانين هي التي يطبقها رجال القضاء، وينَفِّذُها رجالُ التنفيذ فالأمَّة مصدر السلطات كلها.

أما في الإسلام فمصدر السلطات في الحكومة الإسلاميَّة بيَّنه الله تعالى بقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] {النساء:59}.

والمراد بهذا أن مصدر القوانين في الدولة الإسلاميَّة هو القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وما لم يردْ فيه قرآن ولا سُنة فمصدر القوانين فيه الأمَّة بواسطة أولي الأمر منها، أي: أنَّ أولي الأمر من المسلمين هم الذين يَسُنُّون القوانين فيما لم يَرد فيه قرآن ولا سُنَّة من مصالح الدولة وشؤونها، وأولو الأمر من الأمَّة هم أهل الحل والعقد فيها الذين ترجع إليهم أفراد الأمَّة ويعتبر رأيهم رأي الأمَّة.

قال الأستاذ محمد عبده رحمه الله تعالى: (إني فكَّرتُ في المراد بأولي الأمر من زمن بعيد فانتهى بي الفكر إلى أنَّ المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامَّة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يُطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا منا، وأن لا يخالفوا أمرَ الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي عُرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما اتفقوا عليه من المصالح العامَّة التي لهم سلطان النظر والبحث فيها، فلا هو من العقائد ولا من العبادات).

ويؤيد ما ذهب إليه الأستاذ الإمام أنَّ (أولي الأمر) معناها: أصحاب الشأن، والمراد: الشأن العام للأمَّة، وهو لا يخصُّ العلماء فقط، أو الأمراء فقط، فكل شأن من شؤون الأمَّة له رجال يرجع إليهم فيه، وجماعة هؤلاء الرجال هم أولو الشأن العام للأمَّة.

فالفرقُ بين مصدر السلطات في الحكومات الدستورية، ومصدر السلطات في الحكومة الدستورية الإسلاميَّة، أنَّ الحكومة الإسلاميَّة لها قانون أساسي شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يجب أن يُطاع، وليس للأمَّة أن تخالفه، وما لم يشرع فيه الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم فمصدر التقنين فيه للأمَّة بواسطة أولي الأمر منها.

والمنصف يؤمن بأنَّ النظام الإسلاميَّ في هذا أسدُّ وأحكم، وأبعد عن الاختلاف والشطط؛ لأنَّ التقنين الذي له أساس من تقنين الله تعالى وأحكامه أقربه إلى العدالة.

- 2 – 

من أرقى المبادئ الدستورية في القوانين الحاضرة: خير النظم في الحكم النظام الجمهوري القائم على المبادئ الديمقراطية.

والمراد بهذا: أنَّ خير النظم في الحكم: النظام الذي تكون رياسة الدولة فيه لمن تختاره الأمَّة من أي رجالها، ولا تكون رياسة الدولة فيه بالوراثة، ويكون قائماً على المبادئ الديمقراطية، وهي المبادئ التي تَقتضي أن تكون أفرادُ الأمَّة شركاء في تدبير سياستهم العامَّة.

ومن الحقِّ أنَّ الإسلام سبقَ إلى تقرير هذا النظام الجمهوري، وقد بيَّنا أنَّ القرآن الكريم والسنة الصحيحة لم يردْ فيهما نصٌّ على أنَّ رياسة الدولة حق لأفراد مُعينين أو لأسرة مُعيَّنة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلفْ أحداً بعده لرياسة الدولة، وأن المسلمين لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لانتخاب من يخلفه كانت أقوالهم واتجاهاتهم صريحة في أنَّ أمر الرياسة العليا لمن يختارونه من خيرهم وأكفئهم، وليس الأمر وراثياً ولا خاصاً بأسرة مُعيَّنة.. 

والإسلام لم يترك لرئيس الجمهورية الإسلاميَّة بعد اختياره الحرية المطلقة في الاستئثار بتدبير شؤون الأمَّة، بل أوجب عليه أن يشاور الأمَّة في الأمر، وأوجب على الأمَّة أن يكونوا رقباء على رئيس الجمهورية، يدعونه إلى الخير، ويأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، وأوجب على كل من يحكم بين الناس أن يكون حكمه بالعدل.

فالمنصف يؤمن بأنَّ الإسلام في نظام الحكم ما قصُر عن أرقى ما قرَّرته الحكومات الحاضرة، وأنَّه أقرَّ النظام الجمهوري القائم على الشورى والعدل والمسؤولية.

- 3 – 

من أرقى المبادئ الدستورية في القوانين الحاضرة: نُوَّاب الأمَّة هم الذين يسنون قوانينها، ويشرفون على من ينفذونها.

والمراد بهذا: أن تكون مُشاركة في تدبير سياستها العامَّة بواسطة نواب يمثلونها وتكون الرياسة العُليا في الدولة مسؤولة أمامهم، لأنَّهم هم الأمَّة.

وهذا النظام النيابي هو ما تقتضيه الأصول الدستوريَّة التي قرَّرها الإسلام، وإنَّ الإسلام وصف المسلمين بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وأمر الرئيس الأعلى في الدولة أن يُشاور الأمَّة في الأمر، وأوجب على الأمَّة أن تسأل الرئيس عن سياسته، ومُشاورةُ الرئيس لا يمكن أن تكون لجميع أفراد الأمَّة، وسؤاله ومحاسبته لا يمكن أن تكون من جميع أفراد الأمَّة، فتعين أن تختار الأمَّة من أهل الحل والعقد فيها جماعة يمثلونها، ويكون رأيهم كرأي مجموع أفرادها، يستشيرهم الرئيس الأعلى في شؤونها، ويسألون الرئيس الأعلى ويحاسبونه.

ولعلَّ هذه الجماعة هي المرادة من قوله تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.

قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: (إنَّ الشورى والنصح لا يتمَّان إلا بقيام فئة خاصة من الناس تشاور وتناصح، إذ ليس في وسع جمهور الأمَّة القيام بهما، وإذا كان ذلك الواجب المفروض على الحكام والمحكومين لا يتمُّ إلا بوجود هذه الفئة كان تخصص فريق من الأمَّة لهذا العمل واجباً عملاً بالأصل المتفق عليه: (ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب).

- 4 – 

من أرقى المبادئ الدستوريَّة في القوانين الحاضرة: كفالة حقوق الأفراد والمساواة بينهم في الحقوق المدنيَّة والسياسيَّة.

والإسلام كفل حقوق الأفراد والمساواة بينهم بأنواع عِدَّة من الكفالات، وقضى على أنواع من المظالم كانت نظماً سائدة في الناس.

كفل الإسلام حريَّة الفرد الذاتية، فحرَّم أن يُعتدى على أي فرد بنوع من العدوان، ومنع أن يُعاقب أي فرد إلا على جريمة ارتكبها، ودرأ الحدود بالشبهات، وقرَّر أنَّ الأصل في الإنسان البراءة، وأمَّن الفرد على نفسه، وكل عضو من أعضائه بإيجاب القصاص في النفس وفي الأطراف، وبما شرعه من تحريم الاعتداء والظلم.

وكفل الإسلام حريَّة الملكيَّة، فحرَّم أن يُؤخذ من مالك ما يملكه بغير رضاه، وحرَّم أن يعتدي أحدٌ على ملك غيره، وأوجب قطع يد من يسرق مال غيره، وتعزير من يغصبه أو ينهبه، وكل ما شرطه لصحة المبايعات والمبادلات والتجارات إنما هو لكفالة حق الملكية، وتأمين المالك على ما يملكه.

وكفل حرية المأوى، فلكل إنسان أن يُقيم في أي بلد، وفي أي مكان من بلد، ولا يُباح أن يفتح مسكن أحد بدون إذنه، قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] {النور:27-28}.

وكفل حرية الاعتقاد، فجعل أساس تكوين العقيدة التفكر والنظر في ملكوت السموات والأرض، ونفى أن يكون الإيمان عن إكراه، قال الله تعالى: [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256}. وقال سبحانه: [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {يونس:99}.

وكَفِلَ لغير المسلمين في بلاد الإسلام حرية إقامة شعائر دينهم واتباع أحكامه، وقرَّر أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم ما داموا لا يُعادون المسلمين ولا ينصرون عليهم عدوَّهم.

وكفل المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات حتى صارت المساواة من شعائر الإسلام، فالإسلام لم يفرِّق بين فرد وفرد في التمتُّع بالحقوق، ولا في الخضوع للقانون، وفي العبادات والمعاملات والعقوبات الناس سواسية. 

ولا يوجد فردٌ فوق القانون، ولا يمتاز فردٌ لنسبه أو حسبه أو جنسيته، وإنما الامتياز بالفضل والكفاءة، وقد قال الله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود، ولا لعربي على عجمي)، وفي خطبته في حجَّة الوداع: (أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب)، وكان الذميون والمعاهدون يستظلون في بلاد الإسلام بنعمة هذه المساواة.

ومن بحث في الإسلام بروح الإنصاف مُستقياً نظمه من منابعه الأصلية يتبين أنَّ الإسلام كله خير وعدل ورحمة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع، المجلد السابع، ذو الحجة 1372 أغسطس 1953).

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين