العمل الإسلامي، والبعد الجماهيري.

 

الجماهير هي الأصل في كل تركيب حياتي، ومنه تكون النخب، والأصل فيه، قول الله تعالى: ( ولقد كرّمنا بني آدم )   وهذا أمر بدهي، لا أظن أن يختلف حوله عاقلان، خاليان من العقد، أو الأمراض النفسية، أو أصحاب الاختلالات العقلية، من دعاة العنصرية والتمايز العرقي، أو طغيان الكبر، أو تقسيم الجماهير إلى در وبعر، أو سائر الدعوات التي تصب في هذا الباب، وهي عبارة عن دعوات لا إنسانية، في نهاية المطاف، وهي مرفوضة شرعاً وعقلاً وسياسة واجتماعاً.

وتبقى الجماهير هي الأصل، والتمايز إنما يكون بالعمل الصالح والتقوى، وبناء الحياة وصناعتها على أساس من منظمومة القيم الأخلاقية، التي يتجلى فيها المعنى الذي ذكرنا، والفرار من هذه الحقيقة، له تبعات كبيرة، وإسقاطات على الواقع خطيرة.

ولكن هناك خلاف، وتباين في وجهات النظر، في العمل السياسي، وربما عند بعض مجتهدي العمل الدعوي، يتمثل في ثلاثة اتجاهات:

الأول: يرى أن العمل الجماهيري، مضيعة للوقت، وغير منضبط لسعته، ومن ثم يكون غير مثمر، بل ربما كان سبباً في الفشل، بل الغالب عليه هو هذا، وفي النهاية فإن الجماهير ليس بيدها شيء، فهي مقودة، وليست قائدة، ويخرجون بالنتيجة القائلة : إن العمل الجماهيري العام، مضيعة للوقت، مبدد للجهد، مشتت للطاقة.

بينما المؤثرون في الحياة، هم خاصة الناس ( النخب )، من العلماء والمثقفين، والأدباء والمفكرين، والإعلاميين والباحثين، والفلاسفة والساسة، ورجال الأعمال، والوجهاء والقيادات المجتمعية، فلا بد من التركيز عليهم، فكل مشاريع النجاح مبناها على تأييد هؤلاء، ومرد قناعتهم هذه، إلى أن الناس تساس وتقاد من قبل مجموعة من أصحاب الوجاهة والتأثير، فإذا وصلت إلى هؤلاء، وصلت إلى الجماهير، من غير عناء، وبأقصر الطرق، فمثلاً بدلاً من اشتغالك المضني، في أوساط قبيلة على المستوى الشعبي، ابذل جهدك وركزه على شيوخها، فكسب الشيخ، كسب للعشيرة، من هنا يكون العمل نخبوياً، يقود الجماهير، بنظرية التبعية الواقعية.

هكذا يرون الأمر، علماً أن جزءاً كبيراً من الكلام صحيح، ولكنه لا يتعارض مع فكرة العمل الجماهيري، خصوصاً إذا تم الجمع بينهما.

الثاني : يرى أن الجماهير هم الحياة، وعلى أكتاف الجماهير، قامت مباني الدنيا، وتفاصيل شؤونها، ومفاصل نضالها، وهم وقود الثورات، ومحركو الشوارع ، وموجدوا اليقظات، وصانعوا الحراكات، والعمل الدعوي والسياسي، بدونهم يصبح، كمن يحرث في الماء، ويكتب في الهواء، وبقدر شعبيتك، تنجح في تحقيق مشروعك.

الثالث : تيار يجمع بين الاتجاهين السابقين، ويأخذ خلاصة فكرة الطرفين، فلا هو نخبوي محض ( ارستقراطية الفكر والمنهج والتغيير) ولا هو غارق في أحلام الجماهيريين الغارقة في التنظير، غير الواقعي، على قياس المدن الفاضلة، والرؤى المثالية.

ويلتخص منهج هذا الصنف، بما يعرف بتقسيم العمل إلى، عمل عام، دعوة عامة، أو ما يصطلح عليه ( بالتعريف )، وهي مرحلة لها برامجها، ومناهجها، وآليات عملها، وهذا يكون للجمهور العام من الناس، كل الناس لا يستثنى منهم أحد، ومن ثم يكون اختيار النخبة من بين الناس، ووسط الجماهير، وهي مرحلة ( التكوين ) التي من خلالها يكون انتقاء النخبة التي ستصل إلى الحلقة الثالثة من حلق تكامل النجاح، وهي ( العمل ) .

وهذه المدرسة من مدارس العمل الإسلامي، وفقه الدعوة، تجمع بين العمل النخبوي، والتواصل الجماهيري، لإنتاج العمل المثمر، الذي ستكون نتائجه مأمونة.

وهذا الاتجاه، يهتم بوسائل التواصل مع الجماهير وخدمتها، والتعاطي بإيجابية مع منظمات المجتمع الأهلية، التي تعتبر أهم ركيزة من ركائز العمل الجماهيري، من خلالها تبنى العلاقات مع الجماهير، وتوظف طاقاتها، وتحل مشكلاتها. 

فهي تؤمن بالعمل الجماهيري، وأنه ضرورة ملحة، وساحة العمل الأساسية التي لا يجوز إهمالها بحال من الأحوال، أو صورة من الصور، بل الغفلة عن الجماهير، وتركهم نهباً لشياطين السياسة، وتجار المواقف، أدى إلى كوارث ومصائب، وكانت الجماهير هي الضحية من أجل مصالح ثلة من الانتهازيين والوصوليين، لكن الاعتماد على العمل الجماهيري منفرداً، أو حصر العمل فيه، فلا يرون هذا، لأن العمل الجماهيري عمل تعبوي مكمل للعمل بل هو ساحته، فلا بد من مساند لهذا العمل حتى يقوى ويثبت، ويؤتي ثماره المرجوة.

كما أنهم يرون أن النخب أمرها مهم للغاية، وهم ركب الناس، كما يعبر بعض المثقفين عن هذه الحقيقة، وهم أكثر الناس تأثيراً بالجماهير، فالعناية بهم والتواصل معهم، والإفادة منهم، يجعلك تقترب من أحد أهم ركائز التوجيه الجماهيري، وتبدأ أهمية الجمهور من صوته بصندوق الاقتراع، مروراً بكل شعب العمل وتفاصيله..

لذا نلاحظ عناية الساسة وكثير من المنظمات بهذه الشريحة المهمة في المجتمعات والحياة، عناية فائقة .

والخلاصة: أن هذا الفريق يرى، أنه لا بد من صناعة نخبة، صالحة قوية، تتوافر فيها صفات الإيمان والقدوة والقدرة على القيادة والعمل، أو بمعنى آخر لا بد من وجود تجمع متناغم مع بعضه، ضمن رؤية عمل واضحة، ورسالة محددة المناهج والأركان، وأهداف عملية مرسومة بعلم صحيح، وفهم سليم، وهذا التجمع المصطفى بدقة، والمختار بعناية، والمدرب بكفاءة عالية، والمجهز بأحدث الوسائل للعمل، وعلى المستويات كافة، وبالمقادير التي نحتاجها، لكل مرحلة من المراحل، ل ذلك من خلال خطط عمل، ومتابعات في مقاييس النجاح.

هذا التجمع، هو من يتواصل مع النخب المجتمعية، ويفيد من طاقاتها، ويزيد من قدرته على العمل بالإضافات النوعية منهم، لهذا التجمع، ومن الخطأ اعتقاد أن كل النخب تصلح للعمل في التجمع، وفي كثير من الأحيان، تكون الإفادة من هذه النخب خارج التجمع لصالح أهداف ومشاريع التجمع، أكثر منها داخل التجمع، وهو نوع من التحرر من العمل الحزبي الضيق، في الاتجاه نحو النخب، والجماهير من حيث التأثير والعمل، وفي نهاية المطاف صاحب الهدف النبيل، هو من يرجو وقوع العمل، سواء كان بفعله أم بفعل غيره.

بعض العلماء الأفاضل المنعزلون عن العمل العام، ويقتصر جهدهم على التعليم والافتاء، فالاقتراب منهم بلغة الحب والمودة، والتعاون والتنسيق، يمكن أن يحدث أثراً كبيراً، في إطار الأهداف المرجوة التي نبحث عن حلول لها.

أذكر أنا كنا في بلد مسلم، وسمعنا بعالم كبير في البلد، فلما زرناه، وجدناه ثروة عظيمة للبلد، بل ثروة للمشروع الإسلامي، فكان تنبيه إخواننا العاملين هناك، أن اقتربوا من هذا العالم، ووظفوا طاقاته على المستويات المجتمعية، واصنعوا منه شخصية جماهيرية، وكونوا قريبين منه، فكان ذلك كذلك، وخلال عشر سنوات من برنامج عمل، حدث خير كبير، وكان هناك فضل كبير.

 ومن أساسيات مشروع العمل مع النخب لنجاحه، أن تضع بحسابك أمرين:

- عدم التفكير التضيق، وذلك بصرف الجهد والطاقة، من أجل ضم هذا الوجيه أو ذاك العالم، أو غيرهما لمجموعة العمل، إذ أن بعض الناس بحكم تربية مغلقة، لا يرى الخير إلا بصرف الجهد نحو ضم هذا أو ذاك لمجموعة العاملين، بل ضع في ذهنك بأن كثيراً من هؤلاء لا يصلحون للعمل من خلال مجموعة، وهذا ما أبرزته التجربة المجردة عن ضيق الأفق.

- بقدر ما تصل إلى النخب، من خلال سلم فرز، لطرائق الإفادة منهم، بكل شعب العمل، واكتساب ودهم وصداقتهم، أو على الأقل حياديتهم، بقدر ما توصف بالنجاح أو الفشل فالأمر حساس، وخطير جداً، ومن أكبر الفشل وأعظمه، حصول خصام بين مجموعة العاملين، وبين هذه النخب، مهما كانت  الذرائع، وتنوعت الأسباب، ولكل قاعدة استثناءاتها، لكن من حيث العموم هذا هو الأصل.

- والذي يظهر، أن اجتهاد المدرسة، التي تجمع، بين الجماهيرية والنخبوية، هي الأسلم، والأكثر انتاجاً، والأعمق تفكيراً، والأرسخ جذوراً، في مواجهة التحديات، لنجاح المشروع.............والله تعالى أعلم.

- وقبل أن أضع القلم، لابد من ذكر حقيقة، لا يجوز لنا تجاهلها لحظة من اللحظات، وهي أن الجماهير، ملَت الشعارات، وسئمت من الخطابات التي تمني وتعد، الجماهير بحاجة، إلى من يخدمها، وإلى من يقدم لها الحلول للمعضلات التي تعاني منها,........وهذه الحقيقة، تجعل أصحاب العمل الإسلامي، أما تحد كبير، ومسؤولية جسيمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين