العلم النافع

 

 ليس العلم تحصيلَ معلومات سطحيَّة من هنا وهناك، ولكنه نورٌ يقذفه الله في قلب عبده، فيمنحه اليقين والرسوخ، ويبعد به عن القلق والاضْطراب، وهذا هو العلم النافع.

 

العلم النافع حقاً هو الذي يرى الناسُ أثرَه على صاحبه: نوراً في الوجه، وخشيةً في القلب، واستقامةً في السلوك، وصدقاً مع الله، ومع الناس، ومع النفس.

 

أما مُجرَّد التَّشدُّق بالكلام المزوَّق، والثرثرة بالقول المعسول من طرف  اللسان، دون أن يصدِّقَ القولُ العملَ، فهذا هو شأن المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويأمرون الناس بالبر وينسوْن أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، ويقرؤون الأحاديث.

 

وهو ما أنكره القرآن على بني إسرائيل: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] {البقرة:44} .

 

كأنما يشير القرآن أن مناقضة العلم للعمل، والقول للفعل، ضرب من الجنون، أو لون من الفصام الذي لا يليق بالعقلاء. 

 

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) ]. {الصَّف}. .

 

ومن قرأ الأحاديثَ النبويَّة في هذا الباب ينخلع قلبه من هوْل الوعيد الذي يتهدَّد هذا الصنف من حملة العلم، الذين سمَّاهم الإمام الغزالي: "علماء الدنيا".

 

عن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه([1])، فيدور بها كما يدور الحمار برَحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشرِّ وآتيه"([2]).

 

وعن أنس: وإنِّي سمعته يقول – يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: "مررتُ ليلة أسريَ بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون"([3]).

 

هؤلاء الذين يُحْسنون الكلام ولا يُحْسنون العمل، وينتسبون إلى العلم ولا يقومون بحقه. يكونون فتنةً على الأمة، لأنهم موضع القدوة.

 

وهناك صنفان إذا صَلَحا صلُح الناس، وإذا فسدا فسدَ الناس، الأمراء والعلماء. ورحم الله الشاعر الذي قال:

 

يا أيها العلماء يا مِلح البلد        ما يصلح الملحَ إذا الملح فسد؟!

 

وهذا مَا كان يخافه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أمَّته، فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: حذَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  كلَّ منافق عليمِ اللسان([4]).

 

وعن عمران بن حصين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي: كل منافق عليم اللسان"([5]).

 

وعن عليِّ بن أبي طالب مرفوعاً: "إني لا أتَخوَّف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً. فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوَّف عليكم منافقاً عالم اللسان. يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون"([6]).

 

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"العلم علمان: علمٌ في القلب، فذاك العلم النافع، وعلمٌ على اللسان، فذلك حُجَّة الله على ابن آدم"([7]).

 

فعلم المرء إما حُجَّةٌ له – وذلك إذا عمل به- وإما حُجَّةٌ عليه إذا أصبح مجرَّد حامل له. شأن اليهود الذين حملوا التوراة كلاماً، ولم يحملوها عملاً والتزاماً، فكانوا كما قال الله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا] {الجمعة:5}  أو كذلك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، ولم يرتفع بها من حضيض الماديَّة في التفكير والحيوانيَّة في السلوك: [وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ] {الأعراف:176} .

 

ومن ثَمَّ كان رسول الله r يستعيذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وهو العلم الذي ينفصل عن الأخلاق، لأنه يصبح وبالاً على صاحبه، وقد يكون وبالاً على مَنْ حوله كذلك.

 

فعن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها"([8]).

 

هذا النوع من العلماء الذين تُكذِّب أفعالُهم أقوالَهم، وسريرتُهم علانيَّتَهم، يمثِّلون فتنة لجمهور الناس، لأنَّ الناس يتأثرون بالحال أكثر من التأثر بالمقال، حتى قيل: حال رجل في ألف رجل أبلغُ من مقال ألف رجل في رجل.

 

ومهما حاولت أن تقول للناس: خُذوا من العالم علمه، ودعوا عمله. أو كما قال الشاعر:

 

اعمل بعلمي وإنْ قصَّرت في عملي

ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري!

فإن الناس لن يسمعوا لك.

وفي هذا روي عن الإمام علي رضي الله عنه قوله: "قَصَم ظهري رجلان: جاهل متنسِّك، وعالم متهتِّك. ذاك يغرُّهم بتنسُّكه، وهذا يضلهم بتهتكه!" ([9]).

 

 ويزداد خطر هذا الصنفِ إذا أصبحوا أبواقاً لأمراء السُّوء، وحُكّام الجور، يزينون لهم قبيحَ ما يصنعون، ويجرِّئونهم بفتاويهم على التمادي فيما هم فيه سائرون.

 

وهذا ما أفسد الأديان من قبل، وما شكى منه المخلصون المصلحون من بعد. يقول الإمام عبد الله المبارك:

 

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ         وأحبارُ سوء ورهبانها

لقد رتع القوم في جيفة             يبين لذي اللبِّ إنتانها

وفي حديث رواه أبو الدرداء مرفوعاً: "أنزل الله في بعض الكتب، أو أوحى إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقَّهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون للناس مسوك الكِباش (جلود الضأن)، وقلوبُهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر. إيَّاي يخادعون، وبي يستهزؤون: بي حلفتُ لأُتيحنَّ لهم فتنةً تذَرُ الحليمَ فيهم حيران([10]).

 

من كتاب : " الرسول والعلم" 

 

-------------

([1]) أقتابه: أمعاؤه. وتندلق: تخرج من مكانها.

([2]) متفق عليه: رواه البخاري في بدء الخلق (3267)، و مسلم في الزهد والرقائق (2989).

([3])رواه أحمد (12211) وقال مخرجوه: حديث صحيح، وابن أبي الدنيا في الصمت (45)، وابن حبان في الإسراء (53).

([4]) رواه أحمد (143)، وقال مخرِّجوه: إسناده قوي، والبزار (305)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 187): رواه البزار وأحمد وأبو يعلى، ورجاله موثقون.

([5]) رواه البزار (3514)، وابن حبان في العلم (80) وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري، والطبراني (18/237)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3514): ورواته محتج بهم في الصحيح.

([6]) رواه الطبراني في الصغير (1024)، ووالأوسط (7065) وقال المنذري في الترغيب والترهيب (221) : رواه الطبراني في الصغير والأوسط من رواية الحارث وهو الأعور وقد وثقه ابن حبان وغيره. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (884) : فيه الحارث الأعور ضعيف جدا.

 ولكن يشهد له الحديثان قبله.

([7]) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (1580)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (139) : وحسن إسناده. 

([8])رواه مسلم في الذكر والدعاء (2722)، والنسائي في الاستعاذة (5458).

([9]) الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصبهاني صـ 184.

([10]) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1139)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/342).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين