شاهدته قبل أربعة أيام حين أرسل لي أحدهم مقطعا
يصور فجيعته بولديه، ومن تلك الساعة كلما خلوت بنفسي تراءى لي ذلك المشهد.
شاب في زَهْو شبابه ذهب لاستخراج شهادتَي ميلاد
لولديه بعد أربعة أيام من ميلادهما، فرجع ليجد الولدين وأمهما في ثلاجة الموتى، قد
طحنتهم آلة الموت الملعونة الغادرة.
لا تسل عن الحزن الذي ركِبه ولَاعه.
أيُّ بقاء للمرء بعد أهله وأولاده؟! وأي حياة وأي
عيش؟!
طاش عقل الشاب وراح يَهذي ويصرخ بكلام لا تسمع
منه إلا قوله (ولادي ولادي.. أمانة ولادي) مع نحيب تتقطع له نياط القلوب لو كانت
قلوب.
احتضنه من حوله وراحوا يواسونه بما يواسَى به أهل
الإيمان من الوعد بالجنة إن صبر واحتسب ما أصابه عند الله، لكنه كان غارقا في
أحزانه، ما أظنه سمع شيئا من كلامهم، فسقط مغشيا عليه من هول ما نزل به.
ينتظر المرء ولده ويشتاقُه "شوقَ الروض إلى
الغيث" حتى إذا أطلَّ واستهلَّ خطفته الكلاب من بين يديه، ومزقته ونههشته،
ومزقت معه قلوبا منهكة، توالت عليها الأحزان، وتناوشتها الآلام، فلا الحياة حياة،
ولا العيش عيش، ولا الموت موت.
أمَا والله لولا بقايا إيمانٍ وصبر وثبات في هذه
النفوس لتقطعت وذابت وتعجَّلت إلى النار.
هذا مشهد من مشاهد الحزن والقهر والألم في غزة،
وأنا أعلم يقينا ويعلم غيري أن قلوبا ونفوسا وبيوتا قد انطوت على أعظم من ذلك
وأفظع، وأن صاحبنا هذا في جنب غيره قد يكون في عافية.
والله لطيف بعباده، فلو وُكِل الناس إلى أنفسهم
لَغَشِيهم الجنون من هول ما يرون ويشاهدون، لكن الله هو الحافظ والمثبت والمعين،
وكفى به حافظا ومثبتا ومعينا.
وأستعير هنا كلمات قلتها في مقالة سابقة:
أيها المبتلى.. هذه هي الدنيا، لا تصفو لأحد، ولا
تستقر على حال، ولو صفَت لأحد لصفت لحبيب رب العالمين، وسيد الأولين والآخرين.
أيها المبتلى.. احتسب ما يصيبك عند الله، واصبر
على ما قُدِّر لك، واعلم أن القدر جار عليك شئت أم أبيت، سخِطت أم رضِيت، فوالله
لأن يجري عليك القضاء صابرا مطمئنا مأجورا خير لك من أن يجري عليك ساخطا مَوْزورا،
فاختر لنفسك.
أيها المبتلى.. الابتلاء تكفير لذنبك، أو رفعة
لدرجتك، أوهما معا، وهل يسعى العاقل في دنياه إلا لتحصيل ذلك، فاصبر لأمر ربك.
وإنه لَلَّذي قال نبيك عليه الصلاة والسلام: (مَا يُصِيبُ الـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ
هَمٍّ وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا
إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) [أخرجه الشيخان من حديث أبي
سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما].
أيها المكروب.. أحسن ظنك بربك، فإن حسن الظن
بالله وترقبَ الفرج عبادة من أجل العبادات، والله عند حسن ظن عبده به، كما جاء عن
نبينا صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا قال: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي) [أخرجه
الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
أيها المحزون.. إن الفرجَ أرجى ما يكون عند تعاظم
الكرب. والحبلُ إذا اشتد انقطع، والظلامُ إذا امتد انقشع، سنةَ الله، ولن تجد لسنة
الله تبديلا.
وقد وعد الله -ولا يخلف الله وعده- أن بعد الشدة
رخاء، وبعد الهم فرجا، وبعد الضيق مخرجا، وبعد العسر يسرا، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:
7].
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول