العلامة الفقيه عبد المجيد معاذ

رحيل العلامة المربي الفقيه الأستاذ الدكتور عبد المجيد معَّاز، و(مُعَاذ) كما كان يحب، عن عمر تجاوز الثمانين.

والشيخ رحمه الله أحد أعمدة العلم في حلب الشهباء، وأحد فقهائها الراسخين.

 عرفت الفقيد منذ أن كنت طالباً في المدرسة الشعبانية، فقد كان أستاذاً بها، يدرِّس الفقه وأصوله، وكان صاحب سمت ووقار، مع صلاح وتقى.

وكان مقرَّباً من شيخنا العلامة المحدث الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله، شديد الصلة به، وكان يجلسه بجانبه في مجالس قراءة صحيح البخاري في المدرسة الشعبانية..

ثم كتب الله لنا معه الحج سنة ١٤٠٢، فرأينا من لطفه وأخلاقه وعلمه ما زادنا حباً له، وتقديراً لعلمه وفضله.

وللشيخ بحوث كثيرة وعدة مؤلفات وفتاوى، وله جهد في التحقيق، من ذلك: رسالته للدكتوراة، كتاب: "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام: لبدر الدين ابن جماعة": دراسة وتحقيقاً، وقد نال بها مرتبة الشرف الأولى، عام: 1976، من جامعة الأزهر الشريف.

وهو خبير الموسوعة الفقهية  الكويتية.

⚘️مجلس فقهي من مجالسه المباركة قبل أربعين سنة!

وفي عام ١٤٠٣، كتب الله لنا الحج، فدونت ما وقع لي في رسالة سميتها، رحلتي الحجازية الثالثة، وقد رجعت إليها، فرأيت ما يأتي:

كان موعدنا لزيارة الشيخ عبد المجيد معَّاز مساء يوم السبت ٣/ محرم من سنة ١٤٠٤، بمنزله قرب جبل سلع بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فذهبنا وكان معي أخي الشيخ عبدالحكيم، فاستقبلنا برحابة صدر، وبشاشة وجه..

تحدث الشيخ عن أهمية العمل بالعلم، وأثر العلماء العاملين في المجتمع، وذكر أن دروس العلماء العاملين في تاريخنا كان لها أثر عظيم في إصلاح المجتمع، وكيف أن الدروس في حاضرنا قد كثرت، وتيسر إيصالها لأعداد كثيرة من الناس، ولكن فائدتها قليلة، وتأثيرها ضئيل، بسبب أن عدداً من المتكلمين لا يعملون بعلمهم.

ودار الحديث في هذا المجلس عن بعض المسائل الفقهية، ومنها:

⚘️١- سألته عن التصوير، فقال:

هذه مسألة كثر الكلام فيها ما بين مجيز ومانع، ومبيح ومحرِّم، قال: ولكن بعد تتبعي للمسألة، تلخص عندي ما يأتي:

للتصوير ثلاثة أنواع:

١- المنحوت سواء كان من حجر أو خشب أو غيره.

٢- الرسم باليد سواء كان صورة إنسان أو حيوان.

فهذان النوعان محرمان بالإجماع لصريح الأحاديث النبوية الواردة في النهي عن ذلك.

٣- التصوير المستحدث، المسمى: (الفوتوغرافي) وقد حصل فيه خلاف،

 فذهب قوم إلى تحريمه، وذهب قوم آخرون إلى إباحته.

ولعل قائلاً يقول: كيف تقول أنه حصل خلاف فيه، مع العلم أن النصوص صريحة في التحريم، والقاعدة الأصولية تقول: (لا اجتهاد في مورد النص)؟!

نقول: هذه القاعدة صحيحة، ولكن الخلاف يكمن في مدى انطباق الأدلة على المستحدث.

ووجه الخلاف في هذه المسألة:

هناك مشاكلة بين المرآة والصورة من حيث حصول الظل فيهما.

وهناك مخالفة من جهة أن الظل في المرآة ليس بثابت، بينما الظل في الصورة ثابت لا يزول.

فمن نظر إلى المشاكلة أباح التصوير؛ لأن النظر في المرآة مباح؛ وقد ثبت أن النبي كان ينظر إلى صورته في الماء.

ومن نظر إلى المخالفة حرَّم؛ لوجود فرق واضح بين ظل المرآة، والصورة؛ إذ إن الصورة في المرآة تزول، بينما الصورة ثابتة.

أولا: القائلون بالتحريم، وهم كثير من أهل العلم الأتقياء، وذكر منهم على سبيل المثال:

الشيخ محمد الحامد الحموي، والشيخ عبدالعزيز عيون السود الحمصي، والشيخ محمد سلقيني الحلبي، وآخرون من علماء بلاد الشام.

وقلت: ومنهم: الشيخ عبدالله سراج الدين، والشيخ أحمد قلاش، رحمهم الله تعالى.

ودليلهم:

١- عموم الأحاديث الواردة في التصوير؛ فهي تشمل كل أنواع الصور، وإن اختلفت الوسيلة للحصول عليها.

ويستثنى من هذا العموم؛

ما كان للضرورة، كنحو صورة جواز السفر، أو الهوية، أو غير ذلك من المعاملات.

قال: ومن الضرورات: الضرورة الإعلامية، بشرط أن تقدر بقدرها.

٢- إن الصورة الفوتغرافية، وإن سميناها حبس الظل، أو الانعكاس، أو غير ذلك من الأسماء، فالمآل واحد، والنتيجة واحدة، وهي صورة حسب اللغة والعرف؛ والمسميات لا تغيِّر من الحقيقة شيئاً، والأمور بمقاصدها لا بوسائلها.

ثانياً: وذهب قوم إلى إباحته، وذكر منهم عدداً من علماء مصر، منهم الشيخ بخيت المطيعي.

ودليلهم:

أن النهي الوارد عن التصوير في الأحاديث النبوية لا ينطبق على الصورة الفوتغرافية المستحدثة.

والشيخ عبدالمجيد ممن يرى التحريم، ولذلك لا تجد له صوراً في وسائل التواصل.

⚘️٢- وسألته عن مسألة نبيذ التمر عند الحنفية، فأجاب:

أجاز الإمام أبو حنيفة رحمه الله شرب نبيذ التمر، ولكن بشروط، وهي:

١- غالب الظن لا يسكر.

٢- أن لا يكون مصحوباً بآلات اللهو.

وهذا القول قد نسبه أكثر أهل المتون للإمام أبي حنيفة، لكن أكثر الشراح يرجحون قول الصاحبين بحرمته، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، يصعب معرفة الإسكار من عدمه، بسبب اختلاف المكان والزمان والأشخاص، فقد يختلف الأمر من بلد إلى آخر، حرارة وبرداً، ولذا فينبغي تجنبه اتباعاً لقول الجمهور.

على أن الإمام أبا حنيفة أجاز شربه عند التحقق من عدم الإسكار، وكونه نوعاً من أنوع العصير.

قلت: ويدل عليه ما جاء في صحيح مسلم (2005) عن ثُمامة قال: لَقِيتُ عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُهَا عَنِ النَّبِيذِ، فَدَعَتْ عَائِشَةُ جَارِيَةً حَبَشِيَّةً، فَقالَتْ: سَلْ هذِه، فإنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذُ لِرَسولِ اللهِ ، فَقالتِ الحَبَشِيَّةُ: كُنْتُ أَنْبِذُ له في سِقَاءٍ مِنَ اللَّيْلِ وَأُوكِيهِ وَأُعَلِّقُهُ، فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ منه".

قال: وتراجع هذا المسألة في كتاب فتح القدير للكمال ابن الهمام، والاختيار للموصلي، وكاب الحنفية عامة.

وسأله أخي عما يرويه البعض:

أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يسقي ضيوفه من نبيذ التمر، فإذا سكر أحدهم جلده!

فقال: هذا باطل لا أصل له.

قلت: تميز الشيخ رحمه الله بفهمه الثاقب، ودقته في تحرير المسائل الفقهية، وبتعظيم حديث رسول الله، وحب العلم وأهله وتواضعه وورعه.

وكان مدرساً في المدرسة الشعبانية، وهو معهد شرعي بحلب، ثم درَّس رحمه الله سنوات متعددة بالمعهد العالي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود، بالمدينة المنورة، ثم في جامعة الكويت، ثم رجع إلى حلب.

وقد علمت أخيراً أنه كان يعكف على اختصار حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي، ولا أدري أين وصل في ذلك.

نعزي أنفسنا ونعزي أسرة المدرسة الشعبانية والعلماء في بلاد الشام بفقيدنا العالم الجليل رحمه الله ورضي عنه وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 اللهم أكرم وفادته وأحسن عاقبته واجزه عن العلم وأهله خيرا، وعوض المسلمين خسارة رحيل علمائهم.