الصبر في القرآن الكريم

 

الصبر من أبرز الأخلاق القرآنية التي عني بها الكتاب العزيز في سورة المكية والمدنية. وهو أكثر خُلق-بضم الخاء-تكرر ذكره‏ في القرآن. 

يقول الإمام الغزالي في كتاب‏ (الصبر والشكر) من (ربع‏ المنجيات) من كتابه: (إحياء علوم‏ الدين): ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا ـ إحياء علوم الدين ج4ص61 د دار المعارف بيروت ـ . 

وينقل العلامة ابن القيم في (مدارج السالكين)عن الإمام‏ أحمد قوله: الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا ـ مدارج السالكين ج 2 ـ . 

وكذلك ينقل أبو طالب المكي في (قوت القلوب)عن بعض العلماء قوله: أي شي‏ء أفضل من الصبر،  وقد ذكره الله تعالى في كتابه في نيف‏ وتسعين موضعاً؟!

ولا نعلم شيئا ذكره الله تعالى‏ هذا العدد إلا الصبر ـ قوت القلوب ج 1 ص197!

والناظر في (المعجم المفهرس‏ لألفاظ القرآن الكريم) يجد مادة (ص ب ر) بكل مشتقاتها قد وردت‏ في القرآن مائة مرة وبضع مرات. 

ولا تنافي في رأيي بين هذه‏ التقديرات على اختلافها، وبين‏ الإحصاء الرقمي للمعجم المفهرس، لأن الموضع الواحد قد ذكر فيه مادة (ص ب ر) أكثر من مرة فيحسبها  بعضهم موضعا واحدا، وبعضهم‏ موضعين أو أكثر. مثال ذلك في قوله‏ تعالى في أواخر سورة(النحل): [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ علىهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ] {النحل:127}  .

فالمادة هنا ذكرت أربع مرات في آتين، بحيث يمكن أن تحسب موضعا واحدا، وأن تحسب موضعين‏ باعتبارين. وفي قصة موسي مع العبد الصالح في سورة الكهف ـ الآيات 67 وما بعدها ـ تردد ذكر الصبر عدة مرات، ويمكن‏ اعتبارها كلها موضعاً واحداً. 

وقوله تعالى: [وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ] {الأحزاب:35} موضع واحد بلا شك... وهكذا. 

والصبر في اللغة: الحبس والكف.  ومنه: قتل فلان صبرا، اذا أمسك‏ وحبس. 

ومنه قوله تعالى: [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ] {الكهف:28} أي احبس نفسك‏ معهم. 

ويقال الصبر: الجزع. كما في قوله تعالى على لسان أهل النار: [سَوَاءٌ علىنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ] {إبراهيم:21}. 

وهو في القرآن يعني: حبس‏ النفس على ما تكره، ابتغاء مرضاة الله كما قال تعالى:  [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ] {الرعد:22}. 

وما تكرهه النفس أنواع وألوان‏ شتي، ولهذا تتسع دائرة الصبر فتشمل مجالات رحبة أكثر مما يقف‏ عنده -عادة كثير من الناس اذا ذكرت كلمة(الصبر). 

ويقول الإمام الغزالي: 

(اعلم أن الصبر ضربان): 

أحدهما: ضرب بدني، كتحمل‏ المشاق بالبدن والثبات علىها، وهو الصبر في القرآن 

أما بالفعل، كتعاطي الأعمال الشاقة،  أما من العبادات أو من غيرها.  وأما بالاحتمال كالصبر على الضرب‏ الشديد، والمرض العظيم،  والجراحات الهائلة. 

قال الغزالي: وذلك قد يكون‏ محموداً إذا وافق الشرع. 

ولكن المحمود التام هو الضرب‏ الآخر، وهو الصبر النفسي عن‏ مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى. 

ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة. 

وان كان على احتمال مكروه‏ اختلفت أساميه عند الناس باختلاف‏ المكروه الذي غلب عليه الصبر. 

فان كان في مصيبة اقتصر على‏ اسم (الصبر) وتضاده حالة تسمي‏ (الجزع والهلع) وهو إطلاق داعي‏ الهوى ليسترسل في رفع الصوت، وضرب الخدود، وشق الجيوب‏ وغيرها. 

وإن كان في احتمال الغني مسي‏ (ضبط النفس) وتضاده حالة تسمي (البطر). 

وإن كان في حرب ومقاتلة سمي(شجاعة) ويضاده (الجبن). 

وإن كان في كظم الغيظ والغضب‏ سمي(حلما) ويضاده (التذمر). 

وإن كان في نائبة من نوائب‏ الزمان مضجرة، سمي (سعة الصدر) ويضاده (الضجر والتبرم وضيق‏ الصدر). 

وإن كان في إخفاء كلام سمي‏ (كتمان السر) وسمي صاحبه‏ (كتوما) وإن كان عند فضول‏ العيش سمي(زهداً) ويضاده‏ (الحرص). 

وإن كان صبراً على قدر يسير من‏ الحظوظ سمي(قناعة) ويضاده‏ (الشره) فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر. 

ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال (هو الصبر) لأنه‏ أكثر أعماله وأعزها، كما قال‏ (الحج عرفة). 

وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك، وسمي الكل صبرا فقال تعالى: [وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ (أي المصيبة) وَالضَّرَّاءِ (أي الفقر)وَحِينَ البَأْسِ(أي المحاربة) أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177} 

فإذن هذه أقسام الصبر باختلاف‏ متعلقاتها، ومن يأخذ المعاني من‏ الأسامي يظن أن هذه الأحوال‏ مختلفة في ذواتها وحقائقها، من حيث‏ رأى الأسامي مختلفة والذي يسلك‏ الطريق المستقيم، وينظر بنور الله‏ تعالى يلحظ المعاني أولا، فيطلع‏ على حقائقها، ثم يلاحظ الأسامي‏ فإنها وضعت دالة على المعاني. 

فالمعاني هو الأصول والألفاظ هي التوابع. ومن يطلب الأصول‏ من التوابع لا بد أن يزل)ـ إحياء علوم الدين ج4ص66 ـ وهذا كلام نفيس، وتحقيق جليل. 

ومن هنا نفهم كيف جعل القرآن‏ الصبر وحده مناط الفلاح في الآخرة ودخول الجنة واستحقاق التحية من‏ الملائكة، وذلك في مثل قوله تعالى‏ في شأن الأبرار من عباده:  [وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] {الإنسان:12} . وفي شأن عباد الرحمن ‏ [أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ (أي الجنة)بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا] {الفرقان:75} . وفي شأن أولي الألباب من عباده الأخيار [سَلَامٌ علىكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَي الدَّارِ] {الرعد:24} 

فالصبر هنا يحمل في طياته جملة شعب الإيمان‏ وأخلاق الإسلام. 

الصبر خصيصة إنسانية: 

ولما كان الإنسان هو المخلوق‏ العاقل المكلف المبتلي، كان الصبر خصيصة من خصائصه المميزة. 

يقول الإمام الغزالي في تحليل‏ معني الصبر وبيان حقيقته: 

(الصبر خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك في البهائم ولا الملائكة، أما البهائم فلنقصانها، وأما الملائكة فلكمالها. 

وبيانه: أن البهائم سلطت علىها الشهوات، وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون‏ إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم‏ الشهوة وتردها عن مقتضاها، حتى‏ يسمي ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضي الشهوة (صبراً). 

وأما الملائكة علبهم السلام، فإنهم‏ جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها،  ولم تسلط علبهم شهوة صادفة صادة عنها، حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف. 

وأما الإنسان فانه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة، لم يخلق‏ فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج‏ إلىه، ثم تظهر شهوة اللعب والزينة،  ثم شهوة النكاح (الشهوة الجنسية) على الترتيب.  وليس له(يعني في طفولته) قوة الصبر البتة. إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر، قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما. وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم. 

ثم يبين الإمام الغزالي أن الله تعالى‏ بفضله وسعة جوده، أكرم الإنسان‏ ورفع درجته عن البهائم، فأمده‏ -عند مقاربة البلوغ-بقوتين: قوة تهديه إلى معرفة الحقائق الكبيرة،  بها يعرف الله ورسوله، ويعرف‏ المصالح المتعلقة بالعواقب وبها يتميز عن البهيمة التي لا تهتدي إلا إلى‏ مقتضي شهواتها في الحال فقط فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن أتباع‏ الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة. 

وقوة أخري مكملة للأولي تؤيد الإنسان وتشد أزره في معركته مع‏ الهوى وجند الشيطان، بها يدفع‏ في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك‏ القوة، حتى يدفع عداوتها عن‏ نفسه. 

قال الغزالي: (فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع‏ الشهوات وقهرها (باعثا دينيا) ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها (باعث الهوى) وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى،  والحرب بينهما سجال، ومعركة هذا القتال قلب العبد. ومدد باعث‏ الدين من الملائكة الناصرين لحزب‏ الله تعالى، ومدد باعث الشهوة من‏ الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى.  فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين‏ في مقابلة باعث الشهوة. فان ثبت‏ حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله، والتحق‏ بالصابرين. وان تخاذل وضعف‏ حتى غلبته الشهوة ولم يبر في دفعها التحق باتباع الشياطين‏) ـ إحياء علوم الدين ج 4 ص62ـ63هـ. 

ضرورة الصبر

وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر، إلى ما له من قيمة كبيرة دينية وخلقية، فليس هو من الفضائل‏ الثانوية أو المكملة، بل هو ضرورة لازمة للإنسان ليرقي ماديا ومعنويا،  ويسعد فرديا واجتماعيا، فلا ينتصر دين ولا تنهض دنيا إلا بالصبر. 

الصبر ضرورة إنسانية: 

فالصبر ضرورة دنيوية، كما هو ضرورة دينية. 

فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح‏ في الآخرة إلا بالصبر. 

في الدنيا: لا تتحقق الآمال،  ولا تنجح المقاصد، ولا يؤتي عمل‏ أكله، إلا الصبر، فمن صبر ظفر،  ومن عدم الصبر لم يظفر بشي‏ء. 

لولا صبر الزارع على بذر.  ما حصد، ولولا صبر الغارس على‏ غرسه ما جني. 

ولولا صبر الطالب على درسه‏ ما تخرج. ولولا صبر المقاتل في ساح‏ الوغى ما انتصر. وهكذا كل‏ الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم‏ بالصبر، استمرأوا المر، واستعذبوا العذاب واستهانوا بالصعاب، ومشوا على الشوك، وحفروا الصخور بالأظافر، ولم يبالوا بالأحجار تقف في طريقهم. والطعنات‏ تغرس في ظهورهم، وبالشراك‏ تنصب للايقاع بهم، وبالكلاب تنبح‏ من حولهم، بل مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقفين. مغضين الأعين‏ على القذى، ساحبين الذيول على‏  لأذى، متذرعين بالعزيمة. مسلحين‏ بالصبر، وصدق الشاعر القائل: 

وقل من جد في أمر يحاوله‏=واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

قد يعثرون ثم لا يلبثون أن‏ ينهضوا، وقد يخطئون ثم يوشكون‏ أن يصيبوا قد يجرحون ثم لا يلبث‏ جرحهم أن يندمل. وقد يفشلون‏ مرة ومرة فلا يلقون السلاح‏ ولا يستسلمون لليأس، ولا يفقدون‏ نور الأمل. شعارهم قول الشاعر الحكيم: 

لا تيأسن وان طالت مطالبه=إذا استعنت بصبر أن تري فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظي بحاجته= ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

لقد عرف عشاق المجد، وخطاب‏ للعالي، وطلاب السيادة، أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة، لا تنال‏ إلا بركوب متن المشقات، وتجرع‏ غصص الآلام والصبر عن كثير مما يحب، وعلى كثير مما يكره.  وبدون هذا لا يتم عمل، ولا يتحقق‏ أمل، ومن تخيل غير هذا الطريق‏ كان كالذي قال لابن سيرين: إني‏ رأيتني في النوم أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح!! فقال له: أنت‏ رجل كثير الأماني والأحلام: تتمني‏ ما لا يقع، وتحلم بما لا يتحقق!!

وفي شعر الحكم نقرأ كثيرا في هذا المعني. يقول أحدهم: 

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله= لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

ويقول المتنبي، وقد كان طموحا لمنصب الولاية: 

لا يبلغ المجد إلا سيد فطن=لما يشق على السادات فعال

لولا المشقة ساد الناس كلهم= الجود يفقر، والإقدام قتال!

وفي قصيدة أخري يقول مخاطبا نفسه: 

ذريني أنل ما لا ينال من العلا= فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل!

تريدين إدراك المعالي رخيصة= ولا بد دون الشهد من إبر النحل!!

وإذا كانت هذه طبيعة الطريق‏ الموصل إلى العلا والمجد، فلا سبيل إلى إجتيازها إلا بالصبر، ولا يقدر علىها إلا الصابرون. 

والصبر مفتاح ما يرجي= وكل صعب به يهون

فاصبر وان طالت الليالي= فربما أسلس الحرون

وربما نيل باصطبار= ما قيل: هيهات لا يكون

هذا إذا نظرنا إلى النجاح في الدنيا. فكيف إذا نظرنا إلى الفلاح‏ في الآخرة؟!إن الحاجة إلى الصبر تبدو هنا أوكد، والضرورة إلىه‏ أشد وألزم. 

يقول أبو طالب المكي في كتابه‏ (قوت القلوب): 

(اعلم أن الصبر سبب دخول‏ الجنة، وسبب النجاة من النار، لأنه جاء في الخبر: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.  فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره، ليدخل الجنة، وإلى صبر عن‏ الشهوات، لينجو من النار) قوت القلوب ج 1ص200. 

وفي مقام آخر يقول: (واعلم‏ أن كثرة معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، قلة الصبر على ما يكرهون‏) ـ المرجع السابق ـ . 

الصبر إذن ضرورة للناس عامة وللمؤمنين خاصة. 

والقرآن يشير إلى ضرورة الصبر وأهميته، حين يحدثنا عن خلق‏ الإنسان وما حف به من ابتلاء ومكابدة ومعاناة. 

يقول تعالى: [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا] {الإنسان:2} .

ويقول:  [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ] {البلد:4} .

أي في شدة ومشقة،  لما يعانيه منذ مولده من شدائد الحياة الممزوجة اللذات بالآلام،  وما يعانيه بعد بلوغه من الابتلاء بالمسئولية وأمانة التكليف، التي‏ تنوء بحملها السموات والأرض‏ والجبال وما يعانيه من الناس من‏ حدة اللسان، وأذى البد وحسد النفس. 

ضرورة الصبر للمؤمنين: 

وإذا كان هذا شأن الإنسان بصفة عامة، فأهل الإيمان-على وجه‏ خاص-أشد تعرضا للأذى والمحن‏ والابتلاء في أموالهم وأنفسهم وكل‏ عزيز لديهم فقد اقتضي نظام الكون‏ أن يكون لهم أعداء يمكرون بهم‏ ويكيدون لهم ويتربصون بهم‏ الدوائر، كذلك جعل الله لآدم‏ إبليس، ولإبراهيم نمروذ، ولموسى فرعون، ولمحمد أبا جهل.  وأمثاله

[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا] {الأنعام:112} 

وكذلك يكون المؤمنون من أتباع‏ الأنبياء، هم أشد الناس بلاء بعد الأنبياء الأمثل فالأمثل. 

ومن ظن أن طريق الإيمان مفروشة بالأزهار والرياحين، فقد جهل طبيعة الإيمان. بالرسالات، وطبيعة أعداء الرسالات. 

ولعل هذا الحسبان أوالوهم‏ داخل نفوس بعض المؤمنين في العهد المكي بعد أن أصابهم من العذاب‏ ما أصابهم، فنزل قوله تعالى: [ألم  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت:3} .. 

بل في العهد المدني نجد القرآن‏ المدني ينفي مثل هذا الحسبان الواهم‏ في مثل قوله تعالى في سورة البقرة: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214} .

الجنة إذن لا بد لها من ثمن،  وهي سلعة الله، وهي سلعة غالية فلا مفر من الثمن. وقد دفعه‏ أصحاب الدعوات من قبل، فلا بد أن يدفعه إخوانهم من بعد. وهذا هو ثمن الجنة: الصبر على البأساء تصيب الأموال والضراء تصيب‏ الأبدان، والزلزلة تصيب النفوس.  ولا بد أن يبلغ هذا الزلزال النفسي‏ من الشدة إلى حد يقول عنده‏ الرسول-أي رسول-والذين‏ آمنوا معه: متى نصر الله؟يستبطئونه‏ فقد طال انتظارهم له، وطالت فترة الأذى علبهم، وطالت شماتة العدو بهم، فمتى بجي‏ء إذن نصر الله‏ الموعود؟!

وفي أعقاب غزوة أحد، التي مس‏ المسلمين فيها من القرح ما مسهم،  وفقدوا سبعين شهيدا من أبطالهم،  ينزل القرآن فيقول: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:142} 

وفي سورة التوبة:  [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {التوبة:16} 

ومن هنا أمر القرآن المؤمنين أن‏ يستعينوا بعدتي الصبر والصلاة على ما يواجههم من محن في سبيل‏ دعوتهم، فقال تعالى في سورة البقرة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:153} 

ثم عزاهم‏ فيمن فقدوا من أحبابهم ممن اتخذهم‏ الله شهداء فقال: 

 [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ] {البقرة:154} 

ثم بيَّن ما ينتظرهم من ألوان‏ البلاء مؤكدا ذلك بلام القسم،  ونون التوكيد، إذ يقول: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] {البقرة:155} 

فالبلاء هنا بلاء عام، يصيب‏ القلوب بالخوف، والبطون بالجوع،  والأموال بالنقص، والأنفس بالموت،  والثمرات بالآفات، ومن لطف الله‏ تعالى ورحمته هنا أنه جعل البلاء (بشي‏ء من الخوف والجوع‏ ونقص. . الخ)وتنكير(شي‏ء) هنا-كما يدل علبه السياق- للتقليل والتحقير؛ لأن ما هو أكثر وأكبر لا يطيقونه، فمسهم بشي‏ء قليل ضئيل من البلاء، تخفيفا عنهم،  ورحمة بهم، وتقديرا لضعفهم. 

ومثل هذا التأكيد على ضرورة البلاء للمؤمنين خاصة ما جاء في قوله‏ تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {آل عمران:186} 

وهنا نجد الآية تقرن بين أهل الكتاب والمشركين‏ في إيذاء المؤمنين، مع اختلافهما في الذين والوجهة، ولكن هذا الاختلاف يزول عند ما يكون العدو هو أهل الإيمان والتوحيد. كما رأينا اليهود يتفقون مع المشركين‏ الوثنيين في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما نري في عصرنا كيف‏ تتفق الصهيونية العالمية والشيوعية الدولية، والصليبية الغربية والشرقية على أمة الإسلام ودعوة الإسلام،  ولهذا قال علماؤنا: الكفر كله ملة واحدة، وقال الله تعالى: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] {الأنفال:73} 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . 

المصدر :  مجلة الأزهر السنة 49 ربيع الآخر 1397هـ الجزء الرابع. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين