الشريعة اللاحقة تؤكّد السابقة، وأتباع السابقة ينكرون اللاحقة!

القاعدة الغريبة في تاريخ الشرائع الثلاث؛ أنّ خطّ الأنبياء، الثابت والمتسلسل بشكلٍ منطقيّ ومتكامل، كان اللاحقُ فيه يؤكّد باستمرارٍ، ويعظّم ويوثّق، رسالةَ السابق، فلا ينفيها، ولا يخالف أحكامها، حتّى إن أضاف إليها بعض التفسيرات والتنبيهات والتسديدات الجديدة، ولكنّ موقف أتباع السابقة من النبيّ الجديد، ومن الشريعة الجديدة، كان دائماً هو الرفض والإنكار: نعم لأيّ سابق، ولا لأيّ لاحق!

كان معظم الإضافات الجديدة في حقيقتها ممّا تقتضيه حركة تطوّر الإنسان وحضارته على مرّ العصور، أو ممّا يجيب عن أسئلةٍ حائرةٍ ظلّت لغزاً مختلَفاً عليه عند أصحاب الشريعة السابقة. وكان كلّ نبيٍّ سابقٍ يؤكّد ويبشّر في كتابه بمجيء اللاحق، بل يكاد يسمّيه، إن لم يسمّه حقاً، ويرفع من مكانته ودرجته عند ربّه:

1-                هذا هو موسى، وهو النبيّ الأسبق بين أنبياء هذه الشرائع، يبشّر بمجيء "المسيح" من بعده ليحمل للعالم رسالة الشريعة الرديفة والمكمّلة لشريعته:

-                  ويقيمُ لكَ الربُّ إلهُكَ نبيّاً مِن وسَطِكَ مِن إخوتِكَ مِثلي له تسمعون [سفر التثنية: 18: 15]

-                  أُقيمُ لهم نبيّاً مِن وسَطِ إخوتِهم مِثلَكَ وأجعلُ كلامي في فمِه فيكلّمُهم بكلِّ ما أُوصيهم به [سفر التثنية: 18: 18]

ولكنّ أتباع موسى ينكرون كلّ من جاء بعد موسى وبعد شريعة موسى من أنبياء أو شرائع. وعندما يأتيهم ذلك النبيّ الموعود، و "من وسطِ إخوتهم" اليهود حقّاً، كما وعدهم نبيُّهم، ويظهر المسيح بن مريم، يقفون في وجهه، ويقاومونه، ويحاربونه بشراسة، ويطالبون بإعدامه، بغضّ النظر عن حقيقة التدخّل الإلهيّ في اللحظات الأخيرة لإبطال تنفيذ هذا الحكم كما يذهب المسلمون!

2-                ويولد المسيح بن مريم تلك الولادة الإعجازيّة الفريدة، ويؤكّد لأتباعه، أيضاً، قرب مجيء "المُعَزّي" من بعده ليحمل للعالم كلّه، وليس لليهود فحسب، رسالة الشريعة الثالثة، والتي ستكون الأخيرة، والباقية إلى الأبد:

-                  إذا كنتم تُحبّوني عمِلتُم بوصايايَ. وسأطلُبُ من الآبِ أن يُعطيَكم مُعزّياً آخر يبقى معكم إلى الأبد [يوحنّا: 14: 15-16]

-                  صدّقوني، من الخيرِ لكمْ أن أذهبَ، فإن كنتُ لا أذهبُ لا يجيئُكم المُعزّي. أمّا إذا ذهبتُ فأُرسِلُه إليكم. ومتى جاءَ وبّخَ العالمَ على الخطيئةِ والبِرِّ والدينونة [يوحنّا: 16: 7-8]

3-                ولكنّ موقف الرفض والإنكار يتكرّر مرّةً أخرى حين يظهر النبيّ العربيّ محمّد بن عبد الله، فيرفض أتباع موسى والمسيح معاً الاعتراف بالنبيّ الجديد، رغم أنّ شريعته جاءت لتصدّق وتوثّق كلتا الشريعتين قبلها، اليهوديّة والمسيحيّة، ولتؤكّد نبوّة أنبيائهما، ولتعترف بأحكام كتابَيهم، ولتطوّر بعض هذه الأحكام، ومن غير أن تفرّق بين أيّ نبيٍّ وآخر، كما يبيّن لنا كتابُ المسلمين بوضوحٍ وشفافية:

- قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 84]

وينصّ كتاب المسلمين صراحةً على قاعدةِ أنّ كلّ نبيٍّ يأتي ليشهد على مصداقيّة من جاء قبله من الأنبياء، كلّ الأنبياء، وذلك تنفيذاً لميثاقٍ وعهدٍ سبق بين كلّ نبيٍّ وربّه:

- 6 وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. [الصف: 6]

- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين [آل عمران: 81]

*           *           *

هذا الإنكار المستمرّ من أتباع النبيّ السابق للنبيّ اللاحق، رغم تناقضه مع النصوص المبشِّرة بين أيدي المنكِرين، يشكّل معادلةً صعبة لا أجد في حساباتي وبحثي تفسيراً علميّاً لها! إنّها تبدو لي، كباحثٍ فضائيٍّ، وكأنّها سنّةٌ بشريّةٌ تؤكّد لنا الضعف الإنسانيّ، متمثّلاً بالكبرياء والغرور والأثرة، وتمثّل لمعتنق كلّ شريعةٍ أنّه هو الأوّل وهو الأخير دون غيره من أتباع الشرائع!

ويختصر موقفَ أصحاب الشرائع في إقرارهم للسابقين وإنكارهم للّاحقين؛ آياتٌ من كتاب المسلمين وهي تخاطب الرُّسُل، كلّ الرُّسل، على أنّهم وجميعَ أتباعهم أمّةٌ واحدة، وأنّ إلههم إلهٌ واحد، ولكنّ هؤلاء الأتباع يصرّون على أن ينفرد كلٌّ منهم بزبوره أو كتابه فرحاً بما بين يديه:

- وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿٤٩﴾ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴿٥٠﴾ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٥١﴾ وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿٥٢﴾ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿٥٣﴾ [المؤمنون: 49-53]

وتخاطب آيةٌ أخرى أتباع هؤلاء الرسل مناشِدةً لهم، ومبيِّنةً الأسباب الوجيهة التي نزلت من أجلها الرسالة الأخيرة من السماء، بحيث لا يبقى حجّةٌ أمامهم بأنّ الله لم يبعث من يوضّح لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم، ويصحّح الأخطاء المتراكمة لديهم على مرّ القرون، ولينذرهم ويبشّرهم معاً:

- يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 19]

وتسلّط آيةٌ غيرها الضوء على أتباع المسيح خاصّة، وتذكّرهم بأنّ تفرّقهم الأبديّ إلى طوائف وجماعاتٍ متباغضةٍ متنازعةٍ جاء بمثابة عقوبةٍ من السماء على إهمالهم لبعض حقائق دينهم، وانحرافهم عن الكتاب الأصل الذي حمله المسيح إليهم، وسوف يستمرّ هذا النزاع والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة:

- وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14]

أخيراً، فإنّ من المهمّ لكلّ باحثٍ عن الحقيقة من أتباع الشرائع الثلاث، وبعيداً عن أيّة تأثيراتٍ عاطفيّةٍ متوارثةٍ ومترسّخةٍ عبر الأجيال، أن يضع أمامه هذه الأسئلة المصيريّة، وأن يجيب عنها بكلّ موضوعيّةٍ وتجرّدٍ قبل فوات الأوان:

1-                لو كنت يهوديّاً؛ فأمامي سؤالان اثنان لا بدّ من الإجابة عنهما:

أ‌-         ماذا لو حدث وتبيّن في النهاية أنّ المسيح كان على حقّ، وأن الإنجيل من عند الله؟

ب‌-      ثمّ ماذا لو حدث وتبيّن في النهاية أنّ محمّداً، أيضاً، كان على حقّ، وأنّ القرآن من عند الله؟ لماذا عليّ أن أصدّق أنّ كلّ مَن جاء قبل موسى من الأنبياء، كانوا على حقّ، وأنّ كلّ من جاء بعد موسى، وعلى مدى ثلاثة آلاف عام، كانوا على باطل؟ وكم ألف عامٍ أخرى يجب أن أنتظر حتّى يأتي ذلك الذي سيكون على حقّ؟

2-                لو كنت مسيحيّاً، فأمامي سؤالٌ خطيرٌ واحدٌ، وليس اثنين، لا بدّ من الإجابة عنه:

أ‌-         ماذا لو حدث وتبيّن في النهاية أنّ محمّداً كان على حقّ، وأنّ القرآن هو من عند الله؟ ومَن هو إذن ذلك "المعزّي" الذي بشّرنا المسيح بقدومه، وبأنّه سيكون هو الأخير بين الأنبياء؟ ومتى يأتي؟ وما الفرق في هذه الحال بيني، أنا المسيحيّ حين أُنكر محمّداً، وبين اليهوديّ حين ينكر المسيح؟ إنّه، مثلي، لم يتجاوز أن اعترف بمن قبل موسى من الأنبياء، ثمّ أنكر كلّ من جاء بعده! ولماذا لا يكون دور محمّدٍ بعد المسيح؛ كدَور المسيح بعد موسى: أن يجيب عن أسئلة اليهود الغامضة، وأن يحلّ الخلافات التي فرّقت بينهم وجعلتهم أحزاباً ومذاهب شتّى، ممّا توضّحه هذه الآيات:

- وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿٦٣﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿٦٤﴾ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿٦٥﴾ [الزُّخرف: 63-65]

3-                وأخيراً، كيف نفسر، نحن اليهود والمسيحيّين معاً، تلك الجرأة والتحدّي والوضوح، وتلك الثقة المتناهية، حين يؤكّد محمّدٌ أنّ سلسلة الأنبياء قد اختُتمت به، وأنّه، حتماً، الحلقة الأخيرة والنهائيّة في هذه السلسلة؟

4-                أما المسلم؛ فالسؤال الوحيد الذي سوف يدور في رأسه، وهو يواجه إنكار اليهود والنصارى لنبوّة محمّد، هو: ما الذي جرى لهؤلاء؟ وهل هناك شريعةٌ أخرى في العالم غير الإسلام تعترف بشريعتَي كلٍّ من موسى والمسيح، وتدعو أتباعها إلى حبّهما واحترامهما، والإيمان بهما وبكتبهما، وإلّا فلن يكونوا مسلمين؟

- نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 3]

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين