الظفر بذات الدين

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها، ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك ) .رواه الشيخان ( ) .

المفردات 

الحسب : ما بعده الناس من مفاخر الآباء ، مأخوذٌ من الحساب ؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدُّوا  مناقبهم ومآثر قومهم ، ثم حكموا لمن كان أكثرهم مناقب وأوفاهم شرفاً .

والحسب أيضاً الفعال الحسن ، كالجود ، والشجاعة ، وحسن الخلق . وقد حسب حسباً فهو حسيب .

وتربت يداه :  في أصل كلامهم دعاءٌ عليه ، كأنه أفتقر حتى لصق بالتراب . لكنهم أكثروا استعمال هذه الكلمة ، وتوسعوا فيها حتى  أخرجوها عن حقيقتها ، قصداً إلى الإنكار ، أو التعجب ، أو التعظيم ، أو الحث كما هنا . وللعرب كلما تجري على ألسنتهم ولا يريدون بها معناها الأول . ومن هذا القبيل قاتله الله ؛ لا أب له ، لا أم له .

المعنى 

عادات الناس في الزواج :

يحدثنا صلوات الله وسلامه عليه عن عادات الناس في الزواج ، ويحلِّل رغباتهم فيه تحليلاً لا يدع لباحث قولاً ؛ يبيِّن أن تُقصد المرأة لمالها ليستمتع به الزوج في حياته ، ويورثه أولاده منها بعد مماته ، ويخفف به أثقال العيش وأعباء الحياة . وإما أن تُراد لحسبها ، يبتغي زوجها العزة بقومها والمنزلة بشرفها وجاهها ؛ والمصاهرة لحمة كلحمة النسب . وإما أن ترغب لجمالها ، إذ كان الزوج عبد الهوى وأسير الشهوات .

سوء اختيار الزوجة ومغبته :

تلك شئون الكثيرة الكاثرة من الناس إذ يَقْصدون إلى النكاح . وما أسوأ العاقبة ، وأنكد الحياة ، إذا أستحوذت المرأة على الرجل فاستعبدته بمالها ، أو اقتنصته في شرك حسبها وجمالها ! هنا لك تكون هي القيَّمة على الزوج ، والحاكمة بأمرها والمستبدة برأيها ، ويكون الزوج هو العبد المطيع ، والذليل المسخَّر لما تريد المرأة وتهوى ، وهنالك الطامة الكبرى ، والبلاء الأعظم .

اختيار المرأة الصالحة وأثره :

أما الكَمَلَةُ من الرجال _ وما أقلَّهم _ فهم الذين يرغبون في المرأة لدينها ؛ فيجدون فيها السكَنَ لنفوسهم ، والطمأنينة لقلوبهم ، والأمن على أموالهم وأعراضهم .

ذلك بأن الحسب عندهم هو التقى ، وأن الغنى غنى النفس ، وأن الجمال هو جمال الدين والخلق .

لكن الله تعالى يُهيب لهم من ذوات الدين ما فقدوا وخيراً مما فقدوا من ذوات الحسب والنسب ، وربات المال والجمال .

وفي الدين الخير كلُّه لمن باع الحياة الدنيا بالآخرة فربحهما جميعاً ؛ وفي الدنيا الرُّ كله لمن أشترى الفانية بالباقية فخسرهما جميعاً ؛ ومصداق ذلك وما رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  : ( من تزوَّج امرأة لعزِّها لم يزده الله إلا ذلاً ، ومن تزوَّجها لما لها لم يزده الله إلا فقراً ، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءةً ، ومن تزوج امرأة لم يرد بها أن يغضَّ بصره ، ويُحصن فرجَه ، أو يَصِلَ رحمه ، بارك الله له فيها وبارك لها فيه) ( )  . وفي تجاريب الحياة معتبرة وذكرى 

علاوة في الفضل وزيادة في الحسنى

وغنيٌ عن البيان أنَّه صلوات الله وسلامه عليه إنما يرغِّب عن ذوات الحسب ، والنسب ، والجمال ، إذا عَرَين عن الدين ، وتجرَّدن من فضائله . وأما إذا تحلت ذات الدين بخصلة من الخصال الثلاث ، أو بهنَّ  جميعاً فذلك علاوة في الفضل ، وزيادة في الحسنى ، لا يلأباها الدين الحنيف ، بل يدعو إليها ، ومن ثم نراه ينفِّر من نكاح المرأة الوضيعة الحسَب ، أو المجهولة النسب إلا من أمثالها ؛ لأن العرقِ دسَّاس ،  وكل إناءٍ بما فيه ينضح ، كما نراه يرغِّب في النظر إلى المرأة حين خطبتها خشيةَ أن يُخدع فيها فيعاشرها على مَضَضٍ ، أو يفارقها على نكد .

وقد حظيت أمهات المؤمنين _ لا سيما خديجة وعائشة ، رضوان الله عليهن _ بهذه المناقب أو أكثرها مضافة إلى الدين والخلق والأسوة الحسنة والتربية الرشيدة . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

وجملة القول أن الدين هو الأساس الأول ، لمن يختارها الرجل شريكة حياته ، وموضع ثقته ومثابة هناءته وسعادته ، فإذا حظي فيها بمنقبة فوق ذلك فما أخلقه بشكر النعمة وتقوى الله فيها .

بم تعرف المرأة الصالحة ؟

وتُعرف ذات الدين بالمنبت الكريم ، والبيئة الصالحة ، والبيت التقي المهذَّب ، والسيرة النقية الطاهرة .

ومهما أوغل الناس في الفساد والغش ، وَسَرَتْ عدوى الرذيلة إلى الفضيلة ، وأشتبهت المسالك فإن للصلاح نوراً يبدِّد الظلام ، ويخترق الحجب ، ويدل روَّاده عليه ويهديهم السبيل إليه . فإن عثر بعد قصد صحيح ذو قلب سليم ، وطوية صالحة _ وقلما يعثر _ فسرعان مايقوم على قدميه مطمئنة نفسه ، ذاهبة كربته [وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] {طه:132}  .

ويتصل بالأغراض السابقة مانرى الآن من ثقافات المرأة المختلفة ، وفنون تربيتها المتكاثرة فما كان منها في الخلق والأدب ، وواجبات الزوجية والأمومة ، وحقوق البيت والولد _ فهو راجع إلى دينها .

وما كان منها ، وهو الأعم الأغلب ، في فنون العيش ، ومزاحمة الرجال ، وضروب الزينة ، ومفاتن الحياة، _ فهو مردودٌ إلى المقاصد الأخرى في زواجها . 

والذي نعنيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبان أمهات الأغراض في النكاح ، وأن ماجدَّ في المدينة الزائفة ، والحضارة المقيتة ، فهو متشعِّب عنها ومردود إليها ، وأن الدين _ ومنه التربية الرشيدة _ لا يزال هو المقْصد الأسمى ، والمطْمح الأعلى ، لمن يبتغي عزَّةً خالصة ، وحياة طيبة .

اختيار الرجل الصالح :  

وكما ينبغي للرجل أن يبحث عن ذات الدين فيظفر بها ، ينبغي كذلك للمرأة أو وليها أن يتخَّير ذا الدين والخلق فيظفرا به ، وهنالك توضع اللِبنَن الأولى في بناء البيت الصالح التقي ، والأسرة الكريمة المهذبة ، بل الأمة المرهوبة الجناب ، الرفيعة المنزلة .

الكفاءة بين الزوجين :

ومما هو جدير بالنظر ، رعاية المشاركة بين الزوجين في حظوظ هذه الدنيا ؛ فقد حدثنا التاريخ ، وأرتنا المشاهدات ، أنَّ المرأة لا تحتفل بمن كان دونها حسباً ، أو مالاً ، أو ثقافة ؛ فَتَضْطرب الحياة الزوجية حينئذ ، وتسوء مغبتها ، وأما إذا كان الزوج أكثر مالاً وأعز نفراً ، فهو الرجل عندها كل الرجل .

ولما كان للحسب من بين الحظوظ مكانته الأولى ، وقدَّرته الشريعة الغراء قَدْره ، وحلَّت عقدة النكاح إذا خدعت المرأة بزوج لم يكن لها كفؤاً . 

تنشئة البيت على الدين والخلق :

وكما في تعبيره صلى الله عليه وسلم بالظفر ، الذي هو البغية ومُنْتهى الأمل _ إثارة للرغبة الصادقة في المرأة الصالحة ؛ فيه كذلك إشارة واضحة إلى أولياء البنت والقوَّمين عليها ، أن ينشئوها على الدين والفضيلة ، وحقوق الزوج والمنزل . فليعلموا أنها تربة الولد ومنبته ، وعماد هذا الوجود وبهجته ، وأنهل خُلقت سريعة التأثر بما تنشأ عليه من خير وشر ، قوية التأثير بما طبعت عليه أو تأثرت به .

فهي _ ولا مراء _ أشدُّ من الرجل إثارة وأبلغ في النفوس تأثيراً ؛ لأنّ عقلها من وراء قلبها ، وأما الرجل فإن قلبه من وراء عقله . وشتان ما بين النهجين .

وكم رأينا من زوجة صالحةٍ أنقذت زوجها من بُؤْرة الفساد ، وهدته السبيل السوى ، وأخرى فاسدة عكست عليه أمره وفتنته في دينه ، وكانت نكداً له ووبالاً عليه .

وقلما نرى رجلاً صالحاً قوَّم زوجه المعوجة وغيَّر من طباعها . ومن هنا كانت العناية باختيار المرأة الصالحة أشد من العناية باختيار الرجل الصالح .

مصابنا في بيوتنا وأولادنا :

أما بعد ، فإذا راعك هول مصابنا في بيوتنا وأولادنا ، بل في أموالنا وأخلاقنا ، فاعلم أنَّ أساس ذلك كله هو المرأة ؛ ذلك بأنها عندنا واحدة من أثنتين ؛ جاهلة خرقاء ، مظلمة القلب والبصيرة ، صرفهها وجهلها عن الخير ، وأرادها خَرَقُها في الشر ؛ ومتعلمة ثرثارة ، أسِّفت في اللهو والترف ، وتسكَّعت في المجامع والأندية ، وثارت على الأهل والولد ، فكانت شراً من أختها وأضل سبيلا ! .

مصابنا في أحجام الشباب عن الزواج :

وإلى رسوخ الجهل ، وسوء التربية ، وإن شئت فقل إلى عُرى المرأة من الدين 

والفضيلة ، يردُّ مصابنا في إضْراب فريق من الشباب عن الزواج ، وإيثار فريق آخر غير المسلمة  على المسلمة ، حتى عرضت الفتاة في الطرقات والأسواق كما تعرض السلع للتجارة ظناً من

 أهلها وذويها أن ذلك يرغِّب الشبان فيها ، مع أن هذا لا يزيدها عندهم إلا حقارة ولإزدراءً ، ولا يزدادون به إلا نفوراً وإباءً . ومن وراء الإحجام عن الزواج انحلال الأمة ، وتقويض بنائها ، وضياع أخلاقها .

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت  فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

كلمة إلى ولاة الأمور :

فإذا كانت المرأة كما يقول علماء الاجتماع بحق _ أساس نهضة الأمم وفخارها ، ومبعث قوتها وآمالها ، وعنوان عزها وسعادتها ، إذا صلحت صلح المجتمع كلُّه وإذا فسدت فسد المجتمع كلُّه ؛ إذا كانت كذلك فلينظر ولاة الأمور والقوَّامون على التربية أين يضعونها ؟ وليعلموا أنَّ الله سائلهم عن شرعتها ومنهاجها ، وليوطِّنوا أنفسهم على أن يجعلوا الدين عمادها والفضيلة ملاكها ، وإلا جَنضوا عليها ، وفقدوا خلقها ؛ وإذاً لا يجحدون العلم إلا مدرجة للشر وسبيلاً إلى الفساد [وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا] {الأعراف:58}  .

* * *

المصدر: مجلة الأزهر ، العدد التاسع ، المجلد الخامس ، سنة (1363).

 

( ) أخرجه البخاري (5090) في النكاح ، ومسلم (1466) في الرضاع.

( ) أخرجه الطبراني في الأوسط (2342) وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 4 :254 فيه عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب ، وهو ضعيف

بعناية الشيخ مجد مكي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين