الدعاة ومعادلة المداراة والمداهنة

 

في كثير من الأحيان يحدث خلط كبير، بين مفهومي المداراة والمداهنة، فلا يميز بعض الناس بينهما، ولا يقبلون إثبات أي فروق بينهما، فالمداراة هي المداهنة، والمداهنة هي المداراة، فهما وجهان لعملة واحدة، وكلاهما – برأي هؤلاء – مصيبة على دين المرء، وسبب من أسباب تأخر العمل الإسلامي، في بعض البلدان، لأن بعض الدعاة، وقادة العمل الإسلامي، في ذلك البلد، يمارسون التفريق بين المصطلحين، من خلال تصرفاتهم وأعمالهم، وكتاباتهم وأقوالهم، وهذا خطر، ونجني نتيجة ذلك، ما نجني من مصائب وويلات وكوارث. هذا طبعاً رأي هذا الفريق من الناس.

ويريد هذا الفريق الذي يرى أن اللفظين مترادفان، وكل لفظ أخبث من الآخر، مبررين ذلك، بضرورة صراحة المؤمن، وهذا أمر واجب، وبعدم تلونه وهذا من لازمات صدق المسلم، وأن يكون ظاهره كباطنه، وهذا حق لا مرية فيه، ولا نقاش حول أصل فكرته، ويصل الأمر ببعضهم، أن يتبنى قاعدة أن يقال للأعور : أنت أعور بعينك، كما يقول العامة من الناس.

كما أن المؤمن شجاع، لا يخشى في الله لومة لائم، فلم المداراة، ولم نفلسف الأمور فلسفة غير صحيحة، تبريراً لعجزنا، والتماس العذر لضعفنا وخورنا وجبننا، هكذا يرى هذا الفريق من الناس.

فهل هذا الموقف صحيح ؟ وهل تؤيده الأدلة الشرعية، والاستشهادات النقلية؟ وكيف تنظر البراهين العقلية، والحجاج المنطقية، لهذه المسألة ؟؟ كيف كانت سيرة رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – في هذه المسألة ؟ وبماذا أرشدنا وعلى أي شيء دلنا؟ 

وقبل البدء في مناقشة القضية، لا بد من إثبات حقيقة، لا يجوز التهاون فيها، ولا التعاطي معها بسلبية. وهي أن الفقه الصحيح، ليس من مصادره الحماسة المجردة، ولا من أصوله الأخذ بالعواطف الجياشة، ونزوات ( الفتوة ) و( الزكرتية )، والانفعالات النفسية العابرة ، لا يجوز أن تكون معياراً توزن به الأشياء. بل لا بد من نظر شرعي دقيق بعيداً عن كل ما ذكرنا، سواء وافق ما أراه أو خالفه. وفي الحديث الصحيح : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ).

بل أعتبر أن من مصائبنا، في بعض شعب العمل الإسلامي، لدى شريحة قليلة من الإخوة، تحكيم العواطف، على حساب الفقه الصحيح، وجعل العاطفة ميزاناً توزن به الأمور والمسائل. وهذا كلف الحركة الإسلامية كثيراً من التبعات، التي لا تريدها ولم تخطط لها، وحملها نصيباً لا يستهان به من المصائب، وأنزل بها بعض الكوارث.

نحترم شجاعة الشجعان، ونقدر لذوي الحماسة حماستهم، ونتفهم غيرة هذا الأخ أو ذاك. ولكن لا يجوز أن نجاريه فيما يريد، ولا نحابيه بسبب ما ذكرنا.

وكثيراً ما يحسم الأمر لدى هذا الصنف من الإخوة، بقانون صارم ( الساكت عن الحق شيطان أخرس )، في حين أن هذه المسألة تحكمها فهوم كثيرة، وفقه واسع، يلخصه الفقهاء بقولهم - في أحكام السكوت - أنه تجري عليه الأحكام الخمسة، فيكون السكوت في بعض الحالات حراماً، وفي بعضها واجب، وفي قسم منها مكروه، وفي بعض صوره مستحب، وفي حالات يكون مباحاً، وهكذا ... والأمر الواسع لا بد فيه من النظر من كل زواياه، وسائر صوره، وشموله للحدث كافة ، مع قاعدة العمل بفقه النواتج والمآلات، لأنها تعمل على وضع مؤشر للنجاح من عدمه، كما لا يجوز حصر المسألة في وجه من وجوهها المعتبرة.

ويمكن أن نحدد الموضوع من خلال المفردات التالية :

1- المداهنة : هي الرضا بالباطل، وتملق أهله، والثناء على أصحابه، أو تحسين فسادهم وضلالهم وتزيينه للناس، أو السكوت عن مواجهة الجريمة، بكل أنواعها، وسائر تفاصيلها، ومنها الجريمة السياسية، أو ما يتعلق بحقوق الناس، لدنيا صيبها الإنسان، أو كسب دنيوي، يبحث عنه، فتكون علاقة على حساب القيم، وكسباً مادياً ولو أدى هذا إلى الاعتراف بالباطل، ومصانعة للجريمة، وهذا لا يجوز قطعاً، من الناحية الشرعية، وهنا يجب على المرء المسلم، أن يكون قوالاً للحق، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولو كلفه ذلك، أن ينفصل رأسه عن جسده، وهذا لا يتنافى مع الحكمة ولين القول، لأن هذا الأمر تحكمه قاعدة : أن تعبر عن تمام المعنى، مع كمال الأدب وفقهه في هذه الساعة، من ساعات العبادة لله تعالى .

2- المداراة :  قال العلماء هي : (ملاينة الناس ومعاشرتهم بالحسنى من غير ثلم في الدين، في أي جهة من الجهات، والإغضاء عن مخالفاتهم في بعض الأحيان, والمدارة هي درء الشر المُفسد بالقول اللين وترك الغلظة أو الإعراض عنه إذا خيف أشد منه أو مقدار ما يساويه ولكن ليُعلم أن المداراة وردت في الإقبال وفي الكشر والتبسم، فأما الثناء -أي على الفاسق- بما ليس فيه فهو كذب صراح، ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يُباح الكذب بمثله، بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير، على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو مُداهن، بل ينبغي أن يُنكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه ). وقد أنشأ البخاري رحمه الله في صحيحه بابا بعنوان : ( باب المداراة مع الناس ). وجاء عن حميد بن هلال قال : أدركتُ الناس يَعُدُّون المداراة صدقة تُخرج فيما بينهم .

   وعن الحسن قال : التودد إلى الناس نصف العقل " . 

  وقال حنبل إنه سمع أبا عبد الله – أي : أحمد بن حنبل - يقول :

والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق ، وأمر بمعروف بلا غلظة ) . فالصبر على خشن ما بدر من الناس، مداراة، وتحمل ما يكون منهم، من سوء الفعال، مداراة، والتجاوز عن بعض هفواتهم، مداراة، والداعية إلى الله تعالى، وهو يعافس الحياة، ويخالط أصناف الناس، والناس أجناس، وفي وعاء نفوسهم، وفي خلايا سلوكياتهم، ما يدهش الألباب، ويحير العقول، ومنهم الأقرباء، والجيران، وزملاء العمل، يحتاجون إلى خلق المداراة، وهنا يكون الفيصل في هذا الشأن الدقيق والمهم والحساس، وهذا لا يجيده إلا من منحه الله أخلاق الربانيين . ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم ) نريد المسلم الذي يعيش في كنف الحياة، ويخالط المجتمع بما فيه، ويجتهد في بذل الوسع للوصول إلى الناس بأخلاقه ونصحه وربانيته وقدوته، لا الذي ينكفأ وينزوي، ويعيش على هامش الحياة، وهذا ما يريده أعداء الله من شياطين الإنس والجن .

سهل على المرء أن تفلت أعصابه، وأن يخرج عن طوره، فيشرق ويغرب، ويلعن المجتمع، ويسب العصاة، ويقوم ولا يقعد، ويتحرك ولا يسكن، ورب حالة غضب، وخروج عن مألوف السلوك الحسن، تعمل عملها السيء في جسم الحياة، وتكون لها آثارها السلبية على مدى لا يستهان به . ولكن الذي يضبط أعصابه، ويعض على جرحه، ولا يستسلم لعواطفه المجردة، هو المكيث الذي يرجى خيره، وهو الذي يكون شوكة في حلق أعداء هذه الدعوة . ( ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . نحن بحاجة إلى هذا الصنف الرائد القائد، اليقظ الفطن، صاحب الغيرة الإيمانية، والأعصاب الحديدية، فبمثل هؤلاء تثمر الدعوة، وتؤتي ثمارها، وعلى الداعية أن يتعامل مع الآخرين بلغة الشفقة عليهم، والرحمة بهم، وحب مساعدتهم في أن يخرجوا عن إطار ما هم فيه من بلاء وضيف، إلى فسحة طاعة الله، ودخول النعمة التي لو عرفها الملوك لجالدوا عليها أصحابها بالسيوف، فكن منقذاً، ولا تكن محبطاً، وكن مبشراً، ولا تكن منفراً .

3- الفرق بين المداراة والمداهنة : قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - :

وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغَلِطَ ؛ لأن المداراة مندوبٌ إليها ، والمداهنةَ محرَّمة ، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه ، وفسرها العلماء بأنها : معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه ، والمداراة : هي الرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله ، وتركُ الإغلاظِ عليه حيث لا يُظهِر ما هو فيه ، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك . فتح الباري " ( 10 / 528 ) .

هذا الخلط بين المداراة والمداهنة، وجعلهما في رتبة واحدة، أوقعنا في كثير من المشكلاتـ، وفوت علينا جملة من القضايا النافعات، وسلط علينا مجموعة من المفردات المهلكات، وبصراحة، شاعت في أوساطنا لغة المدح والثناء، لمن كان جافاً غليظاً حتى مع خلَص إخوانه، فضلاً عن الناس، وأبناء المجتمع، على أنه شجاع، وصريح، وقوال للحق، والذي في قلبه على لسانه، إلخ . أما الأخ الذي يداري إخوانه وأبناء مجتمعه، على ضوء فقه ما ذكرنا، فهذا ( مطبطب ) لا يواجه، سلبي إلخ . وهذا والله خطأ كبير، ( وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه )، والحكم الفصل، هو منهج التفرقة، بين المداراة والمداهنة ، وهو الفقه الصحيح . 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين