الرضاعة الصناعية سامحني يا حبيبي سأبدأ بقتلك ساعة ولادتك!

"أرفضُ أن أُرضِع طفلي من صدري، أنا لست بقرة"!

صُدِمَتْ مقدِّمةُ البرنامج في إحدى القنوات العربيّة وهي تسمع الإجابة من إحدى الفنّانات الشابّات عن سؤالٍ وجّهته إليها: هل تُرضعين طفلك بالطريقة الطبيعيّة؟

بعضنا يريد أن يتاجر مع الله، ولكنّه يمدّ يده ليتسلّم بضاعته الإلهيّة الثمينة، ثمّ يرفض بعد ذلك أن يمدّها ليدفع الثمن، مهما كان زهيداً!

إذا كان عملنا كلّه في هذه الدنيا بمثابة تجارةٍ مع الله، كما توضّحه لنا الآيات، فجديرٌ بنا أن نكون صادقين مع من نتاجر معه أكثر منّا مع أيّة جهةٍ أخرى.

كانت هذه الشابّة تحلم بأن ترزقها السماء بطفلٍ، وصدقت معها السماء، ولكنْ لم تَصدق هي مع السماء، على الأقلّ من أجل الحفاظ على طفلها، ومن أجل سلامته من كلّ أذىً في رحلته القادمة في هذه الدنيا، طالت أو قصرت، وهي الرحلة المحفوفة بالمفاجآت، وبالمنعطفات الخطرة، والحوادث، والأمراض التي تحيط بنا من كلّ جهة، وفي أيّ وقت!

إنّها تصرّ على أن تحرمه من مدّ شفتيه الصغيرتين لتناولِ طبقه الإلهيّ الخاصّ الذي أعدّته له السماء في صدرها، تبعاً للاتّفاقيّة "السماويّة-الأرضيّة" الموقّعة منذ الأزل، ليَنعم بتناوله بدءاً من ساعة ولادته!

"أنا لست بقرة"! أيّة تجارةٍ مؤدّبةٍ مع الله؟ أهذا هو الثمن الذي تدفعينه لتنالي من الله شهادة الأمومة؟ وبمثل هذا تكون درجة تضحيتك من أجل الحفاظ على الجوهرة الثمينة التي ألححتِ بطلبها، فأهداها إليك من سألتِه؟

كان الأجدر أن يكون لنا في البقرة، تلك التي تحتقرها الأمّ الشابّة وتأنف من أن تتصرّف مثلها، بل أن يكون لنا في مشاعر كلّ أمٍّ من هذه الحيوانات الأليفة حولنا، نموذجٌ حيٌّ لمشاعر الأمومة الفطريّة التي زرعها الله في نفس الأنثى، أيّاً كان جنسها، للتضحية من أجل الحفاظ على طفلها، بل من أجل الحفاظ على نفسها وصحّتها هي أيضاً، الجسديّة، والعقليّة، والنفسيّة، والعاطفيّة.

إنّ صحّتنا، نحن البشر، مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بهذا التدريب "الأموميّ" المتكرّر الذي تمارسه الوالدة مع مولودها الجديد، بدءاً من ضمّه إلى حضنها، وإسناد رأسه إلى صدرها، وانتهاءً بتلقيمه حَلمتها، ليستمتع بوجبته السماويّة الخاصّة جدّاً، والمُعَدّة تَخِصّةً له بعنايةٍ إلهيّةٍ فائقة، ليتناولها بدفءٍ وفرحٍ واستسلامٍ وأمان.

إنّها عمليّةٌ متبادلةٌ عجيبةٌ بين الطفل وأمّه. فهي تكتسب بها من دفئه، بقدر ما تعطيه منه، وتنال من السعادة والطمأنينة والارتياح والرضا؛ تماماً بقدر ما تمنحه من كلّ ذلك.

وهو يشعر في حضنها بأنّه يعود إلى مهده الأوّل في هذه الحياة: الرحِم، هناك حيث تكوّن كمخلوقٍ لأوّل مرّةٍ، وانبعثت فيه الحياة على صوت نبضات قلب أمّه، وعلى الاستمتاع بدفء رحِمها، ولينه، وإحاطته به، وحمايته له، فينعكس ذلك انعكاساً مُحْيِياً رائعاً على صحة الطفل، وكذلك على صحّة الأمّ بكلّ أبعادها.

فهل تستطيع تلك الرضّاعة البلاستيكيّة الصمّاء أن تحقّق للطفل، أو لأمّه، أيّ شيءٍ من تلك الخدمات الإلهيّة الخاصّة والمميّزة، وأن تبني مثل تلك العلاقة الإنسانيّة النادرة بين شريكين؟

تميل التقديرات في الغرب، يتبعه الشرق كالعادة، إلى أنّ واحدةً فقط من كلّ ثلاث أمّهاتٍ هناك تلتزم بالرضاعة الطبيعيّة، رغم أنّهنّ يحفظن الحكمة الطبّية الإنكليزيّة السائرة: “breast is best” (الصدر هو الأفضل).

فكيف لو دخلنا إلى التفاصيل، وتفحّصنا في المخابر، دراسةً وتحليلاً، طبيعة هذه الوجبة التي أعدّتها السماء في صدر الأمّ، مقارنةً بتلك الوجبة الصناعيّة الدخيلة التي كانت قد اختَصّت السماءُ بمكوّناتها، أصلاً، مخلوقاً آخر غير بشريٍّ، هو البقرة الصغيرة، وذلك قبل أن تحوّلها أيدينا المتطفّلة، والأنانيّة والمؤذية، عن طبيعتها السماويّة؛ إلى مسحوقٍ جافٍّ لم يحتفظ إلّا بالنزر اليسير من مواصفاته الإلهيّة الأصليّة المتفوّقة؟

لنَقُمْ برحلةٍ قصيرةٍ مع هذه المقتطفات من كتاب (التربية الوالديّة)، مع بعض التصرّف، لنعرف المزيد من أسرار هذه الوجبة الطبيعيّة التي أُعدّت تكريماً، وخدمةً، واحتفاءً، وحفاظاً على مولودنا البشريّ الصغير:

"في هذه المرحلة (مرحلة الرضاعة) يتمّ بناء العناصر المهمّة للشخصيّة، لتكون النتيجة طفلاً سليماً معافىً بدنيّاً وعاطفيّاً. ويتمّ تشكيل مراكز الدماغ للطفل، والترابط الدماغيّ، وشبكات الدماغ، وهي تريليونات التريليونات من الخلايا العصبيّة، في مرحلة الطفولة. ويبدأ بناء عناصر الشجاعة، والإبداع، والحبّ، والصدق، والأمانة، والميول، واللغة، والمنطق، خلال هذه المرحلة. وتَنقُل الأمّهات إلى أطفالهنّ، بالرضاعة، مزايا عاطفيّةً ضخمة، بالإضافة إلى المزايا الطبّية التي لا تُحصَى لحليبهنّ الطبيعي..

ويحثّ الإسلام في موضوع الرضاعة الطبيعيّة على علاقة القربى التي تنشأ بين الأطفال الذين رضعوا من أمٍّ واحدة (وتسمَّى القرابة بالرضاعة، ويسمَّى الأطفال: الأشقّاء بالرضاعة).

لماذا لا يمكن لصلاح، مثلاً، الذي يبلغ من العمر 20 سنةً، من تركيا، الزواجُ بفاطمة، الشابّة من إندونيسيا؟ الجواب: عندما كان عُمُر صلاحٍ سنة؛ رَضع لبضعة أيّامٍ مِن أمّ فاطمة، فجعلت هذه الرضاعةُ مِن صلاحٍ شقيقاً لفاطمة بالرضاعة، ومن ثمّ، أصبح محرَّماً على صلاحٍ الزواجُ من فاطمة. بالإضافة إلى ذلك، إنّ جميع شقيقات فاطمة وعمّاتها وخالاتها أصبحن تلقائيّاً شقيقاتِ صلاحٍ وعمّاته وخالاته بالرضاعة، وبالتالي يَحْرُم على صلاحٍ الزواجُ بهنّ، لأنّهنّ أصبحن مِن محارم صلاح. لذلك يجوز لهنّ جميعهنّ ألّا يَلبسن الحجاب بحضوره.

من السهل علينا أن نفهم علاقات الدم، وكذلك علاقات الأخوّة في الإيمان، ولكن كيف يمكننا أن نفهم أنّه برضاعة ليترٍ من الحليب يتحوّل شخصٌ ما؛ مِن غريبٍ إلى أخٍ أو أخت؟ هذا مثالٌ من الأمثلة التي توضّح جانباً من أهمّية حليب الأم.

أنعِمِ النظر في موضوع نقل الدم. لو استُبدل دمُ شخصٍ ما بدمِ شخصٍ آخر؛ فلا تنشأ بينهما علاقة قربَى، حتّى لو تكرّر نقل الدم مرّاتٍ عدّة. إنّ نقل الدم يسدّ حاجةً ضروريّة، كذلك يُسهم زرعُ الأعضاء في تحسين حياتنا، ولكنْ كلا الأمرين لا يؤدّي إلى أيّة علاقةِ قرابة، مهما تكرّر فعلُ ذلك أو كانت كثافته.

ويُجمع الفقهاء على تحريم وجود مصارف أو بنوكٍ للحليب (البشريّ) في الإسلام. ويضع الإسلام قَرابة الرضاعة على قدم المساواة مع القرابة الأسَرِيّة البيولوجيّة.

تُبنى عظام الطفل ولحمه من حليب الأمّ في مرحلة الطفولة، ويتشابه كلّ من يَرضع من هذا الحليب. وبعبارةٍ أخرى، تصبح مكوِّناتٌ من الأمّ هي نفسها مكوِّناتٍ من الطفل بسبب رضاعته من حليبها عندما كان عمره أقلّ من سنتين. ووفقاً للقواعد الأساسيّة للرضاعة الطبيعيّة؛ تتبيّن لنا الحقائق التالية:

• الرضاعة الطبيعيّة تغيّر سمات الطفل وخصائله. فقد مَنع بعض الفقهاء، على سبيل المثال، المرضعة المضطربة عقليّاً من الإرضاع، لئلّا يكتسب الطفل الذي تُرضعه هذه الصفة منها.

• لا يُنصح بأن تقوم النساء اللاتي يدخّنّ، أو يأكلن لحم الخنزير، أو يشربن الكحول، أو يتعاطين المخدّرات، بإرضاع الأطفال.

• يجب على مرتكِبات الكبائر من الذنوب، مثل الزنى، ألّا يُرضعن الأطفال.

• هناك قولٌ عربيٌّ مأثورٌ من أيّام الجاهلية يقول: إنّ حليب الأمّ من الرجل، لذلك عندما يشرب الطفل الحليب من مُرضعته، فإنّ الحيوانات المنويّة لزوجها تؤثّر في حليبها بطريقةٍ ما. لذلك؛ فإنّ الطفل حين يرضع من غير أمّه الطبيعيّة يتأثّر تأثّراً غير مباشر بزوجها أيضاً، وتنشأ بينهما علاقة القرابة..

ويجب توفُّر خمسة شروط معاً من أجل أن يكون الإرضاع سبباً في القرابة من الرضاعة، وهي الشروط المعتمدة في المحاكم في مصر، وهي:

-      خمس رضعاتٍ فأكثر.

-      يجب أن تكون كلّ رضعةٍ مُشبِعةً للطفل.

-      يجب أن تكون الرضعات متفرّقاتٍ وليست متتابعات.

-      يجب إثبات الرضعات الخمس بشهادة شهودٍ عُدول.

-      يجب أن تكتمل جميع الرضعات الخمس قبل أن يبلغ الطفل السنتين.

ولا يمكن لزجاجة الرضاعة البلاستيكيّة التي تحوي الحليب الصناعيّ (formula) أن تكون بديلاً لصدر الأمّ الحنون وحبّها. وقد يكون من الصعب شفاءُ الضرر الجسديّ والنفسيّ للطفل الذي لا يَرضَع رضاعةً طبيعيّة، وقد يسبّب ذلك له ضرراً خطيراً ودائماً.

ومن الفوائد الصحّيّة والنفسيّة للرضاعة:

• إنّ غدد الحليب في الأمّ قادرةٌ على تكييف إفرازاتها وفقاً للاحتياجات الزمنيّة المتغيّرة لنموّ الطفل.

• توجِد الرضاعة تعلُّقاً نفسياً عظيماً بين الأمّ وطفلها.

• تساعد الرضاعة الطبيعيّة الأمَّ على العودة إلى حجمها ووزنها اللذين كانت عليهما قبل الحمل. كما تعيد الرحم إلى حجمه بسبب تأثير الأوكسيتوسين الذي تفرزه الغدّة النخاميّة وتطلقه رضاعة الطفل.

• تَقي الرضاعة الطبيعيّة الطفلَ من العديد من الأمراض (مثل الإسهال والتهابات الصدر). والأطفال الذين يرضعون رضاعةً طبيعيّةً أقلُّ عرضةً للإصابة بأمراض الجهاز التنفّسي وأمراض الجهاز الهضميّ، وهم أقلّ تعرّضاً للوفاة من أولئك الذين يشربون الحليب الصناعيّ.

• يكون الطفل الذي يرضع حليب البقر أكثر عُرضةً للإصابة بالأكزيما، أو الربو القصبيّ، أو اضطرابات الجهاز الهضميّ الناجمة عن الحساسيّة للبروتينات غير البشريّة.

• إنّ الأطفال الذين يَرضعون حليب الأمّ يَنمُون نموّاً صحّياً، وهم أقلّ عرضةً للإصابة بأمراض الجهاز المناعيّ. ويقوّي حليبُ الأمّ جهازَ المناعة الذي ينمو خلال الأشهر القليلة الأولى من ولادة الطفل. كذلك تمتصّ الأمّ الجراثيم مِن تَنَفُّس الطفل، ثمّ، مِن خلال أمعائها، تُنتج له الخلايا المناعيّة في خلاياها اللمفاويّة، والتي بدورها تفرز الأجسام المضادّة التي تدافع عن الجسم. ويأخذ الطفل كلّ تلك المضادّات حين يرضع حليب أمّه.

• يحتوي حليب الأمّ على مركّبات الزنك، بينما لا تتوافر هذه المركّبات في حليب البقر، فيصبح الطفل الذي لا يَرضع مِن حليب أمّه عُرضةً لمضاعفات نقص الزنك، كذلك يتعرّض الأطفال الرضّع الذين يُفطَمون مبكّراً لهذه المضاعفات بعد الفصال.

• تتناسب نسبة الذكاء طرداً مع طول فترة الرضاعة الطبيعيّة. وقد أكّدت دراسةٌ تتبّعت حالةَ أكثر من 1000 طفلٍ في نيوزيلندا؛ الصلةَ بين الرضاعة الطبيعيّة والذكاء العالي للطفل.

• يوفّر حليب الأمّ حمايةً ضدّ الالتهابات البكتيريّة (مثل التهاب ذات السحايا، والتهابات المسالك البوليّة، وأوجاع الأذن). ويعاني الأطفال الذين لا يَرضعون حليب الأمّ معاناةً أشدّ إذا أصيبوا بمرض السكّري المعتمِد على الأنسولين، وسرطانِ الغدد الليمفاويّة، والحساسيّة، وأمراضِ الجهاز الهضميّ.

قد تقلّل الرضاعة الطبيعيّة من الإصابة بسرطان الثدي، وسرطان المَبِيض، وهشاشة العظام، والاضطرابات الأخرى التي تحدث للمرأة. كما تحفز الرضاعة الطبيعيّة الرحِمَ على العودة إلى حالته الطبيعيّة قبل الولادة.

• مُنحت جائزة اليونسيف في عام 1993 لشركةJohn Hancock  التعاونيّة للتأمين على الحياة، لتوفير غرف رضاعةٍ (تحوي مضخّةً كهربائيّةً لحليب الصدر، وكراسي مُريحةً، وثلّاجةً) داخل مبنى الشركة. وتبيّنت الشركة أنّ متوسّط عدد الموظّفات الحوامل (لدى الشركة) سنويّاً يبلغ 300 موظّفة، وأنّ البرنامج قد وفّر 60،000 دولارٍ منذ إنشائه، لأنّ الأطفال الذين يرضعون من أمّهاتهم أقلّ عرضةً للإصابة بالأمراض، ومِن ثمّ، لا تضطرّ أمّهاتهنّ إلى التغيّب عن العمل لرعايتهم بالبيت. كذلك يصبح الرجوع إلى العمل بعد الولادة أكثر سهولةً، فتَميل الأمّهات الجدد إلى أخذِ إجازةِ أمومةٍ أقصر مدّةً. كما تَغيب الأمّهات المرضعات عن العمل لمدّةٍ تصل إلى 27 % أقلّ من الأمّهات اللاتي لا يُرضعن أطفالهنّ رضاعةً طبيعيّة، لأنّ الأطفال الذين يَرضعون رضاعةً طبيعيّةً في الولايات المتحدة أقلّ معاناةً من الأمراض بنسبة 35 % من الأطفال الذين يرضعون الحليب الصناعيّ. [Rona Cohen، كلّية التمريض، جامعة كاليفورنيا - لوس أنجلوس].

• إنّ شركات أغذية الأطفال هي السبب وراء تراجع الرضاعة الطبيعيّة في البلدان النامية، فمبيعاتها وأرباحها تزداد عندما تتوقّف الأمّهات عن الرضاعة الطبيعيّة.

• تُصنِّف اليونيسيف ومنظّمةُ الصحّة العالميّة هذه الشركات بالقاتل رقم واحد للأطفال في البلدان النامية، وتشير على الحكومات بشدّةٍ لحظر الإعلانات عن أغذية الأطفال المصنّعة.

قالت إحدى الأمّهات: إنّ إرضاع الطفل أمرٌ رائع. حتّى في منتصف الليل، عندما أنظر إلى ذلك الوجه وأفكّر: أنا أعني له كلَّ شيءٍ وكلَّ شخصٍ في حياته، فكيف يمكنني ألّا أرضعه؟ إنّ الفوائد العاطفيّة للإرضاع مفيدةٌ لطفلي، ومفيدةٌ لي في الوقت نفسه".[1]

والواقع أنّ هذه الخلاصات، والتوصيات المتعدّدة للمنظّمات العالميّة، وللمصادر الطبّية، والتجارب العلميّة المختلفة، لا تخرج عن دائرة منطق السلامة الفطريّ، والتحصينيّ، الذي هيّأته السماء للمولود البشريّ، وللمولود الحيوانيّ أيضاً، بحيث تستقبله في هذه الدنيا، حال خروجه من بطن أمّه، مؤسّسةٌ مخبريّةٌ وصناعيّةٌ ضخمةٌ وكاملةٌ، ومتفوّقة الخبرة، لتؤمّن له نظاماً غذائيّاً تعجز البشريّة، بكلّ ما أوتيَتْ من مؤسّساتٍ، وإمكاناتٍ، وتجارب، ومهاراتٍ، وكشوفٍ علميّةٍ، عن توفير مثله أو الإمساك بأسراره.

هذه المؤسّسة الفريدة تُختصر كلّها في بقعةٍ صغيرةٍ محدودةٍ من الجسد الإنسانيّ، هي صدر الأمّ. 

تُرى، على ضوء إهمال نسبةٍ كثيرةٍ من أمّهاتنا هذه التوصيات والأوامر، السماويّةِ الإلهيّة منها والأرضيّة الطبّية، هل كان هذا الاستهتار أحدَ أهمّ الأسباب لضعف بنية الأجيال البشريّة المعاصرة، وارتفاع نسبة الأمراض بمختلف أنواعها بين أطفالنا، والموت المفاجئ للكثيرين منهم، شرقاً وغرباً؟

إنّ اختلاط الأنساب الذي حذّرت منه السماء مراراً، فتشدّدت لأجله على الزناة، وأمعنت في إضفاء الشكل المميّز، والمؤلم، والجماهيريّ والمفتوح أمام الناس، على عقوبة الزنى، ولا سيّما للمتزوّجين منهم:

-       وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]

هذا النوع من الاختلاط يُمارَس الآن في شكلٍ خفيّ ٍلا يندرج تحت هذه العقوبات، فيُحرَم الطفل، بأنانيّة أمّه، من حبل السرّة البديل الذي أعدّه له الخالق بعد الولادة، وهو لبن الأمّ.

ألم يكن لمعظم الأسر في عهد النبوّات نياقٌ، وبقرٌ، وأغنامٌ، وماعزٌ، تدرّ لهم أطيب الألبان وأصحّها وأنقاها؟ ولكنّنا لم نسمع عن أمٍّ سَمحت لها السماء بأن تُرضع طفلها من هذه الألبان بدلاً من حليب صدرها، ولو حدث ذلك؛ إذن لتخيّر أهل فرعون للطفل (موسى) جاموسةً مصريّةً أصيلةً لتغذيته بلبنها، ولم تكن هناك حاجةٌ لتلك المعجزة الإلهيّة بإعادته إلى أمّه لترضعه من صدرها! 

وتشير آخر الكشوف العلميّة إلى أهمّية المساعدة التي يوفّرها صوت نبضات قلب الأمّ في التخفيف من الآلام، النفسيّة والفيزيولوجيّة، للأطفال حديثي الولادة عندما تؤخذ منهم عيّنات الدم الشريانيّة وهم في غرف العناية المركّزة، بحيث توصي أحدث الدراسات بضرورة إسماع الطفل، أثناء أخذ العيّنة، تسجيلاً لصوت نبضات قلب أمّه، إذا لم يكن بالإمكان دخول الأمّ بنفسها إلى الغرفة، وذلك من أجل تخفيف الألم والمعاناة، بجانبيها النفسيّ والفيزيائيّ، عند الطفل.

وتقول الدراسة التي نشرها Forogh Sarhangi وزملاؤه الأربعة في المجلّة العلميّة الهولنديّة Journal of Neonatal Nursing، إنّ هناك المزيد من الحاجة إلى التجارب السريريّة لتقييم تأثير صوت نبضات قلب الأمّ على الباراميتر الفيزيولوجيّ والنفسيّ للأطفال حديثي الولادة، ومقارنته بأساليب الأدوية البديلة والتكميليّة الأخرى المستخدمة في وحدات العناية المركّزة.[2]

وأخيراً، ما الرسالة التي يمكن أن توجّهها عيون مثل هذه الأم المستهترة لطفلها الصغير وهي ترى وجهه لأوّل مرّةٍ بعد الولادة؟ ربّما كانت: سامحني يا طفلي العزيز، لا بدّ أن أبدأ بقتلك منذ الآن، فأنا لن أفرّط بجمال صدري، أو بعملي، أو بمرتّبي، من أجل سلامتك، وتأمين حياتك!

وتُرى، بماذا يمكن أن تجيب لو سئلتْ يوماً: إلى أيّة فصيلةٍ من الأبقار ينتسب ولدك؟

 

المصدر: صفحات من كتاب (المرأة الحائرة بين السماء والأرض) – قيد النشر -

[مختارة من الصفحات: 712-721]

 



[1]  (التربية الوالدية). وهو الترجمة العربية لكتاب Parent-Child Relations الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. د. هشام الطالب، د. عبد الحميد أبو سليمان، د. عمر الطالب The International Institute of Islamic Thought. London-Washington. 2013. الصفحات: 164-173.

[2]The effect of the mother’s heartbeat sound on physiological parameters and pain intensity after blood sampling in neonates in the intensive care unit: A randomized controlled clinical trial.  Journal of Neonatal Nursing. No. 27 (2021). PP. 123–128.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين