حالما حطّت المركبة الفضائيّة على
الأرض ذات صباح؛ اجتمع حولها أهالي القرى المحيطة بعد أن شاهدوها جميعاً في الفضاء
وهي تقترب منهم بتردّدٍ وحذرٍ شديدين.
انتَظروا في مكانهم بضع ساعاتٍ،
وعلى مسافةٍ أمنيّةٍ كافية، والدهشة والارتباك والحذر مرتسمةٌ في وجوههم جميعاً،
من غير أن يجرؤوا على الاقتراب منها.
إنّهم يستطيعون الآن أن يميّزوا
حركةً تبدو لهم خلف زجاج النافذة الصغيرة التي تتوسّط قبّةً تعلو المركبة
الفضائيّة، ولكنّ أحداً لم يخرج منها، بعد!
وبعد انتظارٍ طويلِ امتدّ إلى
المساء؛ انشقّت كوّةٌ صغيرةٌ في أسفلها، وتدلّى منها مخلوقٌ لم يروا شبيهاً له من
قبل على ظهر الأرض!
من الواضح أنّ له، أيضاً، جسماً،
ورأساً، وأنفاً، وفماً، وعينين، وأذنين، ويدين، ورِجلين، ولكنها جميعاً تختلف في
شكلها وحجمها ومواقعها عن أشكالها ومقاييسها ومواقعها في أجسادهم البشريّة!
كان المخلوق يحمل بإحدى يديه
صندوقاً غريب الشكل، ويحمل بالأخرى باقةً من الزهور الغريبة الفاتنة التي لم
يعرفوا لها، أيضاً، شبيهاً من قبل!
لقد أوجَسوا شرّاً من المخلوق
الفضائيّ، وشرعت أقدامهم تتراجع ببطءٍ وهم يشاهدونه يقترب منهم شيئاً فشيئاً، وقد
رفع باقة الزهور بيده وراح يمدّ بها إليهم وكأنّه يحاول أن يظهر لهم حسن نواياه،
ويطمئنهم إلى أنّه لا يريد شرّاً بهم!
ظلّت الأقدام تتراجع حذرةً ممّا
سيأتي، إلّا فتىً صغيراً كان بين الجموع. وقبل أن يتمكّن أبواه من الإمساك به
ومنعِه من التقدّم إلى المخلوق الفضائيّ، قفز الفتى بحماسةٍ بريئةٍ إلى الأمام،
وسار باتّجاهه حتّى وصل إليه، فما لبث المخلوق أن وضع يده على رأسه بلطفٍ، وقدّم
له باقة الزهور التي بيده، فأخذها الولد، وعاد بها حالاً ليقدّمها إلى أبويه، وهو
مزهوٌّ بما فعل!
كانت مبادرة الولد الصغير هي
الشرارة التي أذابت الجليد بين الفريقين، فتوقّفت الأقدام عن التراجع، وتابع
المخلوق تقدّمه باتّجاه الأهالي وقد شعروا بالمزيد من الثقة، وبرغبةٍ وشجاعةٍ أكثر
للاقتراب منه والاستسلام للأمر الواقع، وليكن ما يكون..
نظر المخلوق إليهم نظرةً هادئةً
ابتعثت الطمأنينة في نفوسهم، وتحرّك فمه لأوّل مرّةٍ، وراح يردّد بصوتٍ غريبٍ،
وبلغةٍ غريبة، وهو يشير بيده إلى صدره، وكأنّه يعرّفهم بنفسه وباسمه: يادود..
يادود.. يادود..
وردّد الأهالي بعده معقّبين:
يادود.. يادود.. فهزّ رأسه موافقاً وكأنّه يقول لهم: نعم، هكذا يمكن أن تنادوني:
يادود..
لم يمض وقتٌ طويل حتّى وصلت
سيّارات الجيش والأمن والإسعاف والطوارئ بعد أن تلقّوا أخبار هبوط المركبة
الفضائيّة، وجاؤوا باحثين عنها وعمّا تحمله لهم من مفاجآتٍ وغرائب.. ومخاوف..
وحين رأوا ما يجري أمامهم،
وتأكّدوا أن جميع الأهالي بسلام، وأنّهم بدأوا يتعرّفون على المخلوق الفضائيّ
بثقةٍ وطمأنينة، بدأوا يخاطبونه من بعيدٍ بمكبّرات الصوت ويسألونه عن الغرض من
زيارته للأرض!
أخرج (يادود) من صندوقه جهازاً
غريب الشكل ووجّهه نحوهم، فارتدّوا إلى الوراء مذعورين! ولكنّ المخلوق بدأ يكلّمهم
على حين كان الجهاز يُظهر لهم ترجمتها على شاشةٍ في مقدّمته وفيها هذه العبارات:
أنا باحثٌ قادمٌ من كوكب
(زونْدياغ) البعيد في مجرّة (رَزاه)، والغاية من هذه الرحلة هي أن أجري بحثاً
علميّاً عن عقائد سكّان الأرض، وسأعود أدراجي إلى كوكبي حالما أنتهي من بحثي هذا،
وآمل أن تتقبّلوني بينكم في فترة إقامتي معكم، وأن تمدّوا لي يد العون لإجراء هذه
الدراسة الاستكشافيّة الهامّة لنا ولكم.
ومرّت فترةٌ وجيزة، أجرى خلالها
المتواجدون حوله اتّصالاتٍ سريعةً بينهم وبين المسؤولين في العاصمة، وردّ رجال
الأمن بعدها على المخلوق الفضائي بقولهم:
إنّ حكومتنا ترحّب بكم هنا على
الأرض، وستكون في ضيافتنا وتحت حمايتنا إلى أن تنتهي من دراستك وإنجاز بحثك
العلميّ.
وكانت تظهر على شاشة الجهاز
الفضائي ترجمةٌ لعباراتهم كتبت، أيضاً، بتلك الحروف الغريبة التي لم يألفها سكّان
الأرض!
هزّ (يادود) رأسه مرحّباً بقرار
استضافته، وشاكراً للجميع حسن تعاونهم. ثمّ، وبالطريقة نفسها، أكّد لهم أنّ
المركبة الفضائيّة ستكون بمثابة منزله الذي يقيم فيه أثناء هذه الرحلة، وكلّ ما
يرجوه منهم هو أن يؤمّنوا له مكتبةً كبيرةً يرجع إلى ما فيها من كتبٍ، وأن يكون له
مدخلٌ إلى وسائل البحث وإلى الإنترنت ليستقي منها المعلومات التي يبحث عنها، وأن
يتيحوا له التحدّث إلى الخبراء والمختصّين من خلال وسائل التواصل العديدة التي
ابتكرها بنو البشر.
وهكذا كان الأمر. وهذه الصفحات
التالية هي نسخةٌ من التقرير النهائيّ الذي خرج به الباحث الفضائيّ (يادود) ليحمله
معه إلى أهل كوكبه (زوندياغ).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول