السِّحر شرُّ وَوِزر

مقدمة:

لقد قسّم شرعنا الحنيف الذّنوب إلى صغائر وكبائر، ونهى عنهما معًا، وجعل الكبائر متفاوتةً في الإثم والعقوبة، ثمّ جعل السّبع الموبقات أشدّها خطرًا، وأعظمها جرمًا، وأقبحها فعلًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ). [ 1 ]

فلقد حذّر من الشرك أوّلًا، ثمّ جعل السّحر قرينةً للشّرك، لما يتضمّنه مِن أمورٍ منكرةٍ، وما ينجم عنه مِن شرورٍ عظيمةٍ، ومفاسد كبيرةٍ، على مستوى الأفراد والجماعات، وإنّه لجريمةٌ قديمةٌ حديثةٌ، حيث برع فيه السّحرة الماكرون منذ القدم، واستمرّ حتّى يومنا هذا، وهو أمرٌ واقعيٌّ، وحقيقةٌ لا تُنكَر، أخبر عنها كتاب ربّنا جل جلاله عمّن كان قبلنا ممّن كانوا يتعاطون السّحر، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].

فغاية السّحرة الإيذاء بالنّاس، والتّفريق بين المرء وزوجه، وزرع العداوة بينهما، ولكنّهم لا يستطيعون أن يُلحقوا بأحدٍ ضررًا إلّا بإذن الله سبحانه، وإنّ المؤمن الصّادق ليجتنب ذلك كلّه، فلا يذهب للسّحرة ولا يصدّقهم، عَنْ صَفِيَّةَ رضي الله عنها، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً). [ 2 ]

فإن صدّقهم فيما يزعمون مِن علم الغيب والنّفع والضّرّ، كان كفرًا مُخرجًا مِن الملّة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ). [ 3 ]

فكيف نتّقي خطرهم؟ وما سبل الوقاية مِنَ السّحر؟

1- منشأ السِّحر ومخاطره

إنّ السّحر مِن الكبائر العظيمة، والأمور الخطيرة، والأعمال المضرّة، والذّنوب المهلكة، وله أساليب متنوّعةٌ، وطرقٌ مختلفةٌ، فمنه ما يكون بالخداع والتّمويه، واصطناع تخيّلاتٍ وأوهامٍ لا أساس لها مِن الحقيقة والواقع، كما حصل مِن سحرة فرعون، حينما ألقوا حبالهم وعصيّهم، وخيّلوا للنّاس بأساليبهم الخاصّة أنّها حيّاتٌ تسعى، قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66].

ومنه ما يكون باستخدام الشّياطين وتسخير الجنّ، وهذا مِن أشدّ السّحر وأخطره، لأنّه كثيرًا ما يؤدّي إلى إزهاق الأرواح، وتعطيل العقول، وتفكيك الأُسر، وتفريق الزّوجين، وإيذاء النّاس في أجسامهم وأعمالهم وأموالهم، والسّحر مِن هذا النّوع كفرٌ و فجورٌ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ). [ 4 ]

وإنّ السّحرة قومٌ ماكرون، أفّاكون آثمون، تتنزّل عليهم الشّياطين بالزّور والضّلال المبين، قال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشّعراء: 221].

وقد بيّن القرآن أنّ السّحر ضررٌ محضٌ، قال تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].

وإنّ الله حرّم كلّ ما مِن شأنه إلحاق الأذى والضّرر بالنّاس، ولقد جاء الإسلام حربًا على أولئك الّذين يستعملون الطّلاسم، ويستخدمون الشّياطين في تحقيق أغراضٍ دنيئةٍ، وتنفيذ الضّرر والإفساد بالخلق، ثمّ لقد انتشر في زمننا -يوم أن ابتعد النّاس عن تعاليم دِينهم- أناسٌ خبثت نفوسهم، فاتّخذوا الشّياطين أولياء مِن دُون الله، فغدوا يعقدون العقد، وينفثون فيها خبثهم، ويكتبون الطّلاسم، ويقومون بحركاتٍ انفعاليّةٍ يحدث معها -بإذن الله- ما قصد إليه السّاحر مِن ضررٍ وشرٍّ، وتأثيرٍ ومكرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ). [ 5 ]

وكما حرّم الإسلام السّحر وجعله قرين الشّرك، فكذلك حرّم على المؤمنين أن يقصدوا واحدًا مِن هؤلاء السّحرة الكذّابين، وحذّر مِن تصديقهم فيما يزعمون ويعملون، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ، وَلَا قَاطِعُ رحم). [ 6 ]

 

2- السُّبل الوِقائيَّة والعلاجيَّة

لقد خلق الله الدّاء، وجعل لكلّ داءٍ دواءً، فكان الدّاء مِن جملة البلاء الّذي يجعل العبد يشعر باحتياجه إلى خالقه، فيطلب منه ألّا يصيبه الدّاء، أو يرجو رفعه بعد وقوعه، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاووا بِحَرَامٍ). [ 7 ]

ولذا فإنّنا بحاجةٍ إلى معرفة أسباب الوقاية مِن السّحر، ومعرفة كيفيّة علاجه بعد وقوعه، حيث إنّ دفع ضرر السّحر مِن جانبين: وقائيٍّ وعلاجيٍّ، فأمّا الوقائيّ فإنّما يكون بتعميق الصّلة وتوثيقها بالّذي بيده ملكوت كلّ شيءٍ، ولا يكون شيءٌ ولا ينفذ إلّا بقدَرِه، قال جل جلاله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].

وإنّ ممّا يقوّي به المسلم صلته بخالقه: أن يعكف على كتاب ربّه، متدبّرًا آياته، فمَن عاش مع كتاب الله عز وجل، كان في حصنٍ حصينٍ مِن شرّ شياطين الإنس والجنّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ). [ 8 ]

ومَن عجز عن قراءتها فلا يعجزنّ عن ملازمة آية الكرسيّ، والآيتين اللّتين في آخر البقرة، ولقد كان مِنْ هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ يستعيذ بالمعوّذات ويأمر بها، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَيَقُولُ: (يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَ). [ 9 ]

وأمرنا أن ندفع البلاء بالدّعاء، عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللهِ). [ 10 ]

ونحصّن أنفسنا بالأذكار في الصّباح والمساء، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ). [ 11 ]

وأرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى أن نتصبّح بسبع تمراتٍ للوقاية من السّحر، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلا سِحْرٌ). [ 12 ]

فإذا ما وقع السّحر -بقدرٍ من الله- فما على المسلم إلّا أن يلجأ لتناول الدّواء العلاجيّ؛ بالرّقية الشّرعيّة مِن كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما شفاءٌ مِن كلّ داءٍ، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

وليكثر المسحور مِن التّضرّع إلى الله عز وجل.

خاتمةٌ:

إنّ السّحر مِن أكبر الكبائر والموبقات، وقد يؤدّي إلى الكفر والخروج مِن ملّة الإسلام، قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

وإنّ العاقل عندما يعلم أنّ عمل السّحرة ضررٌ وأذىً، وخرابٌ ودمارٌ، وإجرامٌ وفسادٌ لدِين المرء ودُنياه، وسببٌ لشقائه وخسرانه، يبتعد عنهم، ويجتنب عملهم، ويوقن أنّهم دجّالون كذّابون فيما يدّعونه مِن علم الغيب، والكشف عن أمور مستقبليّة، والتّكهّن بمعرفة أخبار النّاس، فلا يعلم الغيب إلّا الله، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النّمل: 65].

فمبلغ علم السّحرة ظنونٌ خاطئةٌ، ووساوس شيطانيّةٌ، ورجمٌ بالغيب، ولا يفعلها إلّا ناقص العقل والدّين، عديم الحياء والضّمير، حليفٌ للجنّ والشّياطين، وإنّ المسلم الحقّ ليجتنب السّحرة وسؤالهم عن شيءٍ، فضلًا عن أن يعمل عملهم، بل يبقى دائم الاتّصال بخالقه ومولاه، كثير التّوبة مِن ذنوبه وخطاياه، محصّنًا نفسه -مِن شرّ شياطين الإنس والجنّ- بما جاء في كتاب ربّه عز وجل، وبما أرشده إليه حديث نبيّه صلى الله عليه وسلم، ليبقى في أمنٍ وأمانٍ، وسلامةٍ وإسلامٍ، وينال رضى الرّحمن.

 

هوامش:

1 - صحيح البخاريّ: 2766

2 - صحيح مسلم: 2230

3 - مسند أحمد: 9536

4 - صحيح البخاريّ: 5763

5 - سنن النّسائيّ: 4079

6 - صحيح ابن حبّان: 3752

7 - المعجم الكبير للطّبرانيّ: 649

8 - مسند أحمد: 22213

9 - سنن أبي داود: 1463

10 - مسند أحمد: 22044

11 - مسند أحمد: 446

12 - مسند أحمد: 1571

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين