الشيخ العلامة صالح بن حسين العشماوي


فضيلة الشيخ صالح بن حسين العشماوي


ما أحوجَنا أن نستذكرَ سيرَ علمائنا الأجلَّاء، ونذكرَ قطوفًا من حياتهم وجهادهم في طلب العلم، وما عانَوه من مشقَّة في زمانهم؛ ليُنيروا للناس طريقَهم، ويعلِّموهم دين ربِّهم، فجزاهم الله عنَّا خيرَ الجزاء.

ومن منارات العلم المضيئة في حَوران من بلدة (تلِّ شِهاب) التابعة لمحافظة دَرْعا، فضيلةُ الشيخ العلَّامة الفقيه النَّحوي المتفنِّن الرحَّالة الأزهري (صالح حسين علي العشماوي التلشهابي) أبو محمد، أحد أبرز طلَّاب محدِّث الشام الشيخ بدر الدين الحسَني الدمشقي (ت 1935هـ) رحمه الله، وأحد أقران الشيخ علي الدَّقر (ت 1943م) رحمه الله.  

أقدِّم لكم هذه الترجمةَ عنه لأوَّل مرَّة، وقد أخذتُ معظم ما فيها من فوائدَ من فم الشيخ المُعمَّر صالح الحشيش التلشهابي رحمه الله، بتاريخ ٦ شُباط سنة 2009م، وكان يبلغ من العمر 95 سنة في بلدة العَجَمي، وهو المولود سنة 1914م والمتوفَّى سنة 2010م، وكان يحتفظ بجانب شهادته الشرعية بصورة كبيرة للشيخ صالح العشماوي معلَّقة على الجدار، وكان يحبُّه ويجلُّه إجلالًا عظيمًا، وبحوزتي مقاطعُ مَرئيَّة توثِّق ذلك.

۞۞۞۞

 

وُلد الشيخ صالح بن حسين بن علي العَشْماوي في بلدة تلِّ شِهاب السورية، من محافظة دَرعا في سنة 1313 هجرية الموافق لسنة 1895 ميلادية.

نشأ في صِغَره في بلدة تل شهاب، وتعلَّم في الكتَّاب كباقي أقرانه، وفي مَطلَع شبابه سافر إلى دمشقَ بلد العلماء والأدباء؛ لينهلَ من المَعِين الصافي الذي لا ينضُب.

فبدأ رحلته الأولى في طلب العلم على يد محدِّث الشام الأكبر بدر الدين الحسني؛ فدرس عنده خمس سنوات، نهل من علومه الغزيرة، فنبغ وبرَع وبدأ يدرِّس في حياة الشيخ، وكان له درسٌ يشرح فيه ألفية ابن مالك بدمشق. لم يكتفِ الشيخ صالح بما جمعَه من علم، فبدأ يفكِّر في الذهاب إلى مصر ليدرسَ في الجامع الأزهر، إلا أن وضعه المادِّي ظلَّ عائقًا له عن السفر الى مصر.

فساعده الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله وأعطاه مبلغًا من المال فتوجَّه الشيخ صالح العشماوي إلى القاهرة، ليبدأ رحلته الثانية؛ فدرسَ في الجامع الأزهر، وتخرَّج على علمائه وشيوخه الكبار، وحاز منه الشهادة الأزهرية، وقد تفوَّق على أقرانه ونال الدرجة الأولى. وكان للشيخ صالح أخٌ اسمه (محمد) يدرس معه في الأزهر، ولكنَّه لم يُكمِل وعاد إلى تلِّ شهاب.

وكان الشيخ صالح محبوبًا بين مشايخه الأزهريين المصريين، يحبُّونه ويجلُّونه حتى إن أحد مشايخه من فَرْطِ حبِّه له زوَّجه ابنتَه، وهي زوجتُه الأولى المِصرية. عاش الشيخ صالح في القاهرة مع زوجته، وعمل إمامًا في أحد مساجدها مدَّة عشرين سنة. أنجب من الأولاد: محمدًا، وعبد اللطيف، وأحمد. ومن البنات: خديجة، التي تزوَّجت من ابن عمِّها حسين مصطفى العشماوي، واستقرَّت معه في جُدَّة وأنجبت منه أولادًا وبناتٍ وتوفيت بجُدَّة نحو عام 2015م.

واستقرَّ المقام بابنه عبد اللطيف في دمشق، في حيِّ محيي الدين قربَ ركن الدين على جبل قاسيون، تزوَّج من ابنة عمِّه مصطفى وأنجب منها أولادًا وبناتٍ، واستقرُّوا جميعًا في دمشق حتى وفاته فيها رحمه الله. ومن أولاده الطبيبُ المعروف مصطفى العشماوي.

ثم رغب الشيخ صالح في الرحيل إلى حَيفا، فسافر إليها مع أسرته، وهذه هي الرحلة الثالثة التي مكث فيها ما يقارب خمس سنوات، فاشترى بحَيفا أرضًا وبنى عليها بيتًا وسكن فيه واستقرَّ، وعمل في التدريس والدعوة، واشتَهَر هناك فأسَّس معهدًا يعلِّم فيه طلبةَ العلم، وأصبح الطلَّابُ يتوجَّهون إليه من الدول المحيطة، حتى من السُّودان كان يأتيه الطلَّابُ يطلبون علمه، فهو علَّامة حاز الفنون ومدرسةٌ وحدَه. وكان مفتي صَيدا اللبنانية يزوره، وتربطه به صداقةٌ متينة ومعرفةٌ وثيقة، ومن حبِّه له زوَّجه ابنتَه وهي الزوجة الثانية للشيخ صالح، وقد زار تلَّ شهاب وهي معه ثلاث مرَّات.

لم يُعجِب زوجتَه المصرية زواجُه الثاني، على ما جُبلَت عليه النساء من غَيرة، فعادت إلى مصر.  

وعندما حضرت الولادةُ زوجتَه الثانية ابنةَ مفتي صَيدا تعسَّرت ولادتُها، فأُجريت لها عمليةٌ قيصرية فخرج الجنين ميتًا، وأدَّت هذه العمليةُ إلى انقطاع الإنجاب فلم يُرزق منها أولادًا.

وبقي الشيخ صالح في حيفا وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية على حُكم الإنكليز لفلسطين ما بين سنة 1936 و1939م، كادَ له عملاءُ الإنكليز الحاقدون عليه، واتَّهَموه بأنه يحرِّض الثوَّار على الإنكليز، فسُجن بسبب ذلك، فتدخَّل الملك فاروق - آخرُ ملوك مصر، حكمَ من سنة 1936 إلى 1952 م - فأخرجه من السجن؛ لمكانته العلمية الأزهرية. وبعد مدَّة من خروجه من السجن جاءه مسؤولٌ في حيفا وقال له: إن الإنكليز يمكُرون بك، ويدبِّرون لك مَكيدةً ليتخلَّصوا منك، فاخرُج من فلسطين.

فاستجابَ الشيخ لهذا المسؤول وأخذ بنُصحه، فخرج من فلسطين بمساعدته وتوجَّه إلى السعودية مع زوجته الثانية، وأقام في مكَّة المكرَّمة في عهد الملك المؤسِّس عبد العزيز آل سعود رحمه الله ملك السعودية، الذي حكم من سنة 1932 إلى 1952م، وهذه هي رحلته الرابعة الأخيرة. ورحَّب به أحدُ مسؤولي مكة المكرمة، وبعد استقراره هناك عُيِّن مدرِّسًا في الحرم المكي، وأقبل عليه الطلَّابُ يتعلَّمون من علومه وفنونه.

وبعد مدَّة من إقامته بمكة تزوَّج امرأةً فاضلة من أبها في جنوبيِّ السعودية، سنة 1947م الموافق لسنة 1366 هجرية، وهي الزوجة الثالثة، وأنجب منها: بنتًا فقط.

وفي سنة 1955م تقريبًا الموافق لسنة 1374 هجرية، تزوَّج الشيخ صالح امرأةً فاضلة من قبيلة غامِد في جنوبيِّ المملكة في مِنطَقة الباحة من قرية (عَراء)، وهي الزوجة الرابعة له، وأنجب منها من الأولاد: عبد الرحمن العشماوي الشاعر المعروف، وهو من أبرز شعراء العصر المشهورين في العالم الإسلامي، ولد سنة 1956م، والابن الثاني: الشيخ الفاضل طاهر العشماوي. ومن البنات أربعًا.

ولم يُخفِ الشيخ صالح حبَّه لبلده الأصلي تل شهاب، فبقي يزورها ويتردَّد إليها كثيرًا.

واستمرَّ الشيخ صالح العشماوي رحمه الله مدرِّسًا للعلوم الشرعية واللغة العربية وعلم المواريث في المسجد الحرام لأكثرَ من ثلاثين سنة. وله تلاميذُ ما زالوا على قيد الحياة منهم الشيخ سعد المليص الغامدي متَّعه الله بالصحَّة والعافية.

وبقي الشيخ صالح معطاءً إلى أن وافته المنيَّةُ في مدينة جُدَّة سنة 1388ﻫ الموافق لسنة 1968م عن 73 سنة، رحمه الله وأرضاه، وأدخله فسيح جنَّاته، وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاء.

۞۞۞۞

 

وفي الخاتمة لا يسعُني إلا أن أشكرَ ابنَه الفاضل الشيخ طاهر العشماوي حفظه الله، على ما قدَّمه لي من معلومات مفيدة، فجزاه الله خيرًا وبارك في عمره. وحفظ الله لنا ابنَه الآخَر فضيلة الدكتور الشاعر عبد الرحمن العشماوي، وأنا أعدُّه الشاعرَ الأول في عصرنا الحاضر أمدَّ الله في عمره، وجمعنا بهم على طاعته.

 

كتبها: مهنَّد قاسم المسالمة

مدينة درعا 28 أكتوبر