
لقد حاول الكثيرون وضع أحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، حاولوا ذلك لأسباب مختلفة منها:
1 – أنَّ بعض الناس كذَّابون بطبيعتهم، اتخذوا الكذب هواية، لا يَستقيمُ أمرُهم إلا على الكذب، فكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان من المعروف في جميع الأديان: أنَّ بعض الناس يَكذب على الله تعالى، فإنَّ من الأمور التي تحدث، أن يكذب بعض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 – وبعضُ الناس يسيطر عليه مذهبٌ من المذاهب أو نزعة من النزعات، ويشبع بذلك حتى يملأ عليه أقطارَه فيكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأييداً لمذهبه، وتأكيداً لنزعته، أو إرضاءً لهواه.
3 – وبعض الناس دخل في الإسلام كرهاً للإسلام، دخله ليتآمر عليه، دخله ليكون في ظروف أكثر ملاءمة للتآمر عليه، فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: إفساداً للمبادئ الإسلاميَّة الصحيحة وتزييفاً لها.
4 – وبعض الناس استباح الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبيل موعظة الآخرين وهدايتهم، ورأى أنَّ غايته التهذيبية تبيح له ركوب هذا المركب الفاسد.
هذه هي كل أو أكثر الأسباب التي دعت إلى وضع الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن ذلك لم يكن في السُّنَّة بدعاً من الأمر.
فهذه الأسباب في الجملة كانت ولا تزال الأسباب لتزييف التاريخ.
إنَّ التاريخ – منذ عُرف - لم يخلُ من العوامل التي تحاول وضْعَه على غير ما كان عليه بالفعل، وتلوينه على الصورة التي يُريد بعض الناس – ملوكاً أو أمراء أو زعماء على أي وضع كانوا أن يكون عليها.
ولكن تزييفهم للتاريخ لم يمنع من ظهور الحقائق، وكذبهم على التاريخ لم يمنع من بيان الحق ومعرفة الناس له.
ولقد وضع المؤرِّخون المحدثون أصولاً للنقد، وعلامات للحوادث المزيَّفة، وقواعد لمعرفة الحقيقة، ولقد استعانوا في سبيل المعرفة الصحيحة باللغة، وبالحوادث اليقينيَّة المتواترة، وبالشهود العدول وبالمقارنات.
لقد استعانوا بالنقد الداخلي، والنقد الخارجي، ووصلوا بذلك إلى الحقائق التي يطمئنون إليها، برغم ما يفصل بينهم وبين مكان الأحداث من آلاف الأميال، وبرغم ما يفصل بينهم وبين أزمنة الحوادث من عشرات القرون.
ومع كل ما حاوله المؤرخون من جهد، ومع كل ما وضعوه من قواعد للوصول إلى اليقين فإنهم – والحق يقال – لم يصلوا في كل ذلك إلى ما وصل إليه سادتنا المحدِّثون، رضوان الله عليهم، وذلك للأسباب التالية:
1 – لقد بدأ تسجيل السُّنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتم تسجيلها – كلها تقريباً – في عهد الصحابة، رضوان الله عليهم، فكان قرب الزمن إذن من عوامل صحة السُّنَّة.
2 – وسُجِّل أكثرها في المكان نفسه الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في أمكنة قريبة، نسبياً منه.
3 – ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث كانت تحدُّ من الوضع، في المبدأ على الأقل، مثل حديث: (من كذب عليَّ مُتعمِّداً فليتبوأ مقعده من النار).
وهذه ملاحظات نذكرها لا لنقول إنها حاسمة فيما يتعلَّق بأمر صِحَّة ما روي – ولقد قدمنا: أنَّ الوضع وُجِدَ بالفعل – ولكننا نذكرها في مقابلة ما يحاول بعض الناس التهويل به من أمر التزييف والوضع.
أما الأمور الحاسمة التي تجعلنا نثق في النتائج والثمار التي وصل إليها سلفنا الصالح فيما يتعلَّق بأمر السُّنة، فإنَّ من أسسها:
1- إيمان هؤلاء السلف بأنَّهم في عنايتهم بالسُّنَّة: - بما صحَّ منها، وبما وُضِعَ فيها – إنَّما يجاهدون في سبيل الله.
لقد كانوا مؤمنين إيماناً عميقاً ثابتاً بأنَّ في عنقهم واجباً دينياً هو أن يخلِّصوا سُّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل زَيفٍ، وأن يُنقُّوها من الكدورات في إخلاص مخلص، وفي صورة من اليقين لا يَفْترون في الوصول إليه.
ولقد كانوا يعدون بالآلاف ويمتازون – كما يقول أبو الحسن الندوي – بعلوِّ نشاطهم، وقوة احتمالهم وصبرهم، وقوة ذاكرتهم وحفظهم، وقد تدفَّق سبيلهم من بلاد العجم، وقد ملكت قلوبهم وعقولهم الرغبة الشديدة في جمع الحديث، وشُغِفُوا به شغفاً حال بينهم وبين الشهوات فطاروا في الآفاق، ونقَّبوا في البلاد في البحث عن الروايات المختلفة، والأسانيد الصحيحة.
وكان لهم في ذلك هُيام وغَرام لم يُعرف عن أمَّة من الأمم في التاريخ كله، يدلُّ على ذلك بعض الدلالة ما يروى عن المحدثين من التجوُّل في البلاد والسفر في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.
فقد روي: أنَّ البخاري صاحب الصحيح، بدأ رحلته العلميَّة وهو لا يزال في الرابعة عشرة من سِنِّه، وقد زار البلدان الإسلامية، ما بين بخارى إلى مصر، وشيوخها.
وروي عن أبي حاتم الرازي م 277هـ قال: (أول ما رحلت أقمتُ سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر، ثم إلى الرملة ماشياً ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة).
وقد سمع محدِّث الأندلس ابن حيون (م374هـ) الحديث في الأندلس والعراق، والحجاز واليمن، وهكذا قطع قارة أفريقيا من طنجة إلى مصر، وعبر البحر الأحمر.
ومن المحدِّثين من سافر في قارة أفريقيا وآسيا وأوروبا في طلب الحديث، وهكذا انتظمت رحلته العمليَّة ثلاث قارات كبرى.
وكان كثير من المحدثين يخرج من الأندلس أقصى الغرب في العالم المتمدن المعروف يومئذ ويبلغ أقصاه في الشرق إلى خُراسان أو بالعكس، والمطالع في تذكرة الحفَّاظ للذهبي يدهش لطموح هؤلاء الرجال واحتمالهم المشاقَّ في طلب العلم.
2- ولقد استعمل أئمتنا النقد الداخلي والنقد الخارجي، بل لقد استعملوا ما يمكن أن نسميه المشاركة الوجدانيَّة، أو بعبارة أدق، استرواح رائحة النبوَّة، أو استلهام طابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، أو استبصار القلب وإلهام الروح، وإشراق البصيرة في المعرفة:
يقول الربيع بن خيثم: (إنَّ من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار تعرفه به، وإنَّ من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل تعرفه بها).
وهذه الطريقة تعتبر في العصر الحاضر الأوروبي من إبداعات القرن العشرين، لقد استعملها أئمتنا ووضعوا لها الأصول، وبيَّنوا كيفيتها، ولم يتركوها للأهواء والمشارب، ومن أدقِّ التعبيرات عنها ما يقول ابن القيم: سُئِلت: هل يمكن معرفة الموضوع بضابط من غير أن يُنظر في سنده؟ فهذا سؤال عظيم القدر.
وإنما يعلم ذلك من تضلَّع إلى معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملَكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه فيما يَأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالطٌ للرسول صلى الله عليه وسلم كواحدٍ من أصحابه.
ومثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره.
وهذا شأن كل متَّبع مع متبوعه، فللأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله في العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن يُنسب إليه وما لا يصح، ما ليس لمن لا يكون كذلك.
وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم: يعرفون من أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم وأساليبهم ومَشَاربهم ما لا يعرفه غيرهم.
وفي هذه الطريقة أيضاً يقول ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:
(وكثيراً ما يحكمون بذلك (أي: بالوضع) باعتبار يرجع إلى المروي وألفاظ الحديث. وحاصله أنَّها حصلت له بكثرة محاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانيَّة وملَكة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظه، وما لا يجوز).
ويقول ابن الجوزي:
الحديث المنكر يقشعرُّ له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب.
3 – وإنه لمن المعروف أنَّ عناية سلفنا الصالح لم تكن موجودة إلى جمع الحديث وتدوينه فحسب، وإنما تعدَّت ذلك – كما يقول الأستاذ الجليل أبو الحسن الندوي – إلى الوسائط التي وقعت من رواية الحديث – وهم الرواة الذين رَوَوا هذه الأحاديث.
فعُنوا بمعرفتهم، ومعرفة أسمائهم وأسماء آبائهم، وحوادث حياتهم وأخلاقهم، ومَكَانتهم في الأمانة والصدق، والحفظ.
(لم تُعرف أمة في التاريخ، ولا توجد الآن على ظهر الأرض، وفِّقت لاختراع فنٍّ من أسماء الرجال الذي نستطيع بفضله أن نقف على ترجمة خمسمائة ألف (نصف مليون) من الرجال).
ولم يُعنَ المحدِّثون بتعريف رجال الحديث فحسب، بل التزموا الصدق والصراحة في تعريفهم وجمعوا كل ما يتصل بأخلاقهم وعاداتهم، وما يدلُّ على قوتهم وضعفهم، واحتياطهم وتساهلهم، وتقواهم وعلمهم وذاكرتهم، وجمعوا كل ما قاله معاصروهم فيهم، ولم يُداروا ولم يجاملوا في ذلك ولم يهابوا أحداً، ولو كان بعضهم أميراً مُهاباً أو شيخاً وقوراً.
وقد روى التاريخ في ذلك طرائف تدلُّ على شِدَّة هؤلاء الناقدين وعلمهم بقوله تعالى: [كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] {النساء:135}، وتدقيقهم.
قال أبو داود: كان أبو وكيع على بيت المال، فكان وكيع (م197) إذا روي عنه قرنه بآخر.
وقد ترك معاذ بن معاذ العنبري (م 196هـ) رواية السعودي، لأنه رآه يطالع الكتاب، يعني قد تغيَّر حِفْظه، وقد قدَّم إليه عشرة آلاف دينار، وطلب منه أن يسكت عن فلان فلا يتكلم فيه بجرح ولا تعديل، فأبى ورفض هذا الحال العظيم، وقال: (لا أكتم الحق).
وهذا قليل من كثير جداً يدلُّ على أمانة علماء الحديث والرجال، وتدقيقهم في موضوعهم وتحريهم الحق والعدل في شهاداتهم، فهل يوجد في تاريخ العلم نظير لهذه الأمانة والتدقيق؟
وما من شك في أنَّ سلفنا الصالح بدأوا الاهتمام بالإسناد:
أي: بالاهتمام بهؤلاء الذين رَوَوا الحديث واحداً عن واحد، وَصَلُوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحد الصحابة رضوان الله عليهم.
ولقد اهتموا بالإسناد إلى درجة أن جعلوه من الدين:
يقول الإمام الزهري: (الإسناد من الدين).
لقد بحثوا عن هؤلاء الذين جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقهم. لقد بحثوا عن ميلادهم، وعن وفاتهم، وعن أخلاقهم، وعن غفلتهم وسهوهم، أو يقظتهم وصحوهم، وعن ذاكرتهم وضبطهم، لقد بحثوا عن كل ما يتصل بهم في ألفاظهم التي ينطقون بها، وفي سلوكهم الذين يسيرون عليه، وفي سمتهم من ناحية الوقار والخلقة، وفي أهوائهم ومَشَاربهم، وفي نزعاتهم، وفي ميولهم على وجه العموم.
لقد اخترع المسلمون علم تشريح كامل، وضعوا به على مائدة المعرفة ما يقرب من نصف مليون من البشر.
لقد اخترعوا علماً لم يخترعه سابقوهم حتى بالنسبة لكتبهم المقدَّسة، ولم يصل إليه لاحقوهم حتى في العصر الحديث. علماً يقول عنه المستشرق الألماني (اسيرنجو) في تصديره لكتاب: (الإصابة، لابن حجر) حينما كان في كلكتا 1852-1864: الكلمة التي سبق أن ذكرناها والتي تعبِّر عن الحقيقة الواقعة.
ولقد قيل مرَّة لابن المبارك: (هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: يعيش لها الجهابذة)
هؤلاء الجهابذة قاموا بما عليهم خير قيام، يتحدَّث صاحب كتاب (تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، عن بعض ما قام به هؤلاء الجهابذة فيقول: (التمييز بين الرواة) قال أبو محمد: فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله، ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية: وجب أن نُمَيِّز بين عدول الناقلة والرواة، وثقاتهم وأهل الحفظ والتثبيت والإتقان منهم، وبين الغفلة والتشتت وسوء الحفظ والكذب، واختراع الأحاديث الكاذبة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: (مجلة الجديد، 15 أغسطس 1977 - العدد 135).
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول