الزواج والجمال


بقلم: أحمد بسام ساعي

 

كم تألّمتُ وأنا أقرأ إجابة ابنةٍ من بناتنا في الاستبيان (3) وقد خصّصتُه لأولئك الذين فاتهم قطار الزواج.

ولعلّكم تشاركونني هذه المشاعر والألم حين تقرأون إجابتها، الصادقة، والموضوعيّة، والتي تحتاج حقّاً إلى أن ننظر فيها بعمقٍ ومسؤوليّة. تقول الابنة:

"أعتقد أن جميع الرجال في مجتمعنا العربي يبحثون عن المرأة الجميلة. إنّه غالباً المعيار الأوّل لدى شبابنا في اختيار شريكة حياتهم. جمال الروح، والشهادة الجامعية، والثقافة، والأخلاق.. إلخ، كلّها مجرّد ادّعاءاتٍ مثاليّةٍ لا تمتُّ إلى الحقيقة بشيء. لقد شاء الله أن يخلقني بقدرٍ قليلٍ من الجمال، وأعترف بأنّني ما زلت أجهل حكمة الله في ذلك! أحاول أن أكون واثقةً بنفسي قدر المستطاع، ولكن لا أستطيع إنكار أن هذا الأمر يسبّب لي المرارة كلّما فكّرت فيه، بل يدفعني أحياناً للتفكير بالإقدام على أمورٍ لا ترضي الله، وتخالف إيماني وتعاليم ديني، كالتخلي عن ارتداء الحجاب، أو الاستخدام المبالغ فيه للمستحضرات التجميليّة.. إنّني لم أفعلها بعد، لكنّها أفكارٌ ترادوني كلما حزَّ الأمر في نفسي".

نعم، ولمَ لا؟ أين المشكلة في تساؤلنا عن حكمة الله في أن يخلق هذه جميلة وتلك أقلّ جمالاً؟ ألم يحدث أنّ الملائكة، كما يقول جيفري لانج في كتابه (حتّى الملائكة تسأل)[1] ، تعجّبتْ واستفسَرت من الله أيضاً: كيف تُنزِل الإنسان ليَسكن في الأرض وأنت تعرف أنّه سيفسد فيها ويسفك الدماء:

-     وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30]

لا حَرَج في السؤال عن أيّ شيء، ولكنّ السؤال فيما يخصّ إرادة الله تعالى في خَلقه يأتي على مرحلتين:

1- إنّني مؤمنٌ، لو كنت مؤمناً حقّاً، بصحّة كلّ ما يقدّره الله لي، لأنّه هو الخالق، ولأنّه، وهو الخبيرُ بما خَلَق، لا يمكن أن يخطئ، وكلّ البشر يخطئون.

2- ثمّ، وبعد الإقرار بهذه المسلَّمة، يحقّ لنا، بل يجدر بنا، أن نطرح السؤال بهذه الصيغة التساؤليّة التعجّبيّة، وليس الإنكاريّة أو الاحتجاجيّة: تُرى، ما تفسير ذلك؟ أو: ما الحكمة في أنّ الخالق أراد لنا هذا؟

لقد ذكّرتْني أفكار هذه الابنة بحكايةٍ جرت لي عندما كنت أدرّس مادّة البلاغة لطلّابي في جامعة اللاذقيّة (تشرين فيما بعد)، وكنت أشرح لهم تطوّر صيغة الصورة الفنّية في الشعر العربيّ شيئاً فشيئاً مع تطوّر الفكر العربيّ، ومع نموّ الثقافة العربيّة، والثقافة الإنسانيّة بشكلٍ عامّ.

في شِعر العصر الجاهليّ؛ كانت ثقافة الشاعر محدودةً، والأمّية تسود الصحراء العربيّة، والفكر العربيّ أقرب إلى السطحيّة منه إلى العمق، فكان فنّ (التشبيه)، وهو فنٌّ بيانيٌّ بسيطٌ يَعْرض فيه الشاعر كِلا المشبّه والمشبّه به معاً بوضوحٍ في صورته الشعريّة (فالقائد كالأسد في شجاعته، والأمير كالبحر في كرمه، والفتاة كالبدر في جمالها). هذا النوع من التشبيه البدائيّ البسيط كان يَغلب عند الشاعر الجاهليّ على الفنّ البيانيّ الآخر، الأكثر تعقيداً، والأشدّ حاجةً عند القارئ إلى إعمال العقل والخيال، وهو فنّ (الاستعارة).

ويستغني الشاعر في هذا الفنّ الأخير عن أحد طَرَفَي التشبيه: المشبّه أو المشبّه به، ويكتفي بذكر صفةٍ من صفات الطرف المحذوف، وعلى القارئ في هذه الحال، وقد تطوّرت علومه وثقافته، وتوسَّع خيالُه، وتعمّق فكره، أن يستخدم عقله وخياله أكثر فأكثر ليستوعب الصورة الشعريّة التي أمامه، والتي ستكون الآن أقرب إلى هذا الشكل (القائد يزأر، والأمير يفيض ويتدفّق، والفتاة تشرق وتضيء)، فيفهم القارئ أنّ الشاعر أراد بالصورة الأولى تشبيه القائد بالأسد، وأراد بالثانية تشبيه الأمير بالبحر، وأراد بالثالثة، تشبيه الفتاة بالقمر.

وفي شِعرنا الحديث، وقد تطوّرت الثقافة العربيّة، والعالميّة، تطوّراً لم يكن يتصوّره الشاعر القديم، تجاوزت الصورة هذه الأبعاد الأساسيّة، والمفهوماتِ البدائيّة الأولى للفنّ البلاغيّ، وغدت العلاقات بين المشبّه والمشبّه به ووجه الشبه تتعدّد وتتسلسل وتتداخل وتتغاير في الصورة الواحدة، متأثّرةً بشكلٍ خاصٍّ بالصورة القرآنيّة الجديدة، التي لم تكتفِ بتجاوز كلّ الصور التي اعتاد عليها الشعراء العرب، بل خرجت، أيضاً، عن كلّ المقاييس التقليديّة للصورة البيانيّة، العربيّة والعالميّة، بأبعادها التجريديّة الجديدة، وبأطرافها المتعدّدة التي تجاوزت الطرفين التقليديّين المحدودين للصورة (المشبّه والمشبّه به)[2]، فأصبح على القارئ، كمثقّفٍ أعلى درجةً، أن يُعمِل تلافيف دماغه بقوّةٍ وعمقٍ حتّى يفهم هذا النوع من الصور الجديدة، وتطوّرت أمامنا صنوفٌ من أمثال هذه الصورة الغزليّة للشاعر اللبنانيّ المعاصر سعيد عقل، حين قال إنّه يشمّ العطر عندما تخطر صورة محبوبته في باله، فيتساءل عمّا إذا كان السرّ في ذلك هو أنّ الورود كانت تتذكّرها أيضاً في تلك اللحظة:

        كنتِ ببالي.. فاشتممتُ الشذَى       فيهِ، تُرى كنتِ ببالِ الورودْ؟!

شرحتُ لطلّابي طبيعة هذا التطوّر للصورة مع تطوّر مستوى التفكير والثقافة والنضج العقليّ للإنسان، فتطوّرت أطراف الصورة من المحسوس إلى المجرّد، أو من الحواسّ الخمس، إلى الأبعاد الفكريّة التي تحتاج إلى إعمال العقل والخيال. وقلت لطلّابي ممثّلاً لهم هذا التطوّر في نوعيّة الصورة:

مثلاً، حين كنت في العشرين من عمري؛ كنت أقول: أريد أن أتزوّج من أجمل فتاةٍ في المدينة. وحين أصبحتُ في الخامسة والعشرين، ونضجتُ أكثر، أصبحت أقول: أريدها جميلةً ومثقّفة (لاحظ كيف خفّفتُ شرط مستوى الجمال "المحسوس"، وأضفتُ عنصراً مجرّداً غير محسوسٍ وهو الثقافة). وحين بلغتُ الثلاثين، ونضجتُ أكثر، أصبحت أقول: أريدها مثقّفةً جدّاً، و.. مقبولةَ الشكل (لاحظ كيف تقدّم هنا عنصر الثقافة "المجرّد" أكثر فأكثر، وتراجع عنصر الجمال "المحسوس" أكثر فأكثر). وحين غدوت في الخامسة والثلاثين (وهي سنّي عندما كنت أُجري لطلّابي هذا الحوار)؛ أصبحتُ أقول: أريد زوجةً لا تسبّب لي صُداعاً كلّ يوم!

ضحك الجميع، وعلّق أحد الخبثاء قائلاً: دكتور، وماذا ستقول حين تصبح في الأربعين؟! وردّ عليه خبيثٌ آخر مجيباً: سيقول: أريد امرأة..

وضحكتُ، وضحكوا مرّةً أخرى، ولكن لنعترفَ جميعاً في النهاية بأنّ هذا هو الواقع.

سردتُ عليكم هذه الحكاية الواقعيّة، تقريباً بحذافيرها، لأنّها تمثّل، من أوّل كلمةٍ إلى آخر كلمةٍ فيها، واقع ما يجري اليوم لدى شريحةٍ كبيرةٍ من الناس، كما تؤكّد لنا مخاوف ابنتنا في الاستبيان.

هذه الحقيقة تعيدنا من جديدٍ إلى الحكمة النبويّة التي حذّرتنا منذ وقتٍ طويلٍ من التفكير الحسّي عند اختيار الزوجة، ودعتنا إلى إعمال العقل والتفكير المجرّد، باختيار ذات الدِّين والخُلق، وليس صاحبة المال أو الجمال أو الحسَب والنسَب: ""تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها ولِحَسَبِها ولِجَمالِها ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداك" [متّفق عليه]. وهي قاعدةٌ تنطبق على الرجل بقدر ما تنطبق على المرأة كما في الحديث النبويّ: "إذا جاءَكم مَن ترضَونَ دينَه وخُلقَه فأنكِحوهُ، إلَّا تفعلوا تَكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ". [رواه التِّرمِذي، وحسّنه الألباني]

إنّ هذا لا يمنع طبعاً أن تجتمع صفات الدنيا مع صفات الآخرة في فتاةٍ واحدة، ولكن من المهمّ، حين نختار، أن نراعي تلك القاعدة النبويّة العقليّة، بعيدة المدى، في معايير اختيارنا للأشياء، أيّاً كان مظهرها.

ومن حقّ هذه الابنة الكريمة أن تتساءل بمرارة: ما الحكمة الإلهيّة من حرمان كثيرٍ من النساء من نعمة الجمال؟ ولكنّ السؤال الآخر الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، جنباً إلى جنبٍ مع السؤال الأوّل، هو: وهل كان الجمال دائماً نعمةً على المرأة؟

ليس من حقّنا، طبعاً، أن نعترض على حكمة الله في أنْ خَلَق هذه جميلة، وتلك أقلّ جمالاً، وتلك أقلّ منها، ولكن مِن حقّ الله علينا أن نبحث عن أسرار حكمته ما استطعنا، وأن نفهمها، وأن نتعلّم منها بعض الدروس في حياتنا.

تُرى، لو أنّ الله تعالى خلق النساء جميعاً على صورة أقلّهنّ جمالاً، فهل سيمتنع الناس عن الزواج؟ وهل ستتوقّف البشريّة عن الاستمرار والتكاثر؟ أم سيعيدون في تلك الحال حساباتهم وترتيب أوراقهم من جديد، ويراجعون مواصفات الجميلة وغير الجميلة ليقترحوا مقاييس جديدةً ومختلفةً للجمال؟

ولو أنّه تعالى خلق النساء جميعاً على صورة أجملهنّ، فكيف يجد الرجل، الباحث بعينيه لا بعقله، الأجمل بين تلك الجميلات؟

لولا قلّة الجمال لما ميّز الناس روعة الجمال، ولولا الليل لما عرفوا أهمّيةَ النهار، ولولا البرد لما استشعروا لذّة الدفء، ولولا العمل والتعب والجدّ لما استهوتهم نشوة الراحة. إنّهم لا يملكون إلّا أن يستمتعوا بهذه الأشياء، لأنّهم تذوّقوا أضدادها. فهل الجمال هو ما تراه أعيننا فحسب؟

يتحدّث الشاعر السوري عمر أبو ريشة (1910-1990) في أحد لقاءاته الإذاعيّة عن زيارةٍ قام بها مرّةً مع بضعة أصدقاء لمنزل أحد السفراء الأوروبّيين في بيروت. لقد صُدموا صدمةً كبيرةً، كما يقول، عندما استقبلتهم عند الباب زوجة السفير مرحّبةً بهم. كانت غايةً في "البشاعة" حسب تعبيره. وتساءلوا في أنفسهم: كيف يمكن لسفير دولةٍ أوروبّيةٍ كبرى أن يختار زوجةً كهذه؟!

ويتابع قائلاً: بعد ساعتين، في نهاية السهرة، خرجنا من المنزل ونحن نرى أنّ زوجة السفير كانت أجمل امرأةٍ في العالم!

الجمال ليس كلّه بالولادة، بل الجانب الحسّي منه فحسب، وهو الأقلّ أهمّيةً، أمّا الجانب الأكبر فمكتسب، وهو يتشكّل ويتّضح شيئاً فشيئاً مع نموّ الفتاة، أو الفتى، وتَبلوُرِ شخصيّتها/شخصيّته. من أجل هذا كان جزءاً هامّاً من واجباتنا التربويّة هو أن نعلّم أبناءنا وبناتنا كيف يكتسبون الجمال.

لقد سبق أن اقترحت في فصلٍ سابقٍ أن تقام دوراتٌ خاصّةٌ للمُقْبلات على الزواج، وأن يكون أحد الموضوعات المقرّرة في هذه الدورات: كيف تستغنين عن جمال جسدك بجمال شخصيّتك؟ ومِن المؤكّد أنّ هذا الجمال الأخير هو الرابح في البداية لدى الزوج الناضج عند اختياره لشريكة حياته، وهو نفسه الرابح في النهاية؛ عندما يتلاشى شيئاً فشيئاً، مع الألفة والتعوّد وعوامل السنّ، عامل الجمال الجسديّ في عينَيه، وينمو أكثر فأكثر في حياة الأسرة عاملُ جمال الشخصيّة، وجمال الأخلاق، وجمال الروح.

بقدر ما تزداد ثقافة الإنسان؛ يزداد انصرافه عن الجمال الجسديّ ويميل إلى النوع الآخر: الجمال الثقافيّ والروحيّ والمكتسب. من أجل هذا نجد الرجل الغربيّ أكثر مَيلاً إلى هذا النوع الأخير من الجمال من أخيه في بلدان العالم الثالث، لأنّ الأوروبّي المثقّف يختار زوجته غالباً بعقله وليس بعينيه.

أمّا قول ابنتنا عن تفكيرها بالإقدام على إزاحة الحجاب، أو المبالغة في استخدام المساحيق والمستحضرات التجميليّة في سبيل اجتذاب الرجل، فمن الممكن أن تجتذب بهذا العمل عيني الرجل وغرائزه البدائيّة، ولكن ليس قلبه وعقله. ولا بدّ من الاعتراف بأنّ الحجاب، الحجاب الحقيقيّ، هو أوّل عوامل اجتذاب الرجل الباحث عن زوجةٍ في العالم الإسلاميّ، حتّى إن لم يكن متديّناً، ليس لما يُضفيه الحجاب من جمالٍ وحياءٍ وأنوثةٍ على المرأة، كما سبق أن أكّدنا، فحسب، بل لما يبعثه في نفسه أيضاً من طمأنينةٍ وراحة نفسٍ حول طبيعة ماضيها وواقعها الأخلاقيّ وتفكيرها، وما يمكن أن يحمله ذلك من بشائر للمستقبل.

برمجي جهاز الصبر في داخلك، ليحميك دائماً من نفسك، فإن كُتِب لك النصيب؛ فانتظري بثقةٍ وإيمانٍ ذلك الذي كُتِبَ له أن يلتقيكِ؛ وهو يبحث عن الحارسة الأمينة التي ستحتلّ مقعدها إلى جانبه في عربة المستقبل.

 



[1] Jeffry Lang. Even Angels ask. Amana publications. Beltsville. U.S.A. 2014.

[2] راجع فصل (البناء الجديد للصورة القرآنيّة) من كتابنا (المعجزة). ج2. الصفحات 243-258.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين